قراءات نقدية

الكوليرا بين قصيدتين

يخبو يخبو هذا الوباء ثم يندلع فجأة وعندما يندلع تندلع معه قرائح الشعراء ليعبروا عن عمق المأساة التي يجلبها أو ليرسموا حدود وحشيته وهو يحصد ضحاياه بمنجله المشحوذ ولا يرأف بالضعفاء .

في مصر اربعينيات القرن الماضي اندلع هذا الوباء فوصل صدى صنيعه الفتاك حيث الشاعرة نازك الملائكة في العراق لتأخذها المفاجأة فينطلق لسانها معبرا عما أحست به من حزن جراء هول المُصاب ويجري الشعر كما لو أنه نهر دافق لا يعيقه عائق متمثلا قسوة الألم في قصيدة الكوليرا التي كتبتها عام 1947 واعتبرت لاحقا البداية الحقيقية لشعر التفعيلة .

سكن الليل

أصغِ إلى وقع صدى الأنَّات

في عمق الظلمة، تحت الصمت على الأموات

صرخات تعلو، تضطرب

حزن يتدفق، يلتهب

يتعثر فيه صدى الآهات

في كل فؤاد غليان

في الكوخ الساكن أحزان

في كل مكان روحٌ تصرخ في الظلمات

في كل مكان يبكي صوت

هذا ما قد مزقه الموت

الموت الموت الموت

يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت

طلع الفجر

أصغ إلى وقع خطى الماشين

في صمت الفجر، أنظر ركب الباكين

عشرة أموات أو عشرونا .

إلى أن تقول:-

الكوليرا

في كهف الرعب مع الأشلاء

في صمت الأبد القاسي حيث الموت دواء

أستيقظ داء الكوليرا

حقدا يتدفق موتورا

 هبط الوادي المرِح الوضاء

يصرخ مضطربا مجنونا

لا يسمع صوت الباكينا

في كل مكان خلف مخلبه أصداء

في كوخ الفلاحة في البيت

لا شيء سوى صرخات الموت .

تمتد صرخة الحزن مدوية لتحط في اليمن ففي العام2017 العام الذي تكالبت فيه المحن وتضافرت فيه الفجائع يجيء وباء الكوليرا ليؤطر المشهد العبثي في اليمن الذي لم يعد سعيدا، وكأنه جرَّب كل المحن ولم يعد ينقصه إلا أن يجرب موتا مختلفا، يجيء ليحصل على نصيبه من غنيمة الموت ويأتي ليساند الرصاص والقذائف والصواريخ والجوع والأمراض في مهمة الموت الموكولة بها في اليمن فيحصد ما شاء له من الأجساد ويُخمد ما عنَّ له من الأنفاس هكذا بنفخة واحدة وهو يصول ويجول لينتشر انتشار النار في الهشيم في أيام قليلة والشاعر قيس عبد المغني راعه ما يرى من خراب وبصفته الراصد لهذا الانهيار تفتقت قريحته عن قصائد قصيرة حمَّلها حسه الساخر ولغته المقنعة وصوره الشعرية المثالية وخاتمته الفارقة وقفلته الموفقة، حتى أن القصيدة لا تكتمل مع آخر كلمة فيها بل أنها تظل تتوالد وتتناسل إلى ما شاء لها في ذهن المتلقي الذي لا يجد لها توصيفا وتفسيرا إلا أن يعتبرها شعرا نقيا وصافيا لا يخالطه هذر وثرثرة أو حشو أو لغو، كل كلمة فيه تؤدي دورها أو أكثر وكل جملة فيه تحيل إلى ما وراءها من أطايب التأويل وغزارة المعنى، وحيث القارئ لا يغادر القصيدة إلا وقد رسمت علامات الدهشة على وجهه وأثارت فيه زوبعة صغيرة من الأسئلة .

 فلنتخيل مع الشاعر، اليمنيِّ وهو يمتثل لتعليمات القدر حتى يوثقه ويهيئه للكوليرا، ولنقابل ما بين لفظتي الكوليرا والكاميرا الغائبة الحاضرة في النص ثم لنترك الخيال يسرح بعيدا في هذه الصور والإيحاءات التي فيها من السخرية ليس من المشهد العبثي فحسب بل ممن أسهم في رسمه وساعد في تشكله بهذا القدر من البراعة والإتقان، لنتصور اليمني المسكين الذي استكثر عليه الآخرون وطنه وسعوا لانتزاعه بانتزاعهم للأمن والطمأنينة وزرعهم للفتن، ولننظر تماما من الزاوية التي نظر منها الشاعر ليكتب ما كتب لعل الخراب يتراجع قليلا لعله يخجل من هيئته الرثة ويندم على ما صنع أو لعله يتوب .

مخاطبا اليمنيِّ الذي يظل حتى هذه اللحظة خارج كل الحسابات إلا حساب الموت والجوع والمرض يقول الشاعر بلغته الآسرة وبحسه العالي بالمأساة :-

سنقوم بتوثيقك كيمني معاصر

أرجوك

قف ثابتا من أجل الصورة

حاول ألا تتحرك أمام الكوليرا

دعنا ننهي الأمر سريعا

أو دع الأمر ينهينا .

وإحدى مهام الشاعر كيمنيِّ أن يرصد ردة فعل آلة الموت إزاء هذا الدخول المفاجئ على الخط – خط الموت – من قبل الكوليرا، كما لو أنها تريد المشاركة في حفلة الموت المجانية تلج ميدان المعارك وهي تردد في زهو، تعددت أسباب الموت واليمني واحد، إذ يقول الشاعر:-

لا بد أنها حزينة

قذائف الهاوزر

ورصاصات الكلاشينكوف

لا بد انه ساخطة وغاضبة

قنابل الطائرات وصواريخ الكاتيوشا

وأظن بأنها تبكي الآن

وهي تنزع كواتم صوتها

مسدسات الشوارع والدراجات النارية .

كل من يخدم في صفوف الموت في وطني

لا بد أن القلق يساوره الآن

من دخول الكوليرا المفاجئ

إلى أرض المعركة . 

والخوف يظل قائما عند كل هؤلاء من أن تستأثر الكوليرا بكل الموت المُتاح ولا تترك لهم شيئا منه .

 

ناصر سالم المقرحي

 

 

في المثقف اليوم