قراءات نقدية

عطران من فتنة الوفاء

للشعر والأنثى عطران يوضبان الإنسانية للحضارة المتسامحة، وكلاهما يتوزعان (خارطة الأثر) للشاعرة زينب خالد الفيلي .

لنتأكد من ذلك عبر آصرة التعميم والتنغيم في مجموعتيها (ما وراء القصيدة، و ما لم تقله المآذن).

شعرية التعميم والتنغيم شعرية

في التجارب الأُوَلِ للشعر الشبابي نادراً ما يتخلص الشعر من ظواهر (الذاتية المفرطة، التنغيم المسجع، التعميم المتنامي، إيقاعات التناص) . ومن المؤكد أنها أطراف أربعة تحتل أهمية خاصة في قصيدة النثر الحديثة، تحتاط للتقليدية بانماء الشعرية المجدِدة لنشاطي الذاتية والفطرية، على أنهما محفزتان للفعل الشعري ليصير ـ بالدربة المستمرة والتثقف الجاد ـ فاعلاً وجديداً وممتعاً .

لقد تضمنت مجموعتا الشاعرة إتجاهات لعروض مفتوحة على مستقبل التطور في الإجادة وتهذيب اللغة والموهبة .

أولاً: الذاتية المؤنثنة

قد تختلف الشاعرة قليلاً عن مثيلاتها من جانب الوعي بأهمية ووظيفة الشعر، إذ أنها تحول قضية الأنثى الى قضية تصيير للهم الإنساني الكبير الذي يخص قيمة ومعنى كرامة البشر، كأفراد ذوي كيانات مستقلة لها ما يرضيها ويسعدها، أو العكس ..

النص الآتي يحتفي بتلك المضامين فضلاً عن أشياء أُخر تعدُّ من فاتحات الأشياء من محبوسها السري الى مشروعيتها بالإعلان عن نفسها:

[هذبتها .. صقلتها

تلك القبلة

فأضفت سحراً الى عنقي

وبريق أحلام مُزِجَ ظمأً

فأوجدت منها إلاهاً أعبده ...

أُناجيه ..

رغماً عن صمت

يتسلق أكتاف رغبتي

حقاً ..

فهذه أنا

أنتحل شخصية عاشقة

نسجت بأهدابها جداول نهر من سعادة

يختبئ بين هلالين تيمماً بالضحى ] (1)

 

ما الذي بثته القصيدة المعنونة (شفاه على كرسي الاعتراف) بمقطعها المنصصة أعلاه ؟ لنضع صلةً بين المتن والعنوان لأجل أن نقول:

1 ـ كرسي الاعتراف هيأة بقوائم ثلاثة موجودة والقائم الرابع مخمّن.

أن قوائم الكرسي هي الشفة السفلى، والشفة العليا، واللسان ... أما القائم الرابع المُخمَّن فهو (القُبلة) .

2 ـ قبلة الاعتراف تم صقلها وتهذيبها لتتلاءم مع العنق، موضع العناق والشم والشموخ !!

3 ـ السحر يخترق الموجود ليتصل بالغائب، أي القبلة المتخيلة المسبِبَة للحلم بغير الموجود من السعادة والجمال واللذة .

4 ـ الحلم المكون من مزيج الظمأ والبريق يتقدس ـ بعُرْف الشاعرة ـ وتصير له مراسيمه وطقوسه العبادية التي تمنحه سر الخلق الجمالي الفني .

5 ـ طقوس عبادة الحلم المقدس تتصف باحتفائها بالآتي:

(المناجاة، الصمت، كتف الرغبة، تمنع العشق، هُدب السعادة، تيمم الصلاة، هلالا الفجر والغروب) . * تلك المثولات مبثوثات لبوح شبه فطري يخص كل نفس عاقلة، لذا فالنص ليس ذاتياً تماماً، إنما يخص كل فرد في كل زمان ومكان .

بهذا الفهم يتأكد لدينا بأن الذاتية هي (شعرية بوح) كونها تعبيراً عن حلم كل فتاة وفتى، بالسعادة المسندة إلى كتف (الضفاف الحبيبة) لينساب مياه التوهج الشبابي فيسيل في الجداول من فجر(منبع) الحياة ـ المياه، حتى غروب (مصب) الحياة كمياه للخير والرقة والحنو، تعلنها الشاعرة نيابة عن جيلها ! * في النص توزيعات جملية تتفاوت معها مضامين شبه حكائية، فلو تصورنا وجود حركة في التصاعد القولي للنص لتوضح لنا وجود حكاية تندرج على التصور الآتي:

(كرسي متخيل على هيأة فتى وفتاة عاشقين بينهما يفصل صمت يحمل حلماً بالسعادة .. يتمدد الكرسي ليصير أربع شفاه ولسانين تكتمل أركانها بقائم جديد يأتي إليها من المجهول عجولاً خائفاً عطشاً، فيهفو إلى الشفاه بقبلة ..

