قراءات نقدية

الجنس في الأدب العربي.. ثيمة أم هوية تجنيس!؟ (1)

ali mohamadalyousifمقارنة هويتي الذكورة والانوثة في الادب العربي:

أثيرت مسألة تجنيس بمعنى النوع، للمنتج الابداعي والفني بين ما هو ذكوري وما هو انثوي مرات عديدة، منذ وقت ليس بالقصير، تمثل في مطارحات وسجالات النقد العربي الادبي، وفي بعض المقالات الصحفية، والدراسات في تساؤل مركزي مباشر هل لدينا أدباً ذكوريا عربيا، وآخر انثويا؟ وكل منهما يحتفظ بمقومات بنائية فنية في الشكل والمضمون، وبأي الوسائل والكيفيات يمكننا الوقوف وتأشير تلك الاختلافات الجوهرية التي تطبع هوية كل منهما!؟

وطُرَح الموضوع على صفحات التواصل، وعلقّت بدوري باقتضاب ألجأني قسراً ان اكتب في الموضوع متوخيا التوضيح، وليس زيادة اللبس والالتباس في اخذ ورد سطحي سريع بلا نتيجة يمكننا الاعتداد بموثوقيتها.

هناك كما يعلم ويمارس معظم ادبائنا ومثقفينا وفنانينا خلال نتاجهم الادبي والفني، انه أصبح لدينا منذ مدة بعيدة، فروقا جوهرية في التفريق والفرز ما بين الاجناس الادبية والفنية، منذ ما يزيد عن الف عام واكثر مذ بدأنا نقرأ وندرس الشعر الجاهلي، ونثر الخطابة، والامثال العربية ومأثور القول عند العرب، وعرفنا مثلا اختلاف الشعر عن جميع انواع النثر والسرديات منذ أيام العرب، وتأريخهم، وبيئتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وغزواتهم وما صاحبها من مديح او هجاء شعري.

اذن مع مرور السنين ترسخّت اكثر الفروقات بين الاجناس الادبية، كنوع تعبيري من الكلام المكتوب والشفاهي، واستمرت الحال بالاضافة والحذف والتوضيح الى وقتنا الحاضر، حتى اصبحت من البديهيات الادبية التي يدرسها الطالب ويمارسها المثقف المبدع كتابة، في اختلاف كل جنس ادبي بمقومات شكلية ومضمونية وتقنية اسلوبية وجمالية متمايزة عن غيره من انواع اشكال الادب والفنون الاخرى. فوجدنا الشعر بكافة تحولاته الشكلية وانتقالاته المضمونية، وتلاوينه الاسلوبية، ظل محتفظاً بمقوماته الأساسية كشعر عربي، كما هو لا يزال في بعضه الشكل العمودي من حيث البحور والوزن العروضي والايقاع، ووحدة وتنوع القافية أحيانا. ثم جاء الانقلاب الابيض على الشعر العمودي لضرورات تطور وتقدم الحياة وتأثير الثقافات الاجنبية علينا وأسباب أدبية ليس مجال الخوض بتفاصيلها هنا كونها استنفدت النقاش او الاضافة الجديدة، فتم كسر الشكل العروضي الشعري كما صنفّه ووضع معياريته الفراهيدي. واستبدل الايقاع الفخم الغنائي في عمود الشعر، بإيقاع داخلي خفيض. وجواز خروج لغة الشعر عن النظم الغنائي الايقاعي الباذخ إلقائيا وسماعيا شكلياً على حساب المضمون، الى نوع من التفكيك البلاغي في انساق اللغة واتساقها في المتداول المكتوب منذ أكثر من ألف عام.

فكانت ولادة شعر التفعيلة (الحر) اربعينات القرن الماضي، تلاها انبثاق كتابة قصيدة النثر بتطرف اكثر من السابق بالخروج على الشعر العمودي. ثم جاءت المناداة بالغاء حواجز المنع في دخول الشعر مزارع النثر القصصي، او في تداخل القصة مع أرض الشعر، فولدت لدينا القصة- القصيدة، او القصة الشعرية وتداخل السرد مع الشعر، وفي احيان تداخل الشعر مع التشكيل الفني والموسيقي والآن تداخلت الاجناس الادبية بدءاً من الشعر الى السرد القصصي، الى السيرة الذاتية والتاريخية الى الفنتازيا والمخيال في توليفة روائية واحدة كنص أدبي.

