قراءات نقدية

رؤية في مسرح الخراتيت

1100 akeelعن رواية عصر الخراتيت للقاص والروائي الاستاذ سليم جواد

صدرت الرواية عن عمان دار ازمنة للنشر وهي الطبعة الاولى للعام 2015، و تتكون من 287 صفحة من القطع المتوسط بضمنها المقدمة (9-13) والتي تعد قراءتها مدخلا ضروريا لفهم المتقاطع، والمتداخل من سيناريوهات الأحداث، ضمن مسارات ألغازه المختلفة، ما يجعل القارئ منصرفا نحو مشاهد تكاد ان تكون مثيرة الى حد الدهشة والتساؤل.

إن الحديث عن معادلة غير مستقرة يتلوها زمن أصيب ناسه بالبلاء، والخيبة، والخذلان، انما يعود الى هذا الخواء، الذي يقود الانسان؛ يجبره بعض الأحيان لأن يكون فريسة سهلة إبّان عصر، الاخطبوطُ فيه، يجتاح جميع مفردات المجتمع، بما في ذلك، تلك القيم التي تم تجاوزها والتفريط بخصوصياتها قبل ان ينتهك هذا النوع من الافات الروابط الانسانية، للوصول الى حد هذا المستوى من التوحش، والتفسخ، والانحطاط.

هما حقبتان من الزمان متلازمتان في الأزمة، اذ كلاهما يستنزف هذا الكائن، وتلكما حقيقة الحروب المدمرة في غضون عصر يخطط له الطغاة.

اما الأزمة فهي لا تقتصر على مساحات الخراب الشامل للبنى التحتية، بل تستهدف منظومة القيم الاخلاقية؛السلوك الذي اتخذ مسارات منحرفة لهذا النمط من الناس، اوذاك.

هي استشهادات ضمنية حصلت في عهد طاغية العراق، وما بعده، اي ما بعد الانقلاب على الطاغية، حيث جيش داعش، الذي حلَّ بديلا عن الفرق الحزبية، والتقارير، والمنظمات الأمنية كمكون من مكونات هذا الخراب. 

سليم جواد،  عدسته راحت تلتقط صورا عن ساحة الحرب؛ الجبهة فترة الحرب العراقية الإيرانية- "الخوذ، والبساطيل، والانطقة القاسية، والحراب الخاطفة اللامعة...اللون الخاكي، شظايا ظالمة...انواع الاشتباكات..." ص 43، وهناك

حيث الشاهد هو هادي بطل الرواية الذي كان بعدسة مصور ماهر يمنح القارئ مساحة اكثر اتساعاً، لتسليط الضوء على الساحة المدنية والعسكرية- في ساحة الحرب مثلا،  'وقوف هادي امام المعتمد، حيث اخبار الحرب، ودروب الجبهة الموحلة، الجنود المجازين والسيارة التي تقلهم الى كراج الدير ' ص45

بينما ضمن شريط تلك السيناريوهات، العراق مسرح يسيطر على خشبته اللصوص، والمتطفلون، من رجال الحزب الحاكم انداك، المختار، التلاعب بالعقارات، محاصرة الضحية، وترويضها بعد تخويفها-ام حسين نموذجا، انتقال المختار الى محلة الصفوة، بغية الاستيلاء على أراضي العامة من الناس.

" وهكذا وعلى هذه الشاكلة المتعثرة ابتدأت نهضة المختار، حيث توجت بتبوئه مختارية محطة الصفوة، وما أعقب ذلك من استيلاء جائر على أراضي وبساتين وأملاك" ص146

هنا شريط العهر والتطفل والسمسرة يمتد كما دورة دودة خيط شريطية تنتقل من هذا المكان الى ذاك، تتعقبه بطريقة متقنة- ص146

المشهد على هذا المنوال، بقي مكتظا بإنفاس ضحية خائبة تنتظر لحظة الموت، اوالخيانة، اوالحبس، اومصادرة جميع الحقوق الانسانية على شاكلة تلك الاملاك  والعقارات التي كانت تصادر من قبل اجهزة الحزب الحاكم تحت عنوان التبعية. 

" اكتظ المشهد بزخمه وحبست النفوس انفعالاتها....وتكاثفت رائحة الدم مختلطة بالبول والروث... وفي قرارة بحر الصمت سمعت بوضوح غرغرة معدة! فلم يكن ذلك ليبدو الا أمرا تافهاً ! ازاء عظم الهول الذي حل بالمكان" ص133، سطر 18.

اما  هذا النوع من الكوابيس فقد تمثل بمفردات

' السيف، المسدس، طريقة الحديث مع هذا الذي اسمه أبي اليمان، وذلك الخطاب الموجه الى الجالسين مهددا اياهم بقطع الرقاب تحت عنوان الدين'-" بعون الله تمكنا من رقاب لفيف من الكفرة" ص133،سطر 25.

لذلك ببراعة مؤرخ، يمتلك الأدوات الفنية المتميزة للتعببر، سليم جواد أراد ان ينحت أسطورة هذا الخوف، والتردي الممتزج بمواصلة الحياة، وفقا لحقيقة هذين العصرين على لسان هادي، وهو بطل الرواية.

الأم لا تستطيع ان تفعل شيئا بإزاء لحظة مفارقة؛ تلك التي قد تنبئ، أوتندر فيما بعد بالأسر، اوالموت. 

القارئ ينتابه هاجس الوجع، يعتصره الحزن والخوف وهو يعيش حالة الأم التي تودع ابنها لحظة ذهابه الى الجبهة.

" دخلت عليه أمه مرتدية ثيابا سودا وقد أطرت وجهها بفوطتها السوداء أيضاً.. هادي، ابنها الذي عرفته، على الرغم من معرفتها بان حبه لها بقي هو هو....تحت ثقل افكارها كانت تنوء. تململ فبكت، فتضايق من حقيقة عجزه، ومن عدم قدرته على مساعدتها في محنتها" ص49 سطر 3،4،14

نعم هو ارشيف خبري متكامل عن حياة الجندي في سنوات الحرب العراقية الإيرانية لعام 1980-1988، تلك الحياة التي تقوم على المفردات التي تحدث عنها المؤلف، بضمنها الطريق من الجبهة الى القدمات الإدارية، اي الوحدات الخلفية لتلك الوحدة؛ البطرية، اوتلك.

الدير تلك الناحية التابعة الى مدينة البصرة، حيث الطريق من الجبهة اليها يستغرق ساعات بين الانتظار، ولهفة رؤية الاحبة، العائلة التي تعيش حالة الخوف الدائم. هنا ضمن حدود هذه المساحة، هادي يصف الهاجس الذي ينتاب الجندي بعيدا عن التكلف.

" والان فقد تشوش عقله واختلط عليه جور زمنين، زمنين لا يبدوان الا متباينين ولكن في الظاهر فقط، وغشيهُ ضباب كثيف حتى لم يعد قادرًا على معرفة اي الزمنين اكثر بطلانا وبغضا على قلبه: ذلك الذي شوى روحه الفزعة في جحيم القنابل والصواريخ والطلقات، اكثر من ثلاثة أشهر بلا لحظة راحة واحدة، ام هذا الذي توهم انه واجد فيه نسمة حرية وامان" ص40، سطر11

لقد تحول هذه الكائن عبر سياق الأفكار الشاذة، الى كائن مفترس، وتلك سطوة من الافرازات اللأخلاقية، التي تؤول الى ما يسميه المؤلف 'بالصديد'، والصديد التهاب بكتيري قد يسببه تناسل غير مشروع، انه الداء الذي بسببه أنتج شعورا مشوشا، وعقلا مضطربا، تتصارع فيه الافكار.

ام حسين، والمختار، والتبعية، ورعب التسفير، والانتقال من الكرادة الى الصفوة، ولعبة التضييق التي لعبها المختار مع ام حسين بغية تلبية نزواته- النساء اللواتي ارتبطن بأم حسين. تركية، وعلاقتها بابن زوجها شاكر،  الذي تراه بسبب هذا النوع من الجنس "يصطرع مع ذاته الممتحنة" ص214، السطر الثاني قبل الأخير،

بينما المختار يعد نفسه لان يكون حملا وديعا مع ام حسين، ذلك بطريقة خلق اجواء معينة لترطيب حالة الخوف التي تنتابها من رجال الأمن، وأسئلتهم الاستفزازية، ليجعل منها مطية سهلة بين يديه فيما بعد- هي أزمة نفسية واخلاقية، هذه التي الت بام حسين ان تصدق لتقع في شباك المختار بعد ان جاء بها كمنجم؛ مثل قوادة، أودليل لتنفيذ رغائب شهوته، بعد الانتقال من محلة الكرادة الى الصفوة.

هذا المشهد وظفه الكاتب في كتابه عصر الخراتيت ليضئ اللقطات المختبئة خلف الستار.

" رأى ان يلعب معها قليلا وان لا يظهر الا بمظهر الزاهد الناسي المتملص. واكتفى-ليبقي البنت تحت يديه وفي متناول شهوته بأن صرف فعليا في ذهنه كل نية جادة فيما يتعلق بموضوع التسفير أورفع الحماية" 166، سطر 17

اذن القلق المخيف الدائم، هو الهاجس الذي يشعر الفرد بأزائه ان هنالك أمرا ينذر بالهلاك، شئ ما ينتابه، يعتصره،  فيصبح قاتلا، ومقتولا في ان واحد، دون حول منه ولا قوة.

هي أسطورة الوهن الكافكوية هذه التي  أطاحت بالكيان الإنساني، ليصبح على حين غرة مشرنقا بجدار التردد، بائسا، راضخا لهذا النوع من الانكسار، ذلك بعد ان إمتلأ كيانه بالعجز، ليكون هكذا مشلولا، لا يجيد الدفاع حتى عن نفسه، وبسبب هذا النوع من الدمار، جميع انواع الوحوش الكاسرة، تسعى لاقتياده نحو دهاليز الخوف والتصدع والظلام، " مثل حشرة باطلة شريرة" ص144سطر2

رواية سليم جواد الخراتيت تشبه في ضحاياها وأبطالها، موضوعات كامو-العبث، وسارتر- الغثيان، وكولن ولسون-اللامنتمي، هي مثلما ايضا صرخات فوكنر-الصخب والعنف على لسان بنجي المجنون، هي فنتازيا، الجنون، فيها لغة تعبث بالضحية، لتشهد أقصى  لحظات اليأس والاقصاء".

" في تلك اللحظة حسم أمره واتخذ قرارهُ، قرارهُ الذي لم يكن ابن ساعته اويومه اوسنته: وضع كرسيا تحت المروحة وثبت انشوطة المشنقة في محور المروحة وتركها تتدلى تحتها....رغب ان يتمتع بسُكرة عظيمة يختتم من خلالها دورة وجوده في الحياة" ص 30، سطر 15.

احداث صراع كتبت موضوعاتها، لتكون شاهدا على ابجدية عصر تسافلت فيه  اعظم المفردات التي تم الاتفاق عليها في قاموس الاخلاق، ذلك بعد ان تمزق  نسيج كبريائها الانساني،  لتتعرض بشكل متكرر الى القمع في زنزانات الموت والظلام.  

هي في بعدها الإنساني رواية لمارسيل بروست في البحث عن الزمن المفقود.

" شاب مقهور القلب مجروح المشاعر خارج من السجن حديثا يقف على الشاطئ وهو يذرف الدمع على كرامته التي أهينت" ص25-سطر 13.

وذلك يضع القارئ امام احزان تكاد ان تتناسل أحداثها بكل ما فيها من مفردات، لتنتج هذا المصنع الذي منه انتشرت بكتيريا الفكر المدمر.

المطلع، أمثلة، الكتابة عن معاناتها تحتاج الى تامل وجداني، هي مشاهد فيها من السريالية ما يدعو الى الانكماش والخوف من المستقبل، هي ضرب من ضروب اللامنتمي الذي كتب عنه كولن ولسن.

حيث وانت تقرأ في عمق المشهد، تستنج ان هنالك اضطرابا يكاد ان يكون واعيا يلازمه بين الفينة، والفينة، ذلك بحث عن كيفية العثور على طريقة للنجاة، ولكن دون جدوى. 

هي مجموعة تساؤلات تفرض نفسها بحثا عن الحقيقة.

" فجارى هادي نبرته: يا ابت! ما آنا الا شاب مسكين في عالم متوحش..." هنا مع نبرة الاعتراض والتمرد على الكون،  والدين والصلاة، يطلق هادي انكاره لموضوع الرحمة الإلهية معترضا على حجج الشيخ علي، بينما في ذات الوقت يصوب نظراته باشمئزاز صوب رجال الجيش الشعبي، ومسؤول الفرقة الحزبية-ص 254.   

هو تجرد كاموي عن الذات الواعية، وانتقال سارتري الى الذات اللاواعية، واضطرابا فوكنريا للتعبير عن أقصى انواع الالم؛ ما دام المسرح يضج باستغاثات ضحاياه وفقا لمشاهد مستعارة.

في الصفحة 24-25، المشهد يتابع استغاثة فتاة عاشقة تنتظر الهروب مع حبيبها التي كانت معه على موعد، لكنها خانها بعد ان تركها تتلظى بأطوار لا حدود لها من الالم.

بينما يتلوها زاوية، الصورة فيها، الفرد الذي يجعل الانتحار طريقا للخلاص.

" ولكن عجبا! فحين خلت ساعة التنفيذ وازِف الموعد وفتحت الشباك! فإنها لم تجد الا..." السطر الرابع صفحة25. 

نعم هي حكاية السجن فيها ذاكرة تدور أحداثها في مخيلته لتفرض نفسها عند اوراقه التي قرر ان يملأها ذات يوم بجميع تفاصيل ذلك الألم الذي ينهش ذاته، ليشده مرة اخرى الى تلك الدهاليز ،"  صديقه المسجون كان يحتل ويشغل الجزء الأكبر من ذهنه" ص38

هي كما يعبر عنها الكاتب-

" هذه الطريقة البسيطة المبتكرة في الهروب"-ص184سطر 17.

الرمزية، حكاية رسمها الشاهد بكل التفاصيل ، حيث حكاية المرأة التي تبحث عن رغبتها الأنثوية المفقودة لحظة شعورها بالوحدة، وذلك الصراع الذي تجسد لديها بين فطرة الشهوة، وكرامة الفطرة لحظة الغياب والافتراق الذي فرضته شروط الحرب.

" انها وحيدة، منعزلة، شبه منبوذة وهي منطرحة كل ساعات الليل الطوال على فراشها في سريرها البارد المتسع الموحش المفترس" ص184سطر 23،24. بالمقابل، يقتنص الكاتب صورة تركية وحجي عيدان كنموذج اخر-ص214.  

حركة الصراع، مشاهد تتزاحم فيما بينها، مثلما كوابيس تنتاب الانسان لحظة منامه دفعة واحدة. لذلك لغة الأحداث تتسارع لتتلى على لسان-

"روائي مبتئس يعكف على مزاولةِ، والكلمة الأكثر دقة مكابدة للكتابة في ظروف رديئة جدا ساعياً لمعالجة مادته المستعصيةِ معذباً نفسه يوماً بعد يوم في جحيم عزلته ليُخضِعٓ ارادة الهيولى لإرادته، فلا يبدو-في نظر نفسه عند تقييمه إياها وهو يسخر من نفسه إلا كمن يقوم بترويض نمرٍ داخل نفسه. وحين يجئ وقت انتهائه من الكتابةِ فانه يلقي بكل عمل يومه في سطل الزبالة" ص 24، سطر 5-11.

ان ما تناوله سليم جواد، هو رسم الواقع المزري للحرب، والعنف في العراق بطريقة تولستوية، تشهد انكسارا لحقيقة الوجود الاجتماعي للإنسان. 

فالملابسات تتقاتل مع بعضها، وفقا لسياقات التزاحم الفكري، هذا الذي أنتج شخصية ممزقة، تواجه واقعا مزريا. 

هي صورة عصر جائر تم التجاوز فيه على حرمة الحقوق والممتلكات المدنية للمجتمع.

انهيار عائلة ام حسين، هي بداية حقبة جديدة لتردي، وتفكك الاسرة العراقية، بما في ذلك مسالة الهجرة التي آلت الى تمزيق كيان متكامل مع تداخل ازمتين من التاريخ.

الفجوة هي تلك الهوة، والجفاء الذي حصل بين ام حسين وزوجها الذي اعتبر وجوده معها أمرا قسريا في محلة الصفوة ص280

هي مخيلة ذات الكاتب إذن لإنجاز الصورة المشوشة، تلك التي كانت تدب في ذهنه، بحثا عن مقولة اسمها الخراتيت.

 

عقيل العبود/ساندياكو

عقيل العبود 

 

 

في المثقف اليوم