قراءات نقدية

حميميّة الرّؤيا الموغلة في عمق الذّات.. قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي محمد بن جماعة

madona askar- أوّلا النّصّ

تفّاحة على الطّاولة

ترفل في لونها الحبّ

تعلم سرّ حديدها..

وعذوبة مائها

في ظلّها عصفوران

ينقران شوقهما..

مساحةَ الطّاولة

غطاها دفء الرّيش المضيء..

ونحن خمسة

وحِيدِين كنّا..

وقريبَيْن أصبحنا............

واحد بقوة مجموع الأعداد الطّبيعية

فرضيّة الحضور..

واختزال لمفاتيح الرّوح

بعشق رحيم..

أخصبت لغتي البكر

وأدخلتني الحصن المكين..

أنا مترع الآن

باستنشاق رائحة الضّياء

وسماع صوت محزون

بفرح عتيق!.."

 

ثانيا القراءة

تجتمع في هذه القصيدة عناصر التّكوين العشقي، كما أرادته الحالة الّتي خضع لها الشّاعر محمد بن جماعة. ويغوص فيها حتّى يعود إلى الجذور العشقيّة الأولى بدءاً من الخلق وصولاً إلى اكتماله الشّخصيّ. تشبه هذه القصيدة دائرة مغلقة تدور في فلكها قصّة عشق كان قبل أن يكون، لكنّه ينتظر تجلّياً خاصّاً حتّى يكتمل.

وإن استخدم الشّاعر عناصر ماديّة تعبيراً عن هذا العشق فلأنّه أراد أن يحدّث عن حقيقة رؤاه، فيظهر انطلاقها من الجسد نحو الرّوح حتّى يتسرّب العشق إلى كلّ ذرّة في كيانه. ولم يُرد قطعاً إظهار حالة عشقيّة روحانيّة بحتة. بل تمّ ابتناء هذا العالم العشقيّ بالإشارة إلى عنصر يُحكى أنّه تسبّب بسقوط الإنسان (التّفاحة). إلّا أنّ الشّاعر ذهب باتّجاه آخر وجعل منها أساساً متيناً للحبّ وللّقاء ثمّ للاتّحاد العشقيّ.

وإن دلّت التّفاحة على شيء فهي تدلّ على الثّبات والثّقة من جهة، نسبة لوجودها على (الطّاولة) الّتي يمكن أن ترمز للكون العشقيّ. وفي ذات الوقت تدلّ على لحظة عشقيّة نادرة وحميمة من جهة ثانية.

لا يذكر الشّاعر مصدر التّفاحة ولا يشير إلى أي تعريف يبيّن للقارئ أهميّة وجودها. خاصّة أنّه يستخدم لفظ (تفاحة) في صيغة النّكرة، ويعرّف لفظ (الطّاولة). ما يعني أنّ الطّاولة تشكّل الرّكيزة الّتي بنى عليها الشّاعر المعنى الضّمنيّ والجوهريّ للتّفاحة الّتي ترمز إلى اللّحظة العشقيّة. (تفّاحة على الطّاولة/ ترفل في لونها الحبّ/ تعلم سرّ حديدها../ وعذوبة مائها). وهنا يظهر سرّ هذا العشق المرتبط بالصّلابة (الحديد) والانسيابيّة والنّقاء (عذوبة مائها). وستتّضح الحالة العشقيّة أكثر فأكثر عند ذكر العصفورين الّلذين يقتاتان من الحالة العشقيّة (تفاحة) بل يعتبرانها ملجأ لهما. (في ظلّها عصفوران/ ينقران شوقهما..)

يقترب الشّاعر من الرّموز (تفّاحة/ العصفوران) تدريجيّاً ليلج عالمه الخاصّ ويعبّر عن تماه وإيّاه دلّ عليه العدد (خمسة) الّذي يرمز إلى اليد كاملة، أي إلى القبض على هذا العالم. لكنّ هذا العالم، عالم الشّاعر، لم يكتمل إلّا بعد انتفاء الوحدة. (ونحن خمسة/  وحِيدِين كنّا..). دلّت العناصر التّالية (تفّاحة/ عصفوران/ نحن الدّالة على اثنين) على تباعد نسبيّ في داخل عالم الشّاعر، إلّا أنّها ما لبثت أن توحّدت في بينها، ليتشكّل العالم العشقيّ من اثنين فقط (وقريبَيْن أصبحنا). وهنا بدأت تظهر ملامح الكون العشقيّ الّذي يضرم قلب الشّاعر ويلهب وجدانه حتّى يخلص إلى اتّحاد فريد (واحد بقوة مجموع الأعداد الطّبيعية).

الواحد غريب عن العناصر الّتي استخدمها الشّاعر لصعوبة اجتماعها وتماهيها، لكن بقوّة الاتّحاد العشقيّ تساوت في ما بينها ليكون الشّاعر. الواحد هو العنصر الأساسيّ لاكتمال الشّاعر (ونحن خمسة/ وحيدين كنّا). ومتى حلّ الواحد تجلّى القرب (وقريبَيْن أصبحنا). الواحد الجامع بين العناصر الخمس، العشق الّذي سيخصّب لغة الشّاعر كبداية لمرحلة جديدة لم يشهدها من قبل.

فرضيّة الحضور..

واختزال لمفاتيح الرّوح

بعشق رحيم..

أخصبت لغتي البكر

وأدخلتني الحصن المكين.

الحضور قائم لا محالة، وفرضيّته نابعة من وعي الشّاعر باتّصال روحيّ بمعزل عن الواقع. وتوق إلى لقاء كيانيّ قد لا يشهده إلّا في رؤيا خاصّة حميميّة تجعله موغلاً في عمق ذاته. هو اتّصال روحيّ كيانيّ من نوع خاصّ، أفاض نوراً في قلب الشّاعر الّذي تختطفه الحالة الشّعريّة لتجعله مبصراً.

أنا مترع الآن

باستنشاق رائحة الضّياء

وسماع صوت محزون

بفرح عتيق!.."

وما الفرح العتيق إلّأ عودة إلى ما قبل ارتسام الكون العشقيّ بالفعل، أي الحالة العشقيّة بالقوّة. وبين السّطر الأوّل (تفّاحة على الطّاولة) والسّطرين الأخيرين (وسماع صوت محزون/ بفرح عتيق!..) امتداد عشقيّ كان محتجباً ثمّ ظهر كالضّياء استنشقه الشّاعر حدّ الامتلاء.

 

مادونا عسكر/ لبنان

 

 

في المثقف اليوم