تنهض القبلة، دونما ارتواء، من معبدها (الرغبة) فتحفر نهراً من مياه الأماني يسير عبره الماء من منبعه (الفجر) حتى منتهاه (الغروب). لكن رقيباً أزلياً يهدد بتهديم كل جلال ولذة، يبغي تهديم كل شيء، فيقدَّم العاشقان نذور الاعتراف له لئلا يشطب العناق من تهمة الأحبة، الرقيب يظل مستمكناً بالذوات لأن الوطن ليس آمناً!

ثانياً: التنغيم السجعي

السجع المنغَّم يكاد ان يصير بديلاً معقولاً عن ثلاث نزعات جمالية (للشعرية) في عموم قصيدة النثر، إذ هو لدى الشاعرة زينب (مثلاً)، معوّضاً عن (التفعيلة، الايقاع، القافية) .

قد يعود السبب الى عدم اتقان الشاعرات والشعراء لتلك القضايا الفنية مما يجعلهم يميلون الى الموسقة الفطرية، التي أسهلها وأقربها الى الذائقة المقبولة هو السجع .

السجع لن يكون بديلاً شعرياً، بأية حالة، عن القافية كونه لوناً جمالياً للنثر . لكن، بما أن القصائد هي قصائد نثرية فربما هذا يشفع لهن .

ما في قصائد (زينب) تجربة تبشر بتطور قدرات الموهبة وتنامي في المعرفة اللغوية، وهما عاملان أساسيان سيقوِّمان عملَ الشاعرة ويبعدانها عن السجع غير المناسب فنياً للمرحلة الحالية للنظم الشعري فالموضوعة الشعرية هي تجربة لغوية ستتحسن بتحسن ثقافة وموهبة الشاعرة عبر تواصل الجهد لصنع البصمة الخاصة (موهبة، بلاغة ثقافة) بالسجع أو بغيره . لنتجه نحو الفعل التطبيقي في شعرها:

[ثارت قهوتي ضدي

أغرقني جزرها

فقدت هويتي، مدينتي

كوني عاشقة، حالمة، ثائرة

فرافقت مدى أفكاري

سبل شيطان .

ـ ما وراء القصيدة، ص53، ص54ُ] يعتمد سجع القصيدة على حرفين هما الياء والتاء، إذ أن الكلمات الآتية كلها ذوات حرف ياء في سجعها:

(قهوتي، ضدي، أغرقني، هويتي، مدينتي، كوني، أفكاري ) ..

واختط السجع لنفسه حرف التاء المدورة المتصلة في الكلمات الآتية:

(عاشقة، حالمة، ثائرة) .

ننوّه الى أن مهاوي الاستثمار الشعري لظاهرة السجع في قصيدة النثر عديدة منها:

1 ـ ابقاء الشاعر غير قادر على التعويض بحرف روي مكمل لموسيقية القصيدة .

2 ـ عدم تلاؤم الكلمة المسجوعة مع ما يُراد من معنى (مُعلناً كان أو مُبَطَّناً) .

3 ـ وقد يصير السجع مقاماً للصدى الصوتي الصارخ المشابه لما في القصيدة العمودية مما يفقد القصيدة حيويتها الحداثية .

4 ـ في بعض الأحيان يلجأ الشاعر، بقصد أو دون قصد، الى تكرار قضايا تقليدية يجعل القصيدة قاصرة عن التعبير عن الاشكالات اليومية والكونية، لأن السجع يضعف قدرة اللغة على احتواء هذه القضايا .

5 ـ ان ضعف إداء السجع (لغوياُ) لازم جميع مراحل تاريخ كتابة الشعر أو انشاده .

نرى أن الشاعرة زينب خالد الفيلي قد وضعت قصائدها في حرج (قلة كفاءة إداء الانتاج الشعري) لقدر لا يستهان به من شعرها في مجموعتها (ما وراء القصيدة) بسبب عدم تفريقها بين السجع والقافية.

ثالثاً: التعميم المتنامي

بنظرة شاملة، حتى لو كانت سريعة، لمجموعة (ما لم تقله المآذن)

للشاعرة زينب خالد الفيلي سنواجه ظاهرة التعميم كعامل منظم

لشعرية القصائد . سنجده يأخذ المديات الاتجاهية الآتية:

- تنميط قضية الولاء السياسي:

[سأُقسم بالأرض

بشفتيك

بشعب أصم

يقتفي آثار العبودية

وبقلة حيلة يستجدي معجزة ] (2) .

