قراءات نقدية

البيروسترويكا في روايتين: مقتل بائع الكتب لسعد رحيم وغراميات بائع متجول لبرهان الخطيب

صالح الرزوقبعد انطلاق البيروسترويكا والتبشير بعالم جديد، يذكرني بمبدأ أوغلو التركي في تصفير المشاكل، دخلت المنطقة في دوامة من المتغيرات، وانسحب ذلك على الأدب والرواية بشكل أساسي. فالرواية أصلا هي فن أزمة. وضمن هذا الإطار أنظر لروايتين صدرتا بالتزامن هما (مقتل بائع الكتب) لسعد محمد رحيم و(غراميات بائع متجول) لبرهان الخطيب. وإذا كان لا يمكننا وضع العملين في سلة واحدة، ببساطة لأن رحيم هو غير الخطيب، فإن الحكاية متماثلة. وتدور حول بائع كتب يتجول بين الشرق والغرب، ثم ينتهي في رواية رحيم بمقتل غامض، وهو أصل الحكاية أو الدافع للأحداث. بينما يهرب في رواية الخطيب من موسكو إلى استوكهولم بحثا عن الأمان والاستقرار. غير أن الحكاية في أي عمل فني ليس خاتمة المطاف. فالأسلوب وطريقة بناء الشخصيات لهما نصيب الأسد في أي دراسة أو تحليل. ولا شك أن العملين كانا على وجه نقيض، ولا يوجد بينهما أي شيء مشترك.

كان أسلوب رحيم بلا مواربة مع ما بعد الحداثة. فالأحداث موزعة على عدة أطوار وأمكنة، والعلاقة بين الشخصيات طارئة، وقد اختار رحيم بطلين لعمله.

* صحافي يروي كل شيء من وجهة نظره. وهذا مستوى أول. وكان محكوما عليه أن يدور في حلقات مغلقة داخل البلاد، بين بغداد وبعقوبة والسعدية، وهي من ضواحي بعقوبة.

* وبائع الكتب. وهو شاعر فاشل ومغمور. وتجول بين براغ وباريس وستراسبورغ، وتورط بغرام فاشل قبل أن يعود لينهي أيام حياته بشكل فاجع ومأساوي.

والغموض جزء لا يمكن أن تفصله عن عاطفة الرواية كلها. مع الظلام تجد طبقة كتيمة وكامدة من غبار ودخان المعارك. وهناك الفراغات التي تفصل بين أطوار بائع الكتب من لحظة السفر وحتى مقتله. وقد تكفل أول شخصية بإعادة ترتيب أجزاء الشخصية الثانية، كما نفعل في الدومينو، واستعمل بقايا الميت لرسم صورته. بتعبير آخر لجأ لما يسميه الفكتوريون الذاكرة المفقودة. ورمز لها بالمذكرات (جريا على أساليب روايات عصر النهضة والتنوير ثم بدايات الثورة الصناعية). وأضاف لها اكتشافات ثورة عصر المعلومات مثل أشرطة التسجيل والفيديو. وخلال هذا التنقيب (أو الحفر في نظام معرفة الشخص الغائب) كان الصحافي يقترب شيئا فشيئا من الشاعر، ويتماهى معه، وأحيانا يحاكي ظروف حياته.

بتعبير آخر كان الحي يقلد الميت، أو أن الحاضر يعيد إحياء الماضي. ويبدو لي أن ما جرى هو حالة تلبس واستيلاء شيء موجود على متعلقات شيء ميت. وبتفسير بسيط، ودون ضغط على السياق، أرى أن الاستعمار بشكله الحاضر (في زمن الرواية) تكفل بتحويل الروح إلى حضارة أو مجتمع إنتاج مديني.. وكأن الرواية اعتراف بدور الاستعمار في التأسيس لتاريخ نشوء المدينة العربية.

وبهذا المعنى يقول: التاريخ هو ما نقرأه ونفهمه. ص 30. ويضيف نحن ندين بوجودنا للكتب والنساء والمدن. ص30 ولذلك المدن تنهض وتزدهر في أحضان الإثم. ص 30.

وربما كان سعد رحيم يعتقد أن خطأ الحضارة مثل أخطاء الوجود البشري، وهناك تلازم بين الواقع والخطيئة. ويقول بهذا المعنى على لسان مرزوق (بائع الكتب) إن الحضارة ليست نظيفة مثل التخلف. ص 32.

وإذا قرأت جيدا كتابه عن أساطير ورواد التنوير ستنتبه أنه يشترط الصدام مع الاستعمار لبناء حضارة المدينة العربية وتعريف الإرادة (و هي تساوي لديه الحرية الواعية وليس الغرائز والرغبات وفوضى االشعور الباطن). ولا يوجد شيء غريب في هذا التفسير. فسعد رحيم في كل كتاباته مشغول بالدعوة لعصر التنوير الثاني، وبالأخص أن مشروع الفكر العربي قد مني بالفشل، ولم يحصد غير الخيبات المتتالية، وآخرها عودة الاستعمار. لقد غير اسمه وشكله فقط، من انتداب إلى تحرير.

وهذا هو موضوع الرواية الحقيقي، تحرير بغداد من نفسها، وتحرير الإنسان العربي من إرادته، وتغييبه بالموت أو بالدوران في حلقات مفرغة من الخراب واللاجدوى والعبث. وبهذه الرؤية يمكنني النظر للشخصيتين على أنهما شيء واحد. الميت كان يبحث عن الاستعمار وراء الحدود ليحقق شرط بناء المعرفة. والحي يبحث عن خلاصة خبرات الميت ليححقق شرط إدراك المعرفة. وليس هناك فرق يذكر بين الحالتين، سوى أن الأول له غاية ذاتية، والثاني له هدف موضوعي. وهذا يضمن لمعارفنا أن تكون خيالا أو ظلا سقراطيا لسلسلة تجارب الأجيال السابقة. بتعبير آخر الواقع المعيش هو الخيال. والواقع الافتراضي أو رواسب التجربة التاريخية هي الخيال المرتسم على جدار التطور.

وأستطيع أن أفهم ذلك بضوء ولع سعد رحيم بألعاب الحداثة المستمرة أو ما بعد الحداثة. حتى أن بطله الأول كان لا يوفر فرصة إلا ويذكر أسماء رموز مولعة بالظلام وقوة الصناعة مثل موراكامي وكونديرا ...

إن حداثة رحيم ملحمية وتؤسس لسلسة من مغامرات يؤديها إنسان بسيط يخاطر بحياته مثل أي بهلوان يقفز على السلك المشدود في السيرك.

وهذا يفتح لنا الباب، لماذا لا نقول البواية، على وسعها، للنظر في رواية الخطيب. كان أسلوب العمل لا يخلو من توابل ومقبلات الروايات الغربية. ويمكن أن نتابع مشاهد عراك تشترك فيه نساء جميلات بثياب مشدودة ومغرية. أو مشاهد طائرات هيلوكوبتر تطارد سيارة على أتوستراد. ناهيك عن المغامرات التي استغرقت ربع الرواية في غرف النوم، وما تتضمنه من تعرية ووصف لأجزاء حساسة من المرأة والرجل.

وإذا كان لا بد من توضيح، أذكر هنا جون لو كاري الذي اهتم بالجاسوسية ومشاكل الحرب الباردة بين المعسكرين. وغراهام غرين ولا سيما رواياته المصنفة بين أعمال التسلية والتشويق مثل عمله المعروف (رجلنا في هافانا) أو روايته الكاثوليكية (بندقية للبيع).

كان الخطيب لا يخلو في ألعابه الفنية من الضرب على وترين حساسين.

الأول تفتيح البنية المغلقة لرواية القرن التاسع عشر تمهيدا لتخفيف بعض الأحمال الثقيلة عنها. وقد نجح بذلك أيما نجاح في بواكيره ولا سيما (شقة في شارع أبي نواس)، ثم في (ضباب في الظهيرة).

الثاني