قراءات نقدية

جمعة عبد الله: قراءة في قصة.. محنة عشتار للأديبة سنية عبد عون

يتمثل الشكل الجمالي في السرد، في براعة نسيج الصياغة الفنية، في لغة مغناطيسية تشد القارئ بتلهف، وتحفيزه الى متابعة احداث الحدث السردي، في ديناميكية متصاعدة في درامية تفاصيل الحدث وتطوراته المتلاحقة، وكذلك براعة الرؤية الفكرية والتعبيرية الدالة بشكل بليغ، التي لامست الاحساس الملتهب بمشاعره الانسانية الداخلية، والضمير الحي في تصوير معالم النص السردي وخياله الفني الواقعي بكل جوانبه، ليعطي جمالاً لدور الاديب الملتزم تجاه قضايا الناس والوطن، بالشعور الانساني المتضامن، كأنه يتعايش مع تفاصيل الحدث السردي في داخل مشاعره، بكل تفاصيل المعاناة والظلم والحرمان الكبير لشريحة كبيرة من الشباب، الذين امضوا زهرة شبابهم من أجل الحصول على الشهادة الجامعية، وحين تكللت جهودهم بالنجاح في نيل الشهادة الجامعية، وجدوا انفسهم امام أبواب الحياة موصدة في وجوههم، كأنهم فائضين عن الحاجة والطلب والقيمة الانسانية، مما يفجر الاحتقان بدواخلهم بالإحباط والخيبة، بأنهم أصبحوا ضمن جيش العاطلين، مما يزيد من معاناتهم وبؤسهم و فقرهم وعوزهم، بأن دروب الحياة جفت ويبست بشكل لا يرحم، هذا الشعور يعمق الفجوة والشرخ الكبير، بين الواقع وشباب المستقبل، أن يصبح مصيرهم مجهول الهوية، مما يزيد القهر الحياتي الذي يتفجر بداوخلهم، في مطالبهم البسيطة، التي تقرها الشرائع السماوية، بالخبز والعمل والحرية . وحين يعبرون عن معاناتهم بالتعبيرالحر أو التظاهر السلمي، نجد سوط الإرهاب والبطش يترصدهم في كل زاوية . كأن الواقع ضد التعبير عن نيران الظلم والحرمان والحيف ( فكان التظاهر وسيلة العاطلين الوحيدة ليطالبوا بحقوقهم بعد تخرجهم من الجامعات.. فقد اكلت معاول السنين أجمل محطات أعمارهم الفتية ونبذتهم ساحة عمال البناء وذاقوا لهب سياط العوز والفاقة..) ويصبح صوت القمع ورعيده المخيف، هو الوسيلة لخنق الأصوات الشابة وإجهاض تحركاتهم السلمية في مطالهم الشرعية والبسيطة، يرفضون أن يصبحوا من جيش العاطلين، هذا الرفض يواجه بالقسوة المفرطة (حتما سيكون التظاهر وسيلتهم الوحيدة وعزاء نفوسهم للتعبير عما يجول بخواطرهم المتعبة ومعاناتهم الأبدية مع الفقر الذي عصي الفكاك عنهم..) هذا الشاب الطموح الذي حصل على الشهادة الجامعية، اقترن بفتاة بعلاقة الحب الصادق والعفيف، كان يرسمون مستقبلهم بالألوان الوردية، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فوجدت الشابة التي كان يداعب قلبها الحب واصرت عليه بالبقاء، رغم ضغوط العائلة والعشيرة بفرض الزواج عنوة عليها، وكانت تعلل نفسها بالذرائع المختلفة، لعل تنفرج أزمة حبيها الشاب الجامعي، وكانت تغازل حبها وهي تتورد أوداجها بالفتنة والجمال . كأنها سليلة عشتار (إله الحب ) ( بضفائرها السود وعقد يطوق جيدها ونظرة عينيها الصغيرتين الحادتين تبدو أجمل صبية رأتها عيناه.. عشتار (كما يناديها) أضناها تعلقها به ولوعة روحها.. لكن أحلامها تبقى نقية..) وكان يأكلها القلق والهواجس المخيفة على حياة حبيبها الشاب، وهو ينغمر في حماسته في الانخراط بالتظاهر السلمي، يطالب بحقه الشرعي في فرصة العمل، ورفض أن يكون من جيش العاطلين، والتظاهر السلمي الوسيلة الوحيدة للعاطلين، فكانت تخاف عليه من العواقب الوخيمة، وخاصة ادارة سلطة الواقع، تعتبر التعبير بالرأي الحر والتظاهر، جريمة لا تغتفر، ونسوا كلام سيد البلاغة الامام العظيم علي (ع) يقول (الفقر في الوطن غربة) فكيف الخلاص من الواقع المأجور، الذي ينشر زعانفه واخطبوطه بالإرهاب والقمع، فكيف السبيل والمخرج؟، حتى مصباح علاء الدين رمي في اعماق البحر !! . هذه دوافع الخوف والقلق على حبيبها الجامعي / العاطل، اضافة الى الضغوط الهائلة من العائلة والعشيرة في ارغامها على الزواج عنوة . لذلك انها تعيش محنتين في آنٍ واحد، أحدهما أشد ضراوة من الاخر، هل هناك سبيل تطرح اسئلة كثيرة على نفسها، ولكن دون جواب . وهذا نص القصة:

***

جمعة عبد الله أديب وناقد ومترجم

...................................

محنة عشتار

 سنية عبد عون

سنية عبد عونتبدو الفتاة قلقة حياله.. والسؤال الذي يبقى ملحا داخل راسها لم تنطقه بعد أمامه.. فهي تلوذ بالتأني.. كانت تنتظره كل يوم بعد عودته من نهار عمل مضن من خلال كوة في غرفتها دون ان يلاحظ ذلك الترقب وتلك القطرات المتساقطة من مسام جسدها الرقيق في نهار تموز اللاهب.. لقد غدت تدور في أفلاكه ولا انفكاك منها وليت الزمان ينصفهما ويلم شملهما دون عناء..