وعلى مستوى تحولات السرد القصصي بأشكاله وتكويناته القديمة والحديثة، فقد طاله التطور والتغيير أيضا. فمن بدايات كتابة القصة القصيرة، والقصة الطويلة، فالرواية، بكل تمايزاتها البنائية الاسلوبية والدرامية. رافقها ظهور نوع من القص الجديد، سمي بالقصة القصيرة جداً. ق.ص.ج، أقل من عشرة اسطر، واحيانا تكتفي بسطرين أو اقل من المفردات المكثفة القليلة. والقصة الايحائية، الومضة الدلالية في استخراج المعنى في محمول اقل المفردات.

ثم نأتي الى السرد النثري غير القصة والرواية، فيتوفر الكثير من السرديات كماً ونوعاً، تتوزع التاريخ، الفلسفة، النقد الادبي بمدارسه كافة، السرد الايديولوجي، وسرد الجغرافيا والسياحة وادب الترحال، والسرديات الدينية، وهكذا في علمي الاجتماع والنفس وغيرها في ضروب المعرفة والثقافة.

أين هوية التجنيس؟:

جميع هذه الاجناس الادبية التي مررنا عليها وغيرها أيضا، تقف الى جانبها أنواع الفنون من تشكيل ونحت ومسرح وسينما من الصعوبة بمكان تناولها وفرزها وتقسيمها هوياتياً الى نوعين من آداب وفنون الكتابة، ذكورية او انثوية، وان لكل من هاتين التسميتين او الفرزين بيولوجيا ذكراً او انثى له نصيب واقعي، في المنتج الادبي والفني، فلا يوجد في الأدب والفنون الذكورية خاصية متفردة جمالياً وفنياً، كتابة وقراءة، بأن لكل من هذين النوعين هوية تَسمُهُ وتطبعه بالادب الذكوري أو الانثوي، في استقلالية وهمية قد نتداولها في بعض كتاباتنا النقدية لكنها غير موجودة في التداخل العضوي الواحد المترابط الوشيجة في التعبير الادبي والفني للأدبين الذكوري والأنثوي، وان وجد مثل هذا التمايز فهو موجود في عتبة النص اوعنونة اسم صاحب المؤلف  الكاتب فقط ذكراً أم انثى. وبخلافه لا يوجد هكذا تمييز وفروقات يشتغل عليها النقد الادبي والفني في تنظيراته وسجالاته. كما هو غير متوفر ولا موجود على ساحة الابداع الادبي في المنجز المكتوب المطبوع او النص المنشور.

ربما يتساءل البعض، لكن مضمون موضوع التناول الادبي الفني والثقافي يحدد لنا الذكورية او الانثوية، فهذا خطأ أيضا، إذ كثيرا ما تتناول المرأة موضوعاً ذكورياً ويتناول الذكر موضوعاً انثوياً، وتجد تداخل ما هو ذكوري وانثوي في النص المكتوب يشير الى تكامل عضوي في بنائية النص، لا يمكننا فصل احدهما عن الآخر، أي أننا وبالحالة هذه نكرر عدم وقوعنا على تمايزات هوياتية تعطينا فرزاً فنياً حقيقياً واقعياً أكثر من عتبة العنوان، وأسم الكاتب فقط. وربما نتعرف على مضمون ومحتوى النص ذكورياً ام انثوياً من الثيمة او الموضوع، وهذا لا يعوّل عليه في كم كبير من كتابات انثوية ومعها كتابات ذكورية، تتبادل الادوار في اختيار الثيمة او الموضوع ذاته، عليه لا يمكننا وضع خطوط حمراء تفصل تداخل النص في المعالجة الذكورية والانثوية معا، فأنت لا تستطيع تناول مواضيع تهم المرأة فقط، إلا ويكون الرجل والمجتمع بأكمله حاضراً وكذا الحال مع الرجل أيضاً.

فالانثى او الذكر ليسا جزراً مستقلة في محيطات لم يصلها بشر ولا مجتمعات متداخلة، لذا نجد صعوبة أن تجد فوارق انثوية او ذكورية داخل النص الواحد في غياب الحضور الذكوري والمجتمعي، وتداخل قضايا الانوثة مع قضاياً ومسائل الذكورة والمجتمع عامة.

يذهب عديدون من الادباء والمثقفين وجود واقع حال ابداعي مكتوب او مشاهد يؤكد غلبة الذكورية في المنتج الابداعي والثقافي بالقياس لمحدودية مساحة وفضاء المنتج الانثوي، وقلة كاتباته من الاناث وهو صحيح، لكن عوامله بيئية اجتماعية وعادات وتقاليد قديمة ابرزها حرمان الانثى من التعليم العالي او التعليم بمراحله. وهذه العوامل هي خارج دراسة النص المكتوب نقدياً أدبيا او فنيا. كجنس ابداعي ادبي ثقافي، وهنا يثار تساؤل ما المقصود بالغلبة الذكورية في المنتج الابداعي الادبي- الثقافي ؟ بالقياس لمحدودية "الكم" في المنتج الابداعي الانثوي، فإذا كانت الغلبة الذكورية في زيادة عدد الذكور في المنتج الابداعي المطبوع او المنشور فهذا واقع حال مجتمعاتنا العربية أدبيا وثقافياً في توفير التعليم بمراحله للرجل اكثر من المرأة، أما اذا كان المقصود بالغلبة الذكورية هوية جنسية بايولوجية، تدمغ بها الأنثى لصالح التجنيس النوعي في الابداع لصالح الرجل، فهي مسألة لا يمكننا الاعتداد بالأخذ بها فجنس المرأة لا يحدد جنس الادب وكذا الحال مع الرجل ايضا.

فالابداع الادبي لا تقاس اهميته وجودته في منجزه الكمي وانما في منجزه الكيفي–النوعي، وإلا لما كان لشهرة المتنبي في تطاول امتدادها الزمني لألف عام؛ ولا لشكسبير لاكثر من خمسمائة عام. وهكذا في الرواية والشعر والسرد بانواعه. فمثلا لا نعدم وجود ابداعات نسوية نوعية تفوق ابداعات الكثيرين من الرجال وبما لا يقاس "نوعيا" فقط. فمثلا كم نوال السعداوي عندنا في مجال الفكر والثقافة والادب والجنسانية التي مرتكزها الاساس قضايا المرأة ومشكلاتها العديدة!؟ حتى في حال افترضنا ان روايتين على سبيل المثال عالجتا "ثيمة" او موضوعاً واحداً في عملين متشابهين منفصلين احدهما لامرأة، والاخر لرجل، فهذا ايضا يؤكد ولا يلغي مسألة أهمية النوع الكيفي في النص المكتوب، ولا أهمية او اعتبار نقدي ادبي او فني ان يكون الكاتب امرأة او رجلاً.

لكننا اذا انتقلنا الى الفروق البايولوجية الفيزياوية ما بين اي ذكر وانثى خاصة في مجتمعاتنا العربية، التي تزداد فيها فعالية اهمية تلك الفروقات بين الرجل والمرأة، وجود التقاليد الاجتماعية الكابحة امام الانثى اكثر من الرجل في التفريق بينهما في الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية والجنسية، وغيرها من امور نجدها عديدة وظالمة مجحفة، يأتي في الاولوية، الجسد الانثوي في تضاريسه الخلقية ووظيفته الجنسية والانجابية وفي العمل ايضا، وكذلك جسد المرأة كموضوع اثير في التناول الابداعي والادبي والفني، بخاصة في جنبته الجنسية الاكثر استثارة غرائزية، وفروقاته عن تركيبة جسد الرجل من كافة النواحي، التي تغذي افضليتها على الانثى في ترسيخ ارجحية الذكورية، اسباباً اجتماعية وعادات قديمة متوارثة وسلطوية متنفذة ايضا. ويشير بيار بورديو في كتابه الهيمنة الذكورية ان البرنامج الاجتماعي في تجنيس الجسد وحقيقته البيولوجية هو البرنامج الذي يبني الاختلاف بين الجنسين البيولوجيين وفق مبادئ رؤية اسطورية للعالم متجذرة في العلاقة الاعتباطية لهيمنة الرجال على النساء.وهي ذاتها متأصلة مع تقسيم العمل حسب الاختلاف البيولوجي بينهما.اي بين الاجساد الذكورية والاجساد الانثوية.وبشكل خاص الاختلاف التشريحي بين الاعضاء التناسلية وكذلك كما هو التقسيم الجنسي للعمل.

