قراءات نقدية

بثينة الناصري في قصص "كتابِ المغامرات" مغامرةُ الحياةِ والكتابة المرأةُ نموذجاً

amjad mohamadsaeedإستفادة: يبدو فن السرد القصصي في مشهده الحالي شديد التنوع، ويشهد الكثير من الآراء والمقترحات ووجهات النظر وفقا لتطور المشهد الثقافي العام، قبل أيام وأنا أهم بكتابة هذا المقال عن القاصة والكاتبة العراقية بثينة الناصري، أعجبتني أسطر نقدية للناقد والكاتب العراقي (سعد محمد رحيم) قرأتها على الفيس بوك، ووجدت أنه يعبر بشجاعة عن رأيه الخاص بفن القصة القصيرة، يقول:

(لكل جنس أدبي وعوده، ووعود القصة القصيرة، باعتقادي، هي الأكثر رقياً وأرستقراطية.. هنا أتكلم عن الجمال، عن صناعة الدهشة. فكاتب القصة القصيرة هو الصانع.. إنه المعني أكثر من أي مشتغل في الفنون الأدبية الأخرى بالدقة، والخفة، والإنسجام، والتماسك، أي بتلك الفسيفساء من القيم الجمالية العالية كلها. لا لأن هذا الكاتب / الصانع عليه أن يقتنص العالم في لحظة خاطفة ويعيد تشكيله وحسب، بل عليه أيضاً أن يكون حاذقاً في صياغة نصِّه، دقيقاً، صبوراً، يفصح عن مهارة لا تُكتسب بيسر) .

كتاب المغامرات:

تحت عنوان (كتاب المغامرات) وبجزأين أنيقين من الحجم المتوسط، صدرت في القاهرة عام 2016 المجموعة الكاملة لقصص القاصة والمترجمة والباحثة العراقية بثينة الناصري عن دار (كتبخانه للنشر والطباعة والتوزيع)، المجلد الأول يحتوي على مجموعاتها الثلاث (حدوة حصان، موت إله البحر، وطن آخر) وهي تمثل الفترة من 1974 – 1994، والمجلد الثاني يضم المجموعتين (الطريق إلى بغداد – يوميات الكوفي شوب) وتمثل الفترة من 1994 -2015 . يضم كتاب المغامرات أكثر من سبعين قصة مختلفة الموضوعات والأحجام والأساليب .

وقد اختير للغلافين الأول والأخير مساحات شبه مجردة ومشهدا طفوليا عاما، يمثل صورة تخطيطية لطفلة مرسومة بأسلوب كاريكاتيري يشبه رسوم الأطفال، وهي رافعة ساعديها بسعادة، وكأنها ترقص أو تهتف أو تصرخ أو ربما تبعثر بعض الأوراق المكتوبة، مع بعض رموز بسيطة تعطي دلالات معينة، هنا وهناك، على سطح حليبي اللون مرة، ومرة على سطح شذري اللون .

وتضمن الغلاف الأخير الجمل التالية التي أرادتها المؤلفة كتعريف عام لتجربة الكاتبة والكتابة:

(كتاب المغامرات:

 إذا سئلت لماذا أكتب، أقول: أكتب لأخلق عوالم جديدة فيها كائنات أتحكم في مصائرها وأحدد مساراتها، ولكن أحيانا تفلت مني فتكتب هي نهاياتها . فالكتابة مغامرة، والحياة مغامرة، والموت مغامرة، وهذا كتاب المغامرات) .

إشكالية العنوان:

لعل عالم القصة القصيرة العصي على التقنين، هو الذي دفع القاصة بثينة الناصري لِأن تختار عنوانا لمجاميع قصصها الخمس الكاملة المنشورة، هو (كتاب المغامرات – القصص الكاملة) وأن تتحاشى ذكر كلمة (القصيرة) التي لم ألحظ وجودها أبدا في كل الكتاب، بجزأيه . وهذا الإبتعاد المقصود حتما عن الإشارة إلى كلمة (القصيرة) هو ساتر صد احترازي لأي نقد قد يوجه إلى ما تضمنه الكتاب من قصص، من حيث بنية التعريف، ومن حيث كونها تتراوح ما بين القصة القصيرة جدا، وما بين القصة الاعتيادية، والقصة الطويلة نسبيا، وما بينهما من قصص تقترب من هذا، ومن ذاك، ناهيك عن محاولات الكاتبة التجريبية في أن تكتب وفق أساليب سرد قصصي مفتوحة على صياغات مبتكرة وجديدة، تأتي لتوسع من مدارات تعريف القصة القصيرة التقليدية، دون الإلتفات إلى الحواجز والموانع المفروضة التي قد يضعها البعض لتحجيم حرية الكاتب في الإنطلاق بها إلى مداها الأقصى .

تقول الكاتبة في مقال لها بجريدة الأهرام مشيرة إلى بعض تقنياتها القصصية:

(اللمحات التي لا تثير في أحيان كثيرة اهتمام الناس المنغمسين في معارك الحياة، هي ما أستهلم منها كتاباتي. أنقل لكم فيها ما غفلت عنه حواس البعض لشدة انهماكهم بأحوالهم الخاصة. وأعتقد أن هذه هي وظيفة خالق القصة، أن يبدع قصة حين تنتهي من قراءتها، تدفعك للتفكير بطريقة مختلفة، أو في أشياء لم تخطر على بالك، وربما تقول في نفسك » كيف فاتتني هذه الفكرة؟« مع أنها بسيطة وفي متناول اليد؟ أو تساعدكم القصة على تغيير مساراتكم في الحياة أو فهم أنفسكم أكثر، وبالتالي تحقيق ما كنتم تريدون فعله ولا تعرفون كيف. القصة ينبغي أن تفتح لكم أبوابا جديدة للمغامرة، والمغامرة في رأيي هي (التفكير في غير المألوف والمتعارف عليه) وهو ما أعنيه في الكلمة التي كتبتها على ظهر (كتاب المغامرات) .

ومعنى المغامرة التي تعنيها الكاتبة، كما تقول هو (التفكير في غير المألوف والمتعارف عليه) وقد أضيف أنا، أنها أيضا: تلك الأحداث التي لا تنبني على منطق سردي معروف ومقنن تقنينا دقيقا، أو هي تلك النتائج التي ليست ناتجة بالضرورة عن مقدمات تفضي إلى مثل هذه النتائج المتوقعة، لذلك نتوقع أن نجد قصصا تخالف المنطق السردي التقليدي، ونصادف قصصا تتمرد على السياقات المعروفة للسرد . لا يوجد هنا شيء صحيح أو شيء خطأ، إن كل شيء ممكن وفق منطق المغامرة الذي تنادي به الكاتبة، ووفق منطق الإبداع الذي لا نهاية لأشكاله وصوره .

والحقيقة أنني لست بعيدا عما تكتبه الناصري، سواء في القصة القصيرة، أو غيرها، أو ما تترجمه من اللغة الإنجليزية، وأعرف طبيعة اهتماماتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والوطنية . وأنا أوافقها في بعض آرائها، أما تعليقاتها حول القصص والتي أوردت فيها ما يمكن أن يكتشفه القارئ بنفسه، فهي إضافة مفيدة لفهم بعض شئون الوهج الإبداعي لدى  الكاتبة، إن الذي يعنينا ونحن نقرأ قصص بثينة الناصري (وغيرها من الكتاب) مدى استجاباتنا الشخصية لجمال القصة من حيث الفكرة والموضوع والأسلوب واللغة وطبيعة الحدث المسرود وغير ذلك من مقومات العمل الأدبي.

وفي سياق قراءتي لكتاب المغامرات سأركز على بعض القصص التي أجد فيها ما ينسجم ورؤيتي الأدبية والفنية والإبداعية التي تجعل من الفن والمتعة والجمال، سابقا على أي شيء آخر،

لا شك أن قراءة قصص خمس مجموعات قصصية قراءة نقدية يتطلب جهدا كبيرا، ووقتا طويلا، ويعطي المتلقي الكثير من التفاصيل المختلفة، ولذلك سأحاول في هذه الدراسة أن أختار بعض القصص للإشارة إليها، والتعليق على بعض ما أراه فيها من جوانب إبداعية، بحيث تمثل كل قصة نموذجا مختلفا عن الآخر، وسأدع نفسي دون وازع نقدي جامد أو مقنن بتعاليم غير مقدسة، تستجيب لمصادر الإبداع والجمال الفني، وللقيم الإنسانية التي طالما أكدت عليها الكاتبة في الكثير من نشاطاتها الإبداعية والعملية، وللهموم الإنسانية التي تركز عليها القاصة . ولذلك ستكون قراءتي لقصص (كتاب المغامرات) مستجيبة لمقولة الكاتبة (إن الكتابة مغامرة، والحياة مغامرة .. والموت مغامرة) .

عوالم القصة:

تهتم بثينة الناصري في قصصها بقضية الإنسان وحريته، وسعادته، منطلقة (حسب تصوري) من جذور تنتمي إلى مدرسة الواقعية الأشتراكية، التي كانت معروفة بنضالها من أجل تحرير الشعوب وتقدمها وبناء مجتمعاتها بناء إشتراكيا عادلا، يجتث الفقر والمرض وينشر العدالة والمساواة بين البشر، وبوقوفها ضد الإستعمار والرأسمالية الغربية والأمريكية التي تسعى إلى إذلال الشعوب وخاصة شعوب العالم الثالث .

كما اهتمت الكاتبة في قصصها بعالم المقاومة العربية والفلسطينية والنضال ضد الكيان الصهيوني، وضد كل أشكال الإضطهاد التي تتعرض لها المجتمعات العربية .

وأعطت الكاتبة اهتماما بالغا لمسألة الفرد وما يتعرض له من مشكلات إنسانية ووجودية شديدة التاثير على كيانه الروحي والفكري والنفسي .

ولا شك أن عالم المرأة عموما قد استحوذ على الكثير من قصص كتاب المغامرات، المرأة بشكل عام مع التركيز على هموم ومعاناة المرأة العراقية والعربية، إضافة إلى البعد الإنساني في هذه المعاناة التي تتساوى أبعادها لدى أي امرأة في العالم .

وتضمنت القصص أشكالا سردية ذات زوايا فنية متنوعة بحيث أصبح لدينا العديد من القصص ذات تكنيك مختلف وسوف نشير إلى ذلك في سياق الدراسة .

عالم المرأة:

وسيكون عالم المرأة في اعتقادي المشهد الأفضل لدراسة قصص بثينة الناصري، من خلال دراسة تأثير فعالية كون الكاتبة (إمرأة) وأنها مهتمة اهتماما طبيعيا وإبداعيا بقضايا الإنسان ومنها قطاع المرأة العريض، ومن خلال دراسة شخصية (المرأة) ومشاغلها، وكيفية ظهورها في السرد القصصي العام للكاتبة، وذلك لتحقيق المقاربة بين عالم الحياة الحقيقي الذي تعتبره الكاتبة مغامرة، وعالم القصص الإفتراضي الذي تعيشه المرأة كمغامرة خيالية مصنوعة ومنعكسة من المجتمع الذي تصورة القصص ذاتها . ومن أجل ذلك كانت دراستي تحمل عنوان (بثينة الناصري في قصص (كتابِ المغامرات) - مغامرةُ الحياةِ والكتابة - المرأةُ نموذجاً) .

وسأتناول مجموعة من القصص التي تمثل كل منها نموذجا مختلفا عن بقية القصص، وأرى ما هي طبيعة المشهد الإنساني والحياتي الدرامي الذي ظهرت فيه المرأة، وما هي الموضوعات التي عالجتها الكاتبة في المشهد النسوي هذا، وماهي المقاربات ما بين الكاتبة وبين بطلات قصصها، إن وجدت، وما هي الأساليب الفنية السردية التي اتبعتها الكاتبة في سردها القصصي .

ولكن ذلك في كل الأحوال، لن يعطي الصورة الكاملة للمشهد القصصي النسوي عند بثينه الناصري، فقصصها تعمل على خلق الكثير من العوالم النفسية والاجتماعية والسياسية المختلفة للمرأة العراقية والعربية .

نموذج (1) القارب:

ولعلني سأبدأ حواري مع قصص بثينة الناصري بتناول قصة (القارب) من مجموعتها الأولى (حدوة حصان)، والتي أريد من خلالها تأكيد الموهبة الأصيلة للكاتبة، وبداياتها الرصينة وفهمها المبكر لطبيعة القصة القصيرة، أي منذ وقت مبكر من حياة وإبداع الكاتبة، القصة منشورة سنة 1974، وقصة القارب هي القصة الثانية من المجلد الأول، وأعتقد أن هذه القصة تتميز باحترافية شديدة، وتطبيق يكاد يكون مثاليا للتعريف النقدي المتعارف عليه للقصة القصيرة، تدفق سريع للسرد، لغة تتناسب مع طبيعة الشخصيات ومستواها الاجتماعي والثقافي، شخصيات محدودة من عامة الناس، زمن ملموم في ساعات من ليلة ظلماء، ومشهد مكاني واحد على قارب يرسو بشاطئ دجلة في بغداد، حوار سريع، دراما عالية تنتهي بمقتل المرأة بخنجر على يد خلف المعتوه، المرأة القتيلة شابة فقيرة مصابة بمرض السل وهاربة من قدرها إلى قدرها . القصة صورة تمثل قاع المدينة وشوارعها الخلفية التي تتعرض فيها المرأة للمهانة والفقر والمرض والإستغلال الجنسي، والخوف، وأخيرا القتل  فيما تكون المرأة كأنها الرمز التاريخي الديني والإجتماعي للأضحية البشرية التي تلطخ دماؤها جدران القارب الخشبي الجديد،  يقتنص الشاب المرأة الصبية ويأتي بها إلى قاربه ولكن الموت يترصدها . وينتهي بها جثة طافية على مياه دجلة، ليظل القارب الجديد وصاحبه مركونين على هامش الحدث، تدفعه أمواج النهر الحزينة يمينا ويسارا في صمت الليل والجريمة العميق . المرأة هنا وحيدة ضعيفة خائفة مريضة مضطهدة فقيرة وأخيرا مقتولة، لا أحد يساندها، ولا قوة تقف إلى جانبها، حتى أن دمها المجاني يذهب أدراج رياح المجتمع وإشكالياته الزمنية .

(أشار برأسه للمرأة المنسلة خلفه أن تتبعه، لفّت العباءة حول جسدها، انزاحت أطرافها عن نعلين مزركشين تأرجحا إثر خطواته.

هبط مدارج طبيعية من الحجر ناتئة في السدة الترابية، ثمة – في رطوبة الظلال منها – أعشاب برية وصخور مرصوفة بهندسة فجة.

حددت عيناه الصقريتان موضع قاربه، فخبّ نحوه يطوّح بالزجاجة الملفوفة بكيس ورقي. جلبابه الأسمر يرفّ حول ساقيه.. يلتصق بهما كاشفا خطوط جسده الشاب المديد. خلفه كانت المرأة ناحلة وقميئة، تتبعه كظل مختصر.

رأته يطفر إلى قارب مركون عند منحنى رملي تفوح منه رائحة صبغ نفاذة.

حكت أنفها، وسلمته يدها فجذبها إلى الداخل. ضحكت، فهمس: اش ش.)(القارب ص19).

 (ترتفع يده ب الخنجر المدمى، وتهبط بضربات متلاحقة. يفغر الجرح فاه.. وينبجس دم أحمر قان يرش بياض جدران القارب.وبعد قليل، حين توكأ الرجل العاري على حافة القارب ليفرغ أمعاءه في النهر، تركت أصابعه طبعات حمراء على البياض ..) (القارب ص 30) .

نموذج (2) يوميات الكوفي شوب:

سأنتقل انتقالة مباشرة ومثيرة من قصة (القارب) المنشورة عام 1974 إلى (يوميات الكوفي شوب)، ضمن الجزء الثاني من (كتاب المغامرات) . والفرق بين زمني كتابتهما أكثر من أربعة وثلاثين عاما . أربع عشرة يومية مختلفة الطول كتبت ما بين 2004 و2008، معنونة بالتواريخ، والواقع أن هذه اليوميات كأنها قصص فرعية، ذلك أن كل يومية تكاد تكون قصة بمفردها، وإن كان الإطار العام الذي يجمعها هو اليوميات، الساردة هنا معروفة تقريبا وهي الكاتبة نفسها، فكأنها تقدم جوانب سيرذاتية تتطابق مع بعض جوانب حياتها الحقيقية، المكان واحد هو مدينة قريبة من القاهرة شبه صحراوية، تعج بحركة الطلبة العزاب الوافدين للدراسة من الدول العربية أو من أقاليم مصرية، في معاهد وجامعات المدينة الناشئة، شخصيات اليوميات أكثر قليلا مما هو معتاد في القصة القصيرة،أو أقل أحيانا، المرأة صاحبة الكوفي شوب هي أهم رابط يشد اليوميات بعضها مع البعض الآخر. المرأة هنا هي مركز اليوميات جميعها، يبدو عليها سنها المتقدم قليلا، بحيث أن لديها أبناء متزوجين وأحفادا، يبدو عليها أيضا استعدادها الطبيعي لتحمل المسئولية وقيادة عمل حر مثل إنشاء كوفي شوب دون مساعدة من رجل، المرأة هنا وحيدة وقوية وقادرة على مواجهة عالمها الداخلي النفسي، وعالمها الخارجي في التعامل مع مصاعب العمل والإشراف على متابعة شئون الكوفي شوب، وتلبية مطالب الزبائن وتحمل إشكاليات العمل العام الحر، ولا يبدو على هذه المرأة قلق كبير من الحياة، إنها تتعامل ببرود وهدوء ولا أبالية مع كل الأحداث التي تمر، طبيعة الأحداث شبه عشوائية بطيئة،غير مفهومة أحيانا ولا تتواصل مع نتائجها، حتى المرأة فقدت الرغبة بالتطلع إلى الآتي بقدر ما تتطلع إلى الماضي المنتهي الفعالية، وكل رغبتها الآن أن تأخذ صورة للذكرى مع محل الكوفي شوب الذي أنشأته وتركته خاسرا، ويبدو أنه يعمل الان جيدا تحت إدارة أخرى، يوميات الكوفي شوب دون الإشارة إلى تفاصيلها، شظايا قصة قصيرة مثل لوحة زجاجية مكسورة، وحياة مهدورة في ما لا طائل من ورائه، صورة من الواقع المرير الذي تتركه المرأة للصدف القادمة دون شعور بالضرورة أو الإحتدام، لتعود إلى حياة عادية فاقدة لأبسط شروط التطلع الحياتي إلى الأمام، أو لتحقيق أي نجاح يذكر . دراما حياة أصبحت شديدة الخواء باهتة الزمن، صحراوية المكان، فاقعة العلاقات الإنسانية . وتنتهي اليوميات بالمقطع التالي:

(وقفت خلف الكاونتر، وأمامي الشواية والخلاط، وبعض الأدوات يعلوها التراب، عدلت شعري، وابتسمت للكراسي المصطفة .. يجلس عليها عشرات من الزبائن . وجوه ضاحكة، حزينة، مشتاقة، متذمرة،غاضبة، ممعنة في الجدال،صامتة، شاردة، منتظرة .. جمهور يملأ المكان .. إبتسمت لهم إبتسامة عريضة).(ص 259) .

نموذج (3) المنزل:

في قصة (المنزل) تطل علينا شخصية نسوية أخرى لتكون بطلة القصة، سيدة قاربت المئة عام من عمرها، تعاني من التعب والنسيان، عاشت في بيتها الكبير الذي تحول الآن الى ما يشبه الخراب سوى غرفتها المطلة على حديقة البيت (السيدة عمرها قارب القرن . وجه مجعد مليح، وشعر أبيض معقوص بعناية، وثوب نوم بدون كمين يلوح منه ذراعان رقيقان . تتطلع الى الحياة المائجة خارج نافذتها، وتصيح بصوت مرتعش لحوح: إبراهيم .. إبراهيم .. إبراهيم) . (ص 167) .

وإبراهيم البستاني إبن المرحومين الوصيفة والطباخ اللذين كانا يعملان في البيت منذ أيام عزه الأولى، ومعه زوجته يقومان بخدمة السيدة:

(يدق باب  الغرفة الذي تغلقه على نفسها بالمفتاح ليلا ونهارا، فيأتيه صوتها:

- من ؟

- إبراهيم

- من ؟ من أنت ؟

- أنا إبراهيم !

- إبراهيم ؟ ماذا تريد ؟

- أنت التي طلبتني ياهانم !

تصمت فترة طويلة ثم يسمع صوتها متسائلا بضعف:

- أنا تغديت ياإبراهيم ؟) (ص 168)

كان في مضى قد حوَّل الحديقة إلى جنة غير أنها تحولت الآن إلى غابة متوحشة من الدغل والنباتات الطفيلية . وأصبحت السيدة صاحبة المنزل عبئا على إبراهيم وزوجته التي تنتظر موتها بفارغ الصبر ورغم تمتعها بلحظات صحو صباحية إلا أنها ستعود بالتأكيد إلى حالتها المعتادة، سيدة في سن المئة عام .

في قصة المنزل لا توجد أحداث، الأحداث شبه ساكنة، لا تطور فيها، كل شيء قد أخذ سياقة المعتاد دون زيادة أو نقصان، عدا تكرار المشاهد اليومية الروتينية لسلسلة مطالب السيدة ونوبات نسيانها وأوقات نومها .

من جانب آخر هناك مقاربة رمزية ما بين تألق السيدة في الماضي وتمتعها بوقتها المشغول بنوع راق من الحياة والثقافة حيث البيانو والكتب وطبيعة ملابسها وما بين زهو الحديقة السابق والأزهار والأشجار المنسقة، أما الآن فقد انتهى كل شيء سوى ذكريات أوقات صحو السيدة التي تحاول استرجاع تلك الأيام:

(ومع إطلالة النهار ..  وبعد ليلة مؤرقة حافلة بالخيالات .. تدفع السيدة بيديها الواهنتين ضلفتي الشباك وتجلس هادئة على المقعد المواجه للحديقة في لحظة خاطفة من لحظات وعيها ..

يلتمع شعاع الشمس على بياض شعرها .. ترى أشجار الياسمين مزهرة وطرقات الحديقة نظيفة والحشائش مقصوصة وأحواض الورد مبتلة بالندى .

- الافطار جاهز ياهانم .

ومن مكانها ترى صفية الوصيفة ترتب منضدة مدورة تحت شجرة الليمون ثم تروح وتجيء بالطباق وإبريق الشاي بالنعناع .. ويأتي إبراهيم .. شابا، يافعا،  مهندما ليضع كعادته باقة ورد منمقة في زهرية صغيرة وسط المائدة .. ويكون ذلك إيذانا لها بالنزول ..

تهبط السلم المرمري .. درجة .. درجة ..

ويبدأ يومها  الحافل ...) (ص 170)

إستطراد فني:

عبر أكثر من سبعين قصة ضمها (كتاب المغامرات) لبثينة الناصري قدمت الكاتبة، خلاصة شاملة لإبداعها القصصي الذي أنجزته خلال المرحلة السابقة من حياتها الحافلة يالإنجاز في مجال السرد القصصي .

وقد تنوع المشهد القصصي لدى الكاتبة تنوعا شديدا يوحي للقارئ بنتيجة حقيقية هي أن الكاتبة ذات أفق إبداعي واسع، وذات رغبة في التجاوز المستمر لما أنجزته، والواقع أنها منذ البداية كانت تمتلك أدواتها الفنية، ورؤيتها الموضوعية والفكرية الواضحة لما تريد أن تحققه، والأهداف التي تسعى إلى تسليط الضوء عليها من خلال فن القصة القصيرة .

من الواضح أن القاصة الناصري ومنذ بداياتها تسعى لتأكيد مفهوم الحداثة في كتاباتها، منطلقة من مفهومها للحياة والثقافة، ومستندة إلى رؤية فكرية تعتمد فلسفة الواقعية الإشتراكية، ثم تطلع إلى نوع من الليبرالية الحياتية كما سبق أن ذكرنا، حتى وإن كانت أغلب التجارب الإشتراكية قد سقطت من خلال الممارسات السياسية لهذه المدرسة الفكرية المهمة، كما سقط غيرها على صعيد العالم كله ليس فقط الأمة العربية والعراق، كما تسعى إلى تنويع أنماط قصصها، وهكذا نجدها تعتمد الكثير من محاولات التجريب الفني والموضوعي وفي طريقة السرد القصصي وطريقة تقديم الشخصيات، وطرح المشكلات، بحيث يتطابق ذلك مع مفهومها الخاص لمنطق القصة القصيرة الحديثة .

قصة بثينة الناصري عبر جزأي كتابها ليست قصة مترفة فارغة سطحية، إنما قصة مهمومة مسئولة مشغولة دوما بقضية الإنسان المتعب المهمش المظلوم عموما، وتصوير واقعه الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والسياسي، وتأشير مواطن الخلل لتجاوزه والوصول دائما إلى الحالة الأفضل، القصة مثل بقية الفنون الأخرى هي عين راصدة للواقع في نظام الحياة اليومية، وخاصة للظلم الذي تتعرض له الفئات الأكثر فقرا وحرمانا، واقتراح الحياة البديلة التي من أهم شروط الفن الإنساني .

- وإذا ما استعرضنا شخصيات قصص بثينة الناصري نجدها في الغالب من قاع المجتمع، أو على الأكثر من المستويات التي تعاني في حياتها من مصاعب جمة في تسيير حياتها بشكل طبيعي، سواء أكانت من النساء أو الرجال، أناس عاديون يبحثون عن فرص لتحقيق مباهجهم البسيطة العادية في مجتمع غالبا ما يعرضهم إلى صعوبات ومشاكل كثيرة في سبيل تحقيقها .

(في مكان ما من الليل تصطف صفائح لا لون لها، تطفح بأحشاء المدينة النائمة . ومن عمق الظلام يظهر رجل محلوق الرأس محني الظهر يسدل على عظامه ملابس لا شكل لها، يتقدم من صفيحة، ويغرس ذراعه داخلها ناثرا الزبالة حوله على الأرض، تخرج يده بأوراق خسّ . يتأملها ثم يضعها في جعبة قماش تتدلى من عنقه . يدفن ذراعه مرة أخرى فتخرج بعظمة مازالت نتف لحم ودهن عالقة بها . يقربها من أنفه، ويقلبها مرارا ثم يدسها في الجعبة . يعود إلى البحث بأناة وصبر. تغوص يده في لزوجة .. ينظر إليها ثم يمتص أصابعه بتلذ واحدا .. فواحدا .) (قصة جوع ج1 ص 235) .

- من جانب آخر أعتقد أن العديد من قصص (كتاب المغامرات) والعديد من أجواء قصص أخرى فيه، ما هي إلا جوانب من ذكريات شخصية للكاتبة، وأن ما يرد فيها ما هو إلا شكل من أشكال السرد السيرذاتي، ذلك أن التطابق يكون أحيانا حميما جدا بين الحياة الحقيقية للمؤلفة، والحياة الخيالية المفترضة في القصة القصيرة، طبعا أنا لا أعتبر ذلك عيبا في القصة طالما كانت تعبر عن شخصية تناقش موضوعا محددا في وقت محدد وزمن محدد، وإن كنت أعتبر أن استخدام صيغة المتكلم غير ضرورية في هذه الحالة، على الرغم من أننا لا يجوز لنا أن نفرض على القاص شيئا من الخارج، وطالما قرأنا روايات عظيمة وقصص رائعة كانت مقتبسة من حياة مؤلفيها وسيرتهم الذاتية .

في قصتها المعنونة (الرواية التي أكتبها) تكاد شخصية بطلة القصة أن تتطابق مع شخصية الكاتبة تطابقا شبه كامل، عدا تفصيلات جزيئة غير هامة، وبعض ما يؤثَّث به المشهد القصصي العام:

(قلت لصديقتي صفاء بفرح " إني أكتب رواية" كانت قد اتصلت هاتفيا، وقالت أن أمها ماتت، منذ عشرة أيام، وأنها تحس بالإختناق وبأشياء غريبة، واقترحتْ أن نذهب إلى السينما. واقترحتُ أن نقضي سهرة في بيتي.

- عندي إحساس بأني أتخلص منه على صفحات الرواية.

قالت:

ومن يدري؟ ربما بعد أن تنهي الرواية، تجدين أنه من المحزن التفريط بمثل هذا الحب، فتعودين اليه.

كانت تدخن بشراهة. عزمت عليّ بسيجارة. نفثتُ دخانها، وأنا أقول:

-لا أدري. لا أظن. زمان، عندما كنت أصغر سنا، كنت أقول لا كبرياء في الحب، الآن تبدو الأمور محيرة، فمن ناحية، يجب أن أكون سعيدة، لأني أجد حبا كبيرا في هذه السن، ربما كان ينتظر أن اقدم الكثير من التنازلات، لهذا السبب. ولكن من ناحية اخرى، تبدو مسألة الكبرياء، وكأنها آخر مايتبقى للواحدة منا) .(قصة الرواية التي اكتبها ص 182).

- من الملاحظات التي أجد أنها جديرة بالإنتباه في قصص (كتاب المغامرات) محاولة الكاتبة أحيانا إضفاء أجواء مؤسطرة وحلمية على العالم الكلي للقصة، وبناء توقعات على ضوء أحاسيس ومشاعر ذاتية محضة، مستندة إلى فهم عميق للطبيعة البشرية، وللهواجس التي تنتاب الإنسان وهو يقارع كل يوم مشكلاته، ويصارع أقداره . مثل هذه الإشارات نجدها مثلا في قصة القارب، والحديث الذي يأتي عدة مرات حول ضرورة الأضحية للقارب الجديد كنوع من الموروث الديني الأسطوري الشعبي، وكيف تصبح دماء القتيلة كأنها هي البديل القدري لذلك . وكذلك في الشهد الذي يظهر فيه الناس والصيادون إلى الساحة العامة ويفاجئون بتحطم التمثال الموجود في وسط ساحة المدينة وأن ذلك سيجلب النحس على الناس والمدينة كلها في قصة (موت إله البحر):

(- تلفت حوله وبالغ في الهمس:المسألة وما فيها أنه قيل لأم عرائس البحر إنها تستطيع أن تفك السحر عن بناتها لو ناحت عليهن أربعين سنة، وليلة الحادثة كانت تمام الاربعين، إن كنت تفهم ما أعني .. لكني أظنها لم تحسب حساب ماحدث .

-  لماذا ؟ ما الذي حدث ؟

-  لم ينفك السحر عن بناتها فقط وإنما عن إله البحر أيضا وهكذا تبعهن إلى الأعماق .

وأشار إلى البحر، وبعد أن أقسم أن روايته صحيحة، بشهادة شهود عيان، إستأذن وانصرف).

- في بعض قصص بثينة الناصري نوع من التأمل المطلوب الذي يعتمد على قابلية المتلقي وحساسيته في تأويل ما تخفيه الكاتبة وفي معاينة الحدث معاينة بعيدة عن حركية السرد السريع، فمثلا في قصة (إعلان في صحيفة دمشقية) أثارني في الحقيقة ما أشارت إليه القاصة حين قالت:

(في طيِّ كتاب أخفيت ورقة شجرة – لا أعرف جنسها – لكني تحتها بت ليلة باردة في صوفيا، وفي إحدى الحقائب – لا أدري أيها – مزق رسالة من رجل يحسن الكذب والكتابة، نويت دفنها في تربة بيتي أو أن أزرع فوقها نخلة علّها تثمر شيئا غير الوهم)(ص 46):

بتأملنا للقصة تنفتح أمامنا إثر تأمل المقطع السابق نافذة لتحليل مجمل حدثها، فهي وإن كانت قد حزنت لفقدان حقائبها الثلاث، فلإنها في ذات الوقت تخلصت من أعباء تجارب مرة وفاشلة منها ما لم يعط دفئا إنسانيا، ومنها ما يورث الوهم، لذلك فبطلة القصة تزرع فوق الوهم نخلة عراقية صلبة عريقة النسب حلوة الثمر صامدة إزاء الزمن .

- في قصة (وطن آخر) تقدم القاصة الناصري تجرية مهمة على صعيد تقنية السرد، وتطور الحدث القصصي، فهي في مفصل حيوي من القصة تعطي احتمالين لتطور الحدث، .. الشاب العربي في لندن يتوجه إلى عنوان صديق، الاحتمال الأول هو بيع الصديق لمنزله منذ عامين، والاحتمال الثاني هو استقبال الصديق له، في المنزل . وهذه التقنية موجودة وخاصة في مجال الأفلام السينمائية . تقول القاصة:

(عند هذا الموضع من الحكاية.. يحتج بطل قصتنا لأني عصفت بآماله سريعا ولم أُتح له فرصة لقاء صديقه بعد أن قطع كل هذه المسافات من الشوق واللهفة. وهكذا أجدني مضطرة لإعادة النظر في أحداث القصة .. ولنبدأ منذ أن وقف أمام الباب يضرب الجرس ..)(وطن آخر ص 209).

ولكن الملفت للنظر في القصة هو أن النتيجة المخيبة للآمال هي واحدة في كلتا الحالتين . بل إن الخيبة كانت أشد إيلاما حين وجد الصديق صديقة دون أن يساعده في بناء وضعه الجديد في هذه المدينة الغريبة .

خاتمة:

- كانت هذه الدراسة أو القراءة سياحة أولية في عالم (كتاب المغامرات) للكاتبة والقاصة العراقية بثينة الناصري، ولا نستطيع أن نقول إنها أحاطت بمجمل الصورة البانورامية لتجربة واسعة وعريضة كتجربتها في مجال كتابة القصة امتدت لحوالي خمسين عاما . قضتها الكاتبة وهي تعمل بجد في سبيل ترسيخها وبنائها بشكل متين .

- ولعل من حرص القاصة على إيصال أفكارها وتجربتها، أنها تحاول من حين إلى آخر، أن تورد ملاحظات وهوامش وتفسيرات لما تعتقد أنه قد يغمض على القارئ، أو أن يسهم في إيضاح الصورة الحقيقية لما تريده، وخاصة ما يتعلق بالجوانب التقنية والفنية في بناء القصة، وأشرنا في سياق حديثنا إلى بعض ما أوردته الكاتبة، وإن كنت أعتقد أن ترك ذلك  للمتلقي هو فرصة للتعمق في عوالم الكتابة وأنه أقرب إلى غموض مقبول في هذا المجال السردي .

- من جهة أخرى وكانطباع شخصي وجدت أن القاصة تكون أكثر تألقا في تلك القصص التي تتناول هموما فردية، أو معاناة ذات أبعاد شخصية تعكس هموما جمعية، وأنها في حوارها السردي مع القارئ تكون أكثر حميمية ورفقة وهي تهمس له بالحكايات الجارحة التي يتعرض لها البشر دون أن يستطيعوا فعل شيء، من تلك القضايا الكبيرة التي تتعلق بمجاميع وأحداث عامة وكبيرة، وخاصة القصص التي تتحدث عن قضايا النضال والمقاومة في فلسين والعراق ورموز كوانتانامو وتشرين وبغداد وغيرها من الرموز السياسية التي تجبر القاصة أحيانا على الإستعانة ببعض الشعارات والقضايا ذات البعد الواقعي، على الرغم من الروح الوطنية والقومية الوثابة التي تتمتع بها الكاتبة . 

- وبثينه الناصري عموما هي نفسها أقرب إلى القصة القصيرة حتى في طبيعتها الإنسانية، فهي تختصر حتى في حديثها الإعتيادي، ولا تسهب كثيرا، تحاول أن تحسم الأمور بسرعة حتى لو كان ذلك يسبب لها خسائر غير ضرورية . تكون أحيانا واضحة جدا ومباشرة في التعامل مع الطبيعة والحياة .

وهذا ينسجم أيضا مع لغتها الدقيقة المقتصدة في تصوير الأحداث فهي في الغالب لا تستطرد في الوصف، تتخلص من الحروف جهد الإمكان، حواراتها مسبوكة بطريقة لا نجد فيها إضافات بعيدة عن صلب الحوار أو الموضوع، وحتى في استخدام المفردات الشعبية تنتقي تلك التي تؤدي وظائفها بصورة محددة ودقيقة .

- اعتقد في ختام هذه القراءة أن كتابة القصة لدى بثينة الناصري هي مغامرة فعلا، ولكنها مغامرة محسوبة بدقة، ومغامرة هيأت لها الكاتبة كافة مستلزمات الولوج إلى مجاهيل الإبداع إضافة إلى مجاهيل الحياة .

 

أمجد محمد سعيد - القاهرة

 

في المثقف اليوم