بضفائرها السود وعقد يطوق جيدها ونظرة عينيها الصغيرتين الحادتين تبدو أجمل صبية رأتها عيناه.. عشتار (كما يناديها) أضناها تعلقها به ولوعة روحها.. لكن أحلامها تبقى نقية..

فقد قال لها يوما ان قاربنا لن يغرق أبدا وستجري الرياح بما تشتهي السفن ولن تبقى لهفتنا مضطربة في غد.. وهي تصدقه تماما لكن في دواخلها تسكن أفكارا مرعبة لا ترغب ان تبوح بها أمامه..

جرأته وحماسته أزاء الأحداث في ساحة التظاهر وازاء البطالة التي رافقته منذ سنين عالقة بمخيلتها.. فهي تقف بين نارين كليهما يعذب روحها..

براءتها تروي قصة شقائها انها تهرب منه واليه..

ومن الحاح اسرتها وسعيهم لتزويجها دون يعرفوا سبب رفضها.. فهذا زمن تتفجر فيه صخور الارض لمعاناة الارواح المثقلة بشظف العيش..

فكان التظاهر وسيلة العاطلين الوحيدة ليطالبوا بحقوقهم بعد تخرجهم من الجامعات.. فقد اكلت معاول السنين أجمل محطات أعمارهم الفتية ونبذتهم ساحة عمال البناء وذاقوا لهب سياط العوز والفاقة..

عشتار مصممة ان تمضي بانتظارها دون ان تضل طريقها.. لكنها تتوجس خوفا من اجله انه يسلك طريقا وعرا وإنها ابدا في قلق مريب.. حين يلقي قصائده بين حشود اقرانه.. وبين حشود المتظاهرين.اشعاره تلهب حماستهم ليطرقوا كل الابواب المؤصدة امام ربيع صباهم.. وكما يقول سيد البلاغة (الفقر في الوطن غربة)..

في سوق المدينة تسحب غطاء رأسها برقة وتأنٍ وترمقه بنظراتها الوله وهي تتهجى حروف اسمه مرارا في سرها وتتعمد ان يراها.. خطواته المتعثرة تنبئها بلهفته وشدة شوقه.. تبتسم له بغنجها المعهود وتمضي.. وكيف تفضح سر قلبيهما وان يشاع خبر قصتيهما..

ستجبر بالتأكيد على زواجها عنوة من أي طارق يتقدم لخطبتها.. وربما لا يتقدم لخطبتها أي رجل وتلك هي سمة تقاليدنا والعشائرية التي غدونا نسبح بفضائها عند ذاك يتهاوى قطار عمرها سدى..

في المقابل هناك في ساحة المدينة حيث يتجمع الفتية.. لم ينتبه الفتى الى ما حل بقدميه الحافيتين وقميصه المتهدل وهو يدس جسده المتهالك وروحه الهائجة بحماسة آمالهم الضائعة وغير آبه بمن قضى نحبه في هذا المكان.. .. فهم لا يمتلكون صخرة يستندون اليها ولا حتى قريب ذو نفوذ يسندهم بعد الله سبحانه وتعالى..

حتما سيكون التظاهر وسيلتهم الوحيدة وعزاء نفوسهم للتعبير عما يجول بخواطرهم المتعبة ومعاناتهم الأبدية مع الفقر الذي عصي الفكاك عنهم..

تقول فتاته.. يا لدهشتي ظننته لا يقوى على حمل جسده وسط حشود المتظاهرين.. كان الفتى يفتح ذراعيه واسعتين لإحساسه بوجع يدفعه بإرادة لم يشعر بها من قبل لكنه لا يعرف كيف يصفها لحبيبته التي تؤنبه وتخاف عليه من الأذى وترفض ان يندس بين تلك الحشود الصاخبة وهي تسمع وترى عويل الامهات الثكلى وأنين الحبيبات.. الخوف يملأ قلبها الغض دائما وأبدا من أجله..

كان التفكير بالهجرة أمرا واردا بالنسبة له.. لكن ذلك قبل ان يعرف تلك الحبيبة التي شدته لجذور هذه الأرض.. انها المرأة وهي الحبيبة والوطن..

أما الصبية.. فكانت تراقب سنان الرعد والغيث الهاطل.. أمانيها الموحشة يتسامق فيها العوز والضجر ولحظاتها أشد قسوة مما يعانيه فتاها فهي مثله غدت جليسة الدار بعد سنوات المثابرة لسنين خلت فهي تعيش ضمن أسرة كثيرة العدد قليلة المورد تشكو العوز هي الأخرى.. فلا منقذ لهما سوى مصباح (علاء الدين)..

تطفح حمرة على ملامح وجهها الأسمر وهي ترمقه بنظراتها المتفائلة.

فاجأته بضحكتها الخافتة وهي تسأله بشيء من الخجل: ما الذي يجري هناك في تلك الساحة.. ؟؟؟ وهل هناك نتائج بشرى قادمة.. ؟؟؟.. اتمنى المشاركة بالرغم من هواجسي وخوفي ولكن اهلي منعوا تواجدي هناك فهم يعرفون أساسا ليس هناك من يحترم انسانية الانسان وحقه في التظاهر..

أجابها بحماسة.. الشمس وحدها تعرف ضراوة المشهد وحماسة القلوب التي تحترق هناك

انها لحظات تعسر فيها الطلق وصراخ الوليد..

.. قالت: تقودني محنتي الى اسئلة كثيرة..

***

في المثقف اليوم