ونستطرد هنا في محايثة انه ظل الجسد الانساني عصّيا على "التجريد" رغم ان الاغريق القدماء حاولوا ذلك، أي حاولوا تجريد الجسد في انتزاعه من طبيعته البايولوجية الخاصة به، وذلك في جعل اعمدة معابدهم وقصورهم تشبه القوام الانساني مميزين بين نوعين من الاعمدة بحسب مقاربتها للجسد ذكراً كان أم انثى.

وبقي لدى الاغريق استحالة تجريد الجسد معياراً جمالياً الى الحد الذي جعله فيه الغرب قاطبة مستمدا من (عرّي الآلهة)، في رسوم عصر النهضة بأبرز فنانيها (ليناردودافنشي، مايكل انجلو، غويا، ومانيه) وصولا لمرحلة الكلاسيكية الجديدة في الرسم، دلالة على الكمال الذي يرتقي بالمتلقي في النزوات الدينية.

هذه المقاربة الفنية بالرسم والتصوير واجهها بالرفض اكثر من رسام ابرزهم ادوارد مانيه، أحد فناني عصر النهضة ومن مؤسسي التوجه الشاعري في الرسم، في لوحته (غداء على الاعشاب) التي اثارت حفيظة الامبراطور نابليون الثالث ووصفها بأنها لوحة غير محتشمة ( )، علما ان ماتيس كان لا يرسم  المرأة إلا بعد تعريتها من ملابسها تماماً.

اما فيما يخص الخنوثة (Hermaphrodite) وهي بمعنى الشخص الذي يجمع جسده بين العنصرين الذكوري والانثوي واصلها البايولوجي من اسطورة يونانية، قصة هيرما افروديتس وسلماكيس، الاول هي ان الاله هيرميس افروديتي وقد عشقته عروس النبع الذي كان يسبح فيه، فلما صدّها تضرّعت الى الآلهة لتصنع منهما جسدا واحداً.

اذن يتأكد معنا الآن صعوبة فرز ابداع ما او نص او مطبوع من الاجناس الادبية المختلفة، واسباغ فرادة انثوية ابداعية خاصة بالمرأة – كلامنا هذا خارج كتب ونشريات تعليم الطبخ والخياطة او تربية الطفل ودور المرأة في الاسرة والازياء والتجميل والرشاقة والصحة..الخ- نحن نناقش عمل ابداعي يأخذ صفة التجنيس الادبي كالشعر، والرواية، والقصة، والمسرحية والفن وكذا الحال مع الرجل المبدع كتابة اوفناً. وبخلافه لا نستطيع القول هذا شعر انثوي يندرج في خانة الشعر الانثوي، وذاك شعر ذكوري لمجرد وجود تبادل موضوعة الغزل والجنس بينهما. بل بالعكس هذا يلغي امكانية الفرز بين الذكوري وبين الانثوي فالجنس او الجنسانية ربما تكون موضوعا لنص او كتاب تتناوله امرأة او رجل، لكنه لا ينسحب على بقية الكتابات الذكورية او الانثوية في اضفاء احدى الصفتين على احدهما في تلازم قطعي اما ان يكون ادباً ذكوريا او ادبا انثويا، وسنأتي لتوضيح اكثر في السطور القادمة. ما يهمنا هو عجز الدراسات النقدية الادبية من خلال تناولها اي نص او كتاب مؤلفته انثى ام مؤلفه ذكرا ان يخرج بحصيلة نقدية قرائية مقنعة تمكنّه من وضع دعامات واسس يفيد الاخذ بها في التصنيف الادبي، ومسألة الاصرار الاقتحامي في ايجاد مثل تلك الاسس لا تخلو من افتعال غير مجد.

غالباً ما نجد تبادلاً في الادوار في تقمص المرأة دور الرجل، وتقمص الرجل دور المرأة، حتى احيانا يتبادلان وضع الاسم على النص المكتوب اسم مستعار لتمرير ما يعتقده كاتب النص من رؤى خاصة او قناعات قد تستشير بعض شرائح من المجتمع اوتستفزّها، ونجد المرأة تتكلم على لسان الرجل وتعبّر عن احاسيسه ونوازعه وغرائزه حسب مقتضيات النص وفروضه، وكذا الدور مع الرجل في تقمّص دور المرأة مثلاً في الكثير من شعره، والشاعرة تتقمص دور الرجل على لسان انثى.

للبحث تكملة

 

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم