قراءات نقدية

انطباعية البناء السردي في رواية: فندق كويستيان

الواقعية الانطباعية هي مدرسة فنية ظهرت في ارويا قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان، بعد انزواء الحركة الرومانسية الفنية، لتكون محطتها الأولى الفن التشكيلي بكافة فروعه، ومن ثم زحفت إلى جميع الفنون الأخرى ومنها السرد.. ويمكن تعريف الواقعية الانطباعية، بأنها اتجاه يعني بنقل الواقع بكل تفاصيله الجزئية والدقيقة، حتى حركات الشخوص داخل النص، وتجعل القارئ في حالة من التعايش مع الاحداث بواقعية هي اقرب للحقيقة.. ويمكن اعتبار رواية ( فندق كويستيان) للروائي خضير فليح الزيدي، والصادرة سنة 2014 عن دار الحريري بيروت، ضمن هذا السياق السردي .. حيث نجد حضور التفاصيل الدقيقة وانزياحاتها داخل متن الرواية (الأمكنة، الأسماء، المهن وتفاصيلها، الوصف الدقيق، الإسهاب في سرد الأحداث) مما اكسب النص واقعية مفرطة، جعلت منه وثيقة تاريخية شاهدة على حجم الدمار الذي حصل في العراق إبان الحرب الطائفية بين عامي (2006-2007) التي أطاحت بالسلم الأهلي العراقي الممتد لقرون طويلة، وأحدثت شرخا اجتماعيا ما زالت أثاره ماثله لغاية الآن، وعالقة في الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي.

تبدأ الرواية بخطوة جريئة وخطيرة لكنها مبررة للمغترب العراقي في ألمانيا ( ناصر الكردي)، حين يقرر العودة إلى العراق أثناء الحرب الطائفية عام 2007، بعدما غادره هاربا من الخدمة العسكرية، ومن مشاهد الجثث المكدسة، ورائحة التفاح المتعفن التي تصدر عنها، كما عبر عنها، في مركز تسليم جثث القتلى في البصرة الذي كان يخدم فيه، إبان الحرب العراقية الايرانية .. هذا المدخل الكبير والواضح المعالم للرواية،  شكل عتبة سردية استشرافية للقارئ، قد تمكنه من معرفة ما سيحدث للبطل في رحلته الخطيرة إلى وطنه الأم، وهو يبحث عن حبيبته المفترضة (رباب)، ومخطوطته التي فقدت من جراء الانفجار الإرهابي الكبير الذي طال شارع المتنبي في تلك الفترة، استخدم الروائي أسلوب ألراو الضمني (السارد الداخلي)، وتقنية تعدد الأصوات داخل النص، فقد تناوب على سرد الأحداث شخصيتين رئيسيتين موازيتين للأحداث، هما ( ناصر الكردي) وصديقه البطل الظل (علي عبد الهادي) فنقلا أجواء الرواية وأحداثها برؤية ناضجة، تنم عن وعي وثقافة عاليين، بعد ان مهد لهما الروائي هذا الامر، بجعلهما شخصيتين مثقفتين، ناصر الكردي كان كاتبا، وصديقه علي عبد الهادي يساريا قديما، ليحافظ النص على سياقه ونمطيته دون إحداث إرباك أو تذبذب في الأسلوب أو لغة السرد، مستخدما لغة سهلة مطواعة، لكنها مشبعة بالألفاظ التي هي عبارة عن خليط متجانس بين اللهجة العامية والفصحى، تحمل دوال وصفية دقيقة التفاصيل، مثل حديث سائق الريم حمدان مع ناصر الكردي.. (كنت ارتعش مثل كلب الدشبول هذا) .. إضافة إلى انتهاجه تكرار العبارات والمفردات في أكثر من موضع داخل النص، وعلى السنة عدة أشخاص .. ولا نعلم هل هو خطا وقع فيه الروائي، أم انه  أسلوبا حداثويا وتقنية لجا اليها خضير فليح لإحداث نوع من التناص الفكري واللغوي، بين أبطاله، يشير من خلاله إلى نمطية حياتية إلفها العراقيون نتيجة الكم الهائل من الماسي التي عاشوها في ظل الحروب والأزمات، كعبارة (  حضن الجمرة) التي تكررت على لسان ناصر الكردي ونزيل غرفة (305) في فندق كويستيان، وعبارة (  رائحة التفاح المتعفن) التي كررها ناصر الكردي وصديقه علي عبد الهادي، وتشبيه بغداد بثور حلبة المصارعة الجريح .. إضافة إلى وجود حالة من الاستغراق في الوصف وتكراره في أكثر من موضع داخل النص، مستخدما مفردات مختلفة في كل مرة، مثل وصفه لمشهد حافة الهور وهو ينظر إليه من نافذة الباص (الريم) على اطراف البصرة، وتكرار وصفه لنزيل فندق كويستيان الكثير السعال، والإسهاب في تدوير الذاكرة الشخصية لناصر الكردي واستخدام تقنية الارتداد، واستذكاره ووصفه لمركز تسليم القتلى إبان خدمته العسكرية في الحرب العراقية الإيرانية، ويستمر التكرار في سرد الأحداث والوصف، وذكر السير الذاتية لبعض أبطال الرواية طيلة سياق السرد، ويبدو إن الروائي كان يبتغي من وراء ذلك التأكيد على فكرته، وإبراز العناصر الحيوية والفعالة منها، إلا إن هذا التكرار لم يربك النص ولم يؤثر على بنائه الهرمي سلبا بصورة كبيرة او ملحوظة، لان النص حافظ على حيويته حتى الخاتمة، من خلال معالجات سردية، تمثلت بزج عدة شخصيات ثانوية في سياقه، شكلت جزء مهم من انطباعية البناء السردي للرواية، مثل (قصة حمدان سائق الريم ومساعدة علاوي، قصة همام المراسل، قصة نزيل فندق كويستيان، قصة محمد عساف، قصة كريم حنش، قصة عباس زروقة).. وغيرهم الكثير الذين شكلت قصصهم رافدا ماديا وحسيا لإيضاح الثيمة الرئيسة التي كتب من اجلها النص .. إضافة وجود الميتاسرد داخل متن النص كقصة ضمنية عبر رواية كتبها ناصر الكردي أثناء خدمته العسكرية والتي اسماها (  حديث الريم) وتحكي قصته مع امراءة أحبها من طرف واحد  اسمها رباب، شاركته مقعده في باص الريم أثناء بحثها عن زوجها المفقود في الحرب العراقية الإيرانية.

تستمر رحلة ناصر الكردي في بغداد بعد عودته من المانيا، منطلقا من فندق كويستيان في منطقة البتاويين، الذي حل نزيلا فيه،  فيجد مخطوطة روايته ويودعها عند كريم حنش لمراجعتها وطباعتها، بينما يستمر هو ببحثه عن حبيبته المفترضة رباب، ليقوده بحثه المضني هذا إلى مقتله على أيدي الجماعات المسلحة بالقرب من منزلها، قبل ان يتم لقائه معها.. وهنا أود الإشارة إلى ابرز محطات رواية كويسيان لخضير فليح الزيدي:

1- رواية (حديث الريم) ميتا سرد شكلت رافد مهم للمتن الأصلي للنص، غني بالدوال الفكرية والنفسية، وشهادة تاريخية لمرحلة الحرب العراقية الإيرانية.. اضافة الى وجود الوثائق والخرائط داخل متن النص.

2- الاستلاب والغربة التي عاشها العراقيون خارج الوطن.. حيث شكلت عودة ناصر الكردي حالة من الانجذاب الفطري اللاإرادي لنشأة الطفولة الأولى للحظة البدء، بغض النظر عن ماهيتها ووطأتها عليه..( تقلني الطائرة سابحة في السماء لتعيدني نحو البقعة الأولى، يقودني جنوني إلى مسقط الرأس).

3- الحزن المستوطن في قرارة أنفس العراقيين، انعكس على سلوكهم وتعاطيهم مع الحياة، لذا نجد بطل الرواية مصاب بالكآبة الحادة، نقل على إثرها  من ورشة تصنيع الكراسي المرحة إلى ورشة صناعة التوابيت .. (انت لا تملك روح الفكاهة، تصاميمك كلها تحمل روح الكآبة).. هذا الحزن اجبره على بث الحياة والأمل في ذاكرته، واستحضاره لقصة حب وهمية عاشها من جانب واحد قبل عشرون عام، ومخطوطة كتبها في غفلة من الزمن، ليجعلهما عكازه الذي يستند عليه في قراره العودة الى الوطن مرة أخرى.. فتحولت رباب إلى ضوء مصباح في عتمة غربته القسرية، تهاوت على مشارفه أجنحته واحترقت، لتخلف ورائها حلما كاد أن يتحقق على ارض تموت الأحلام فيها قبل ان تولد.

4- تصارع إرادتي الحياة والموت في العراق .. أشار الكاتب إلى هذه الجزئية، حين انشأ ناصر الكردي حديقة جميلة للأزهار في مركز تسليم جثث قتلى الحرب، تسقى بمياه خلطت مع رشح الجثث المكدسة في برادات الموتى.

5- الإشارة إلى طغيان النزعة الدينية الزائفة عند بعض العراقيين بعد عام 2003 لتحقيق مكاسب شخصية.. مثل علاوي السكن الذي تحول إلى زعيم ديني مرموق، وحمدان السائق الذي أصبح إمام جامع.

6- خلق مقاربات بيئية وتاريخية واجتماعية، بين حرب ألثمان سنوات وما يجرى في العراق بعد 2003.

7-  تحويل فتدق كويستيان الى عراق مصغر، ومرآة عاكسة للواقع العراقي المأساوي في ظل فوضى التغيير.

 

احمد عواد الخزاعي

 

 

في المثقف اليوم