قراءات نقدية

المعنى الرمزي للحيوانات في قصة لقصي الشيخ عسكر

saleh alrazuk2

اختار قصي الشيخ عسكر لقصته (في حديقة حيوان كردلان)* شخصيات من عالم الحيوان. وهذا أمر مفهوم ما دامت قصته أصلا عن قفص في حديقة حيوان، يجتمع فيه حمار وأسد.

وتدور فكرة القصة حول تسلية زوار الحديقة بمباراة محسومة النتيجة سلفا بين الأسد ملك الغابة وحمار مسكين ليس له عمل ولا وظيفة غير الجر والسحب أو الحمل. إنما جاءت المفاجأة حينما ضرب الحمار فم الأسد بقوائمه وكسر له أنيابه. ولعل القصة كانت تريد أن تنمي من شأن الروح الوطنية للقارئ العربي وفي زمن لا نعرف فيه غير الانكسارات والهزائم.

فالأسد مصدره من آسيا،  ومن منطقة لم يحددها الكاتب، وتركها مفتوحة لفطنتنا. أما الحمار فهو عراقي، ومن أول نظرة تدرك مبلغ المعاناة والكد اللذين مر بهما في حياته الشاقة. وأن ينتصر حمار محلي على حيوان كاسر جاء من الخارج يعني أن التصميم والإصرار وسرعة البديهة والتصرف أنقذا حياة المسكين من موت محقق.

ولكن ليس هذا هو المهم. إذ لا بد لأي كاتب أن ينحاز لعاطفته الوطنية. والمهم هو كيف وظفت القصة رموزها.

بالنظر لأرشيف الأعمال الأدبية، التي اتكأت على حيوانات، لدينا في الذاكرة عدة خطوط.

- الأول من التراث وهو (كليلة ودمنة). وفعلا لا يمكن أن تعزل أصوله السنسكريتية عن أسلوب ترجمته. فهو كتاب حكائي ملتبس، تشترك في صياغته عدة ثقافات. ولذلك يمكن أن يكون نموذجا عن أدب بلا هموم محلية ولا تفكير وطني. أو أنه أدب لا يحفل كثيرا بمشكلة الأرض والصراع بشأنها ومسائل التحرير والمقاومة. وإنما يبحث عن مصادر الحكمة الإنسانية أينما وجدت ويسقطها على عالم مختلط تحتل الحيوانات باعا عميقا منه.

ونحن نعلم مسبقا أن (كليلة ودمنة) لا يخلو من الاتجاهات التربوية. وحتى لا نظلم الكتاب حقه ونحمله أكثر مما يحتمل يجب أن لا نقرأه قراءة طبقية. فمضمونه الاجتماعي لا يعدو عن الإشادة بالخير ومصادره وإدانة الشرور مهما كان شكلها أو منبعها. فهو عمل يهدف لغايتين، الإمتاع والمؤانسة (أو الترفيه والتسلية) أولا ثم تقديم نصائح وإرشادات وبعض الدروس التي تجدها في العقل الشرقي.

ولا يمكن أن تقارن محاور (كليلة ودمنة) مع الإلياذة أو ملحمة جلجامش مثلا. فالصراع في هذا الكتاب هو صراع بين أفكار وليس بين طبقات من البشر أو بين أمم وشعوب. ولذلك كانت الحكمة منه صالحة للتدويل. إنها ذات غاية أممية.

- الخط الثاني من الأدب العالمي الحديث، ومثاله (مزرعة الحيوان) لجورج أورويل. ومع أنه عمل ضعيف برأيي، وتغلب عليه الإسقاطات السطحية والمباشرة التي تخلو من العقل الفني وموجباته، لكن استطاع أورويل بغنى ثقافته وتجربته النضالية الواسعة أن يسوّق مضمون روايته. وكان النزاع بين الحيوانات في الغابة يشبه استراتيجية القناع في المسرح الإغريقي. إنه لا يتستر على الفكرة بل يفضحها ويزيد من سميتها وشحنة المباشرة التي تنطوي عليها.

ويمكن أن تقول إن أورويل أعاد صياغة روايته البسيطة فنيا في عمل آخر له نصيب أقل من الشهرة، وهو (متشردا بين لندن وباريس). وفيه يتابع معاناة الإنسان الضعيف في مجتمع غابوي لا يرحم تتحكم به قوانين السوق والأخلاق التي تنبع من ضغط الحاجة والضرورة. فالإنسان في هذه الرواية مثل الحيوانات التي صورها في عمله الرمزي. إنه يتعرض للابتزاز من قوتين تفتكان به. الحضارة الرأسمالية الحديثة، وهي تجتاح كل ما يقف في طريقها. وكل من يسقط من قطارها السريع ويجد نفسه عرضة لارتكاب العنف والموبقات بما فيها القتل والاغتصاب والسرقة ليحافظ على حياته وبقائه.

- أما الخط الثالث والأخير فهو الذي يؤاخي بين أنصار الشقاء والكد العضلي، وبين أصحاب المعاناة الذين وقعت عليهم شرور الاستغلال. وأبسط وأقرب مثال على ذلك (وداعا غوليساري) لجنكيز إيتماتوف.

ولمن ليس لديه فكرة عن محتوى وشكل هذه الرواية الأساسية فهي تصور بائعا متجولا هو تاناباي باكاسي مع حصانه الأشهب الرشيق، والحوار الذي يدور بينهما. الحصان يستمع، ويمشي، والإنسان يتكلم وهويقوده في الوهاد وسفوح المرتفعات، إلى أن يهرم الحيوان ولا يجد تاناباي مفرا من التخلي عنه وفراقه.

وأجد مفارقة في هذا الأسلوب. فهو يعيد للأذهان مشكلة القتل الرحيم ومبرراتها كما تناولها إيان ماك إيوان في عمله الدافئ (أمستردام).

طبعا إن قصة قصي الشيخ عسكر لا تسقط في أحابيل أي خط، وتستفيد أو أنها تختزن في طياتها تلك الخطوط الثلاث السابقة،، وتلعب بالأبطال من النوعين كليهما: بشر وحيوانات لتقودنا إلى فضح فكرة العنف وكيف يتم تصنيع الأزمات.

فالحيوانات لا تجد نفسها في قفص من حديد بمحض الصدفة، والصراع المفروض عليها حتى الموت لا يتم في مجال مفتوح. ولكن بتدبير وتخطيط مسبق يحمل بصمات عقل شرير وإجرامي. بمعنى آخر لا يمكن مشابهة نزال الأسد والحمار بسباق السلحفاة والأرنب. مع أن النتيجة جاءت ضد التوقعات لكن الحكمة منها ذاتية، ومنبعها هو السلوك الشخصي. فالعوائق التي تكلم عنها بروب في بنية الحكايات الشعبية غير موجودة. لقد كان السباق غير مدبر ولم يخطط له أحد من وارء ستارة، ولم تكن هناك صفقات من تحت الطاولة. لقد عقد الإثنان اتفاقا على مباراة بريئة.

أما قصة الشيخ عسكر، فقد كانت وراءها دوافع الطرف الثالث، والذي أعتقد أنه محرض ومستفيد، وليس مجرد شاهد محايد على المجزرة التي ستجري،  وكأننا حيال الساحة الغريبة والعجيبة التي سقط فيها الشرق الأوسط منذ الاستقلال وحتى أزمة الربيع العربي.

فوراء هذا الانفجار الدامي يوجد من خطط له عن سابق قصد وتصميم لتبديل المعادلة التي تتحكم بقوانين التوازن بين كل الفرقاء منذ عام 1945 وحتى عام 2006. أي منذ بداية الحرب العالمية الثانية وحتى تحرير جنوب لبنان من إسرائيل. وما رمز الأسد ورمز الحمار وقفص الحديد إلا دليل على لعبة مبرمجة رسمتها إدارة حديقة الحيوانات. ولكن هذا الصراع غير المتكافئ لم يذهب بمجراه الطبيعي. فالطبيعة لها مفاجآت والأحداث الهامة مع أنه تحكمها قوانين وضعية لا يمكنك أن تجزم بالاتجاه الذي ستسير فيه.

 

د. صالح الرزوق

...................

* في حديقة حيوان كردلان. منشورة في صحيفة المثقف الإلكترونية.  العدد رقم  4187، بتاريخ، الأربعاء 21/2/2018 .

 

في حديقة حيوان كردلان / قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم