قراءات نقدية

برافو آسيا رحاحلية

asya rahahlaهناك مقولة لجورج طرابيشي ظللت اسيرا لها لسنوات وكلما توغلت في قراءة مختلف الأجناس الأدبية النسوية ازددت قناعة بهذه المقولة إذ يقول وهو يصف الفرق بين أدب المرأة وأدب الرجل " أدب المرأة عبارة عن بؤرة أحاسيس أما أدب الرجل فيعيــد بناء العالم ".

فغالبا ما نجد أدب المرأة عبارة عن مجموعة من الأحاسيس يظهر في شكل خواطر غارقة في الذاتية بعيدا عن مقومات الشعر ان كان شعرا او قصة إن كانت قصة وهكذا ..

وبقيت على هذا اليقين لسنوات طويلة اتعمق في الأدب المكتوب بأقلام نسائية ويتعمق ايماني بمقولة طرابيشي، حتى وصلت إلى ثلاث مجموعات قصصية لآسيا رحاحلية " ليلة تكلم البحر- تدق الساعة تمام الغياب –اعتقني من جنتك ".

اعترف انها اعادت السكينة لنفسي، لأنني كنت أحس أن مقولة طرابيشي ظالمة نوعا ما ولا تنطبق على كل الأدب النسوي .وأنه علينا أن ننبش أكثر في الأقلام النسوية بحثا عن الاستثناءات..وفعلا جمعتني الصدفة بقصص آسيا ارحاحلية التي تمردت على هذه المقولة حيث لمست بقلمها كل مناحي مشاكل المجتمع الحياتية فراحت ترسم الاحداث بلغة بسيطة وقوية وأسلوب شائق فيه الكثير من المتعة بالنسبة للقارئ ترصد المشاكل التي تنخر المجتمع وتدمر كيانه وتتسبب في الكثير من المآسي .

ففي مجموعتها (ليلة تكلم البحر) تتحدث في قصتها (ليس لي وطنا سواك) عن معاناة الطفولة المسعفة، حيث تنقل لنا على لسان البطل المسعف، تلك المعاناة الكبيرة والعميقة التي نتجت عن نظرة المجتمع لهذه الفئة من المجتمع حيث يعيش البطل حالات شتى من المعاناة اليومية، هذه المعاناة التي تبدأ " من كان يفترض بهم حمايتنا لفظونا إلى الدنيا واختفوا كما تفعل السلحفاة ..السلحفاة أكثر رحمة ..على الأقل تدفن بيضها في رمل الشاطئ قريبا من الماء لتضمن لأبنائها ولو بصيصا من العيش ".

من هنا تبدأ المأساة من أطراف ترفض تحمل مسؤولياتها وتبعات أفعالها، فترمي بفلذات أكبادها إلى الضياع والتيه لتبدأ المعاناة وسط مجتمع لا يرحم، فترسم لنا القاصة والروائية اسيا صورة قاتمة نابعة من رحم المجتمع ونظرته لهذه الفئة دون مساحيق ولا تزييف ..

"لا أدري كيف أمسكت أعصابي ..كان يمكن أن اقلب عليه الطاولة أو أرميه بالكرسي أو أصرخ في وجهه بأنني إنسان "..

ولا تتوقف معاناة الطفل المسعف على مستوى الافراد والجماعات بل يمتد إلى الجهات الرسمية المسؤولة، التي تتعامل مع هذه الفئة بالكثير من اللامبالاة والإهمال وعدم تمكينهم من ابسط حقوقهم ..

"رئيس البلدية كان واضحا..

-لا يمكنني أن أفعل أي شيء من أجلك ..أنا لست وزير التضامن .

هكذا اذا ..ليس بمقدوره أن يساعدني في أمر الوثائق ولا أن يوفر لي مسكنا يليق بآدميتي ..

رئيس البلدية ليس وزيرا للتضامن ولو قابلت وزير التضامن فسوف يقول (لست رئيسا للدولة) ترى ماذا سيقول لي رئيس الدولة وانا (ابن الدولة) ".ورغم كل المآسي وطول المعاناة إلا أن آسيا ترسم لنا على لسان البطل صورة التصدي والحق في الحياة والحلم فبطلنا متزوج وله ابن وزوجته حامل بآخر..

"لا لست مجرد زوجة ..أنت الرفيقة والحبيبة والوطن والسكن ..أنت التي صالحت بك الأيام وغفرت بك لامرأة تسمى أمي ".

أما في قصتها التي تحمل عنوا ن المجموعة (ليلة تكلم البحر) تأخذنا اسيا لمأساة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي مشكلة الهجرة السرية أو ما يسمى عندنا ب "الحرقة " ومأساة "الحراقة"، حيث تحملنا القاصة بلغتها الجميلة المتناسقة المفعمة بالمشاعر الإنسانية الفياضة إلى عمق المأساة ..مأساة شباب استهوتهم الأحلام الزائفة فأغرقتهم في لجج البحار حيث تبدأ الرحلة بفكرة شاب من أيام الثانوية "الفكرة عششت في عقله، سلبت كل حواسه منذ سنوات ..وفي النهاية ما الذي تخشى أن تفقده حيث لا تملك شيئا ".

انها حالة من حالات اليأس التي يعيشها الكثير من الشباب، والتي تدفعهم إلى المجازفة والمغامرة بأرواحهم طمعا في النجاة مما هم فيه (اللاأمل)، ثم تبدأ الرحلة ..

"القمر غائب والجو ملائم تماما ..حالة الطقس ستكون مستقرة لمدة ثلاثة أيام ..أخبرهم صاحب الزورق أن العتاد جديد والزورق متين لذلك كان المبلغ كبيرا "..