هذا هو النمط الأول من متجهات التعميم، فيه شعارية مقاربة

للبوسترات السياسية، علماً أن الشاعرة تحتج على السياسة في

المقطع اعلاه . يمكننا تسمية هذا النمط بـ (التعميم الشعري الصحافي).

- والتعميم يأخذ نمطاً آخر يخص آلية النظم الكتابية، إذ ينمّي النظرة

السائدة للمثقفين عن ذواتهم الكتابية . لننظر الآتي:

[قد أجثو عند سطر

يحاول اعتقال الفكرة

أو .. أُفتش في الذات

بحثاً عن اللاشيء

وأُدون ملاحظة مغزى

أو أو أو

لكن دون جدوى

فسحقاً لقافية

لم تبرر فشلها

في سرد القضية.

ـ ما لم تقله المآذن ص43، ص44] المقطع أعلاه يقوم بتعميم (عموميات النرجسية الادبية)، وفيه نرجسية، لولا المناورات اللغوية العديدة، لصارت مقاطع في قصيدة دونما غاية فنية او ثيمية . التعميم هذا يعلو مرتبة على التعميم السابق كونه ارتقى بخطوات للخروج من المرحلة التقليدية نحو المرحلة الحداثية المرجوة، ولو أنه ليس من سيحقق الشعرية المقنعة تماماً بجماليتها . يمكن تسميته بـ (نمط تعميم النرجسية الابداعية) .

- في نمو ثالث للتعميم يكون للقصائد تعميم يصاحب فكرة أن تكون قضية النثر رديفة لقضية الوطن، ولقضية المواطن الفرد .

هذا التعميم ايجابي تطرحه عبر المقطع الآتي دون أن تخرج تماماً من منطق نرجسية المثقفين:

يمكننا أن نسميَه بـ: تعميم النضج الادبي مثلما هو في المقطع الآتي:

[أسماء كثيرة ..

الوطن ..

البلد

الأرض

مسقط الرأس ..

لكن لم يذكروا (الأسر)

خلف قضبان القصيدة .

ـ ما لم تقله المآذن،ص47، 48] + سنضع نموذجاً آخر للتعميم المتنامي عبر ما ينص عليه المقطع الآتي:

[إقتربْ ..

تمعن بملامحي جيداً

ستجد حلماً منحوراً على ضفة الجبين

وقوافل من نساء

يمارسن الأرق

وبساتين مزرقة .

ما لم تقله المآذن، ص89] هنا تحقق الشاعرة نجاحاً مهماً واستشرافاً مناسباً نبوئياً للتعميم الايجابي، يوَحِّدُ القضية الاجتماعية للولاء الوطني، مع عاطفة الانتماء الشخصية .

هذه محاولة جادّة تناسب أن نسمي تعميمها بـ التعميم التام النمو .

رابعاً: إيقاعات التناص

تتخصص هذه الايقاعات بقيم الارتقاء التحضري للمواطنة الحقة عبر تنويعات تناصية تخلط الزمن والحالات لتقيم العلاقات الانسانية السليمة، ولقد توسلت الإيقاعات التناصية بالتناصات الدلالية الآتية:

 1 ـ تناص الموروث الديني

دلالته المقطع الآتي:

[ذات شرق

سمعتُ المآذن

تؤذن حي على الرحيل

فالشعب والشمس

والشِعب سحقتهم ضروس الشغب .

ـ ما لم تقله المآذن، ص96]

ب ـ تناص التحقير

ويأخذ من تراث ووحشية الكلب مبرره القيمي:

[ ونزولاً عند رغية كلب

... لنتخيل ...

لو كنتُ شيخاً عربياُ

لرسمتُ نجمة داوود

عند زاوية ضمير أعزل

يستلذ بنكهة ذل.

ـ ما لم تقله المآذن، ص97 ]

ج ـ تناص قدرية الأُمومة

يتمثل في الآتي:

[يحط على الأوراق

ليقبل كفها

فيقف لحظة حداد

عند جبينها

ما يلبث حتى يصيح، فينكسر

أُمي تعجن حزنها أرغفة لتطعمنا ضرورة القدر .

ـ ما لن تقله المآذن، ص112]

د ـ تناص قهرية وزيف أدب الحرب

يمثل نموذجه المقطع الآتي:

.. [.. مسرح الظن ...

يدهش عزلة القلب

الكل يصمت ..

الوقت

الجندي

المطر

حينما أسكب الضمائر في كأس الزمن

فثمة شاعر مرتزق ..

استأجر مقبرة .

ـ ما لم تقله المقابر، ص132]

 

اسماعيل ابراهيم عبد

 

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم