قراءات نقدية

مع الفيفي ومقاله: أَحْلَى مِنَ التَّوْحيد.. مع المتنبِّي ولعبة المَعنَى

 adnan aldhahir2(مقال الأستاذ عبد الله الفيفي في موقع المثقف لهذا اليوم حول أحد أبيات المتنبي)*

البيت المقصود في قصيدة "غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ" هو :

يترشّفنَّ من فمي رَشَفَاتٍ

هُنَّ فيهِ أحلى من التوحيدِ

لكي نفهم هذا البيت في سياقه العام والجو النفسي للشاعر المتنبي أرى من الضروري الرجوع لما سبقه من أبيات شعرية وما تلاه لكني سأكتفي بما سبقه من أبيات لأنها تحقق الغرض المتوخى :

كمْ قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدِ

لبياضِ الطُلى ووردِ الخدودِ

 

وعيونُ المها ولا كعيونٍ

فتكتْ بالمُتيّمِ المعمودِ

 

درَّ درُّ الصَباءِ أيامَ تجري

رِ ذُيولي بدارِ أثلةَ عُودي

 

عمركَ اللهَ ! هلْ رأيتَ بُدوراً

طَلَعتْ في براقعٍ وعقودِ

 

رامياتٍ بأسهمٍ ريشُها الهُدْ

بُ تشقُّ القلوبَ قبلَ الجلودِ

 

يترشّفنَ من فمي رَشَفَاتٍ

هنَّ فيهِ أحلى من التوحيدِ

أول سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ هو حول مّن أو ما هو المقصود بالضمير "هُنَّ"؟ الفتيات موضوع غزل المتنبي أم رشفاتهنَّ لفمه ؟ ركزّ قدامى نقاد المتنبي لهذا البيت على أمر واحد لا غير: [رشفات أحلى من التوحيد] فقامت قيامتهم كيف يتعرض هذا "الصبي" لمسألة التوحيد (لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ له كفؤاً أحد) بحيث قارنَ أمراً آخرَ دنيوياً يضاهي في حلاوته عقيدة ومبدأ التوحيد الإسلاميين؟ يا ناس ! لمذاق الأطعمة حواس خمس معروفة وطريقها المراشف أو شفاه فم الإنسان واللسان ثم النسيج الذي يبطن داخل الفم. هنا يميز الإنسان فيما بين مذاقات الطعوم والإشربة التي يتناولها في سائر أيامه. فهل للتوحيد أو الإيمان طعم خاص تميّزه الشفاه واللسان بحيث يمكن مقارنته بمذاقات الأطعمة والأشربة مما يتناول البشر في العادة؟ ما طعم التوحيد ، حلو .. مر .. حامض .. أو حامض حلو؟

إدّعى بعض نقاد هذا البيت أنَّ الطعم المقصود إنما هو طعم روحاني ليس طعماً حسيّاً ! حتى القرآن الكريم لم يقطع في أمر الروح (يسألونك عن الروح قلْ هي من أمر ربي) فما هو هذا الطعم الروحي إذا كنا نجهل كنه ومغزى الروح؟

أعود لسؤالي السالف الذكر: لمن يعود الضمير "هُنَّ" .. للقُبل أم للفتيات موضوع النسيب والغزل والتشبيب أم لكليهما؟

المتنبي دائم المواظبة على قراءة القرآن وتقصي معانيه وطالما استشهد بالبعض من آياته كما فعل في هذه القصيدة بالذات. أردتُ أنْ أقولَ إنَّ الشاعر وقد قال ما قال ما كان يجهل مغزى هذا القول وما يترتب عليه من نقد وهجوم واستنكار وإكبار. نعم، قال هذه القصيدة في صباه كما جاء في مفتتح القصيدة وفي الصبى يقول و يفعل الصبي ما لا يقترف الناضج والكبير. ملاحظات إضافية:

1ـ (رَشَفات هنَّ فيه أحلى من التوحيدِ) إستعارة مجازية فاشلة فنيّاً ولا تمتُّ بأيّما صلة لعالم الشعر الحقيقي. لا علاقة لها بالروح ولا بأعضاء التحسس البشرية فالتوحيد والإيمان لا طعم لهما ولا يمكن أنْ يكون. لا حلو ولا مر ولا حامض ولا [حامض حلو] .

2ـ التمر التوحيدي: لو قصد المتنبي هذا النوع من التمور لقال " أحلى من التوحيدي " بدل " التوحيدِ "..

ففي العراق هناك التمر الزهدي والخستاوي والسلطاني والأشرسي والخضراوي على سبيل المثال وجميعها ينتهي بحرف ياء الإضافة . ثم أنا العراقي الأصيل أصلاً وفصلاً ومولداً ونشأة لم أسمع بتمر يُدعى التوحيدي.

3ـ المتنبي يقرأ ويفهم القرآن لذا أستبعد أنه ما كان يقصد " التوحيد " أي وحدانية الرب الخالق وكان قد استعار بعض آيات القرآن منها عنوان قصيدته هذه فضلاً عما ورد في أحد أبيات القصيدة " كالمسيح بين اليهودِ " :

ما مُقامي بأرضِ نخلةَ إلاّ

كمُقامِ المسيحِ بين اليهودِ

4ـ قال المتنبي هذه القصيدة "في صباه" أي أنه في التقدير ما كان يتجاوز الرابعة عشرة من عمره حين كتب قصيدته هذه والكل يعلم ما في هذه السن من طفرات وقفزات ومغامرات لفظية وسلوكية وما إلى ذلك.

ـ لا أرى فيما قال المتنبي حول "التوحيد" إحدى الكبائر إنما كبيرة الكبائر في نظري هي في قوله في قصيدة له أخرى : 5

أنا الذي بيّنَ الإلهُ بهِ ال

أقدارَ والمرءُ حيثما جَعَلَهْ

هنا كبيرة كبائر المتنبي فقد جعل من نفسه وسيطاً بين الرب وعباده ورسولا به تتبين أقدار الخلق فهذا للنار وذاك لجنّات الخلود أو أنه ماثل نفسه بآدم الذي عرف أو حزر أسماء البشر وكافة الأشياء قاطبة حين عجزت الملائكة عن ذلك.

سؤال أخير: ألا يجوز تفسير هذا البيت وخاصة لفظة "التوحيد" أنَّ الضمير "هنَّ" يعود للإثنين للصبايا ثم للمراشف وقصد الشاعر بالتوحيد هو وحدة المراشف بالإلتصاق أو وحدة العشّاق بالحب أو بالزواج .. وأنَّ قُبلات العشاق أحلى من الوحدة (التوحيد) بالحب أو بالزواج... مجرد فذلكة نظرية ضعيفة أصلاً.

 

د. عدنان الظاهر

28.1.2018

...............

للاطلاع

أَحْلَى مِنَ التَّوْحيد.. مع المتنبِّي ولعبة المَعنَى / ا. د. عبد الله الفيفي

 

 

في المثقف اليوم