انه شاب يحلم برؤية النور ليس من أجله فقط بل من أجل عائلته أيضا، وما يزيد من اطمئنانه لنجاح مسعاه، أنه يحمل شهادة جامعية التي ستفتح له الأبواب وتساعده على تحقيقه أحلامه، خاصة وهو يرى نجاح بعض الشباب في تحقيق هذا المسعى ..

"ابن الجيران ..مكث هناك ست سنوات وحين رجع بنى مسكنا كانه القصر وفتح متجرا كبيرا ".

انها حقائق يراها تسيل لعابه وتدفعه نحو التعمق في الحلم أكثر وعد التردد في اتخاذ القرار ..

"ألا تستحق السعادة أن نتعذب من أجلها ست سنوات أو سبع أوعشر، ألا تستحق المغامرة حتى لو كان الموت عنوانا لها ؟"..

لتنطلق الرحلة وسط رفاق الحلم ..

"رفع رأسه للسماء وراح يتمتم "..

هكذا تنتهي هذه القصة بتمتمة البطل والزورق يشق عباب البحر .

وتواصل اسيا على نفس النهج وهي تفتح لنا باب مجموعة أخرى من مجموعاتها (تدق الساعة تمام الغياب) حيث تواصل رسم همومنا ومشاكلنا، تلمس بقلمها المبدع كل الأبعاد وتمسح كل الزوايا، ترصد حالتنا النفسية، مشاكلنا الاجتماعية، السياسية بنفس اللغة ونفس الأسلوب اللذان لا يتيحان أي فرصة للملل حتى يتسلل إلى أنفسنا، أو يتسلل على شكل فكرة لتأجيل القراءة لفرص أخرى، فنقرأ في قصتها (ونعود به الى الجنة) مأساة أخرى من مآسي المجتمع الكثيرة والمتشعبة، انها مشكلة الطلاق التي تضرب عمق المجتمع ويكون ضحاياها هم الأطفال، حيث تنقل لنا تلك المأساة على لسان الطفل الذي تعرض لهذا الموقف الصعب فكانت ترجمة أحاسيسه وانفعالاته، ونقل معاناته الحقيقية رغم احاطته بالرعاية والاهتمام..

"أسبوع انقضى ..أسبوعان ثم ثلاثة وأمي لا تعود بي لجنتي وأبي لا يظهر ..والحنين لكل شبر في بيتنا الجميل يغزو كياني " ..

انها مأساة تنخر عظم المجتمع وتفكك نسيجه وتصنع ضحايا لا ذنب لهم .

"مستحيل أن أعيش بغير أبي ..غير ممكن ..لا معنى لحياتي بعيدا عنه ".

لكن الجميل في معظم قصص آسيا رحاحلية أننا نجد فيها نافذة للأمل، وكأنها تقول لا يأس مع الحياة وأن الامر يحتاج لبعض الصبر، لبعض التنازل أحيانا وبعض الحيلة، وللكثير من الإصرار والتشبث بالأمل، علينا أن نقاوم ولا نستسلم تحت أي ظرف لأن الأشياء مرهونة بإرادتنا وما نريد، انه الايمان بالحلم والإخلاص له، فكثيرا ما ينبثق الأمل من عمق المأساة من عمق المظالم، فرغم الصعوبات والتهميش والجهل والظلم، ورغم كل ما نعانيه سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، ابتسموا فدوما هناك بصيص أمل علينا التشبث به وإعادة المحاولة مرات ومرات .. أن نحاول أحسن ألف مرة من الغرق في محيط اليأس ونصبح حطاما.

إن كان لكل قاعدة استثناء فاسيا صنعت هذا الاستثناء، بحبكة قصصية فيها الكثير من التميز، وصراحة أنا تمتعت جدا بقراءة مجموعاتها القصصية مواضيع متنوعة تمس عمق المجتمع وتفضح أحيانا هذا الرياء في المعاملات في العواطف وغيرها، ورغم بساطة الفكرة أحيانا إلا أن آسيا تحولها بلغة سلسة واسلوب مميز إلى حدث يستحق أن نقف عنده ونعطيه حقه من المناقشة والتأمل بل أنها تترك لنا مساحة لإيجاد الحلول وطرح الأفكار ومناقشة الموضوع بشكل أوسع .

أعترف انني لست ناقدا، وان سجلت بعض الملاحظات أو لأقل بعض الهنات هنا وهناك والتي لا يخلو منها أي عمل ابداعي مهما كانت قوته، لكن كقارئ أقول أن قصصها شدتنيوجعلتني أعيش أحداث القصص واتحين أي فرصة للجلوس معها والتمتع بكل ما فيها ..انها اللغة والأسلوب انه التمكن الذي يجعل القصة خاضعة تماما لقلم الكاتب يدير احداثها كيفما شاء بلا تكلف ولا تصنع .ولا يكون هو رهين القلم يسيره كيفما شاء فيحمله على الزيف والجري وراء سراب الفكرة، فكثيرا ما تصدمنا الجملة الموشحة بأجمل تعبير لكنها خاوية من أي معنى أو دلالة تخدم الفكرة فالجري وراء الصور ينسينا في الكثير من الأحيان اننا نكتب لنعبر عن فكرة وليس رص الكلمات الجميلة بعيدا عن المعاني السامية التي نريدها ان تدبج اعمالنا .

مزيدا من الابداع ..مزيدا من التألق ..مزيدا من الغوص أكثر في مآسي المجتمع .

القاص جمال بوثلجة . الجزائر

 

 

في المثقف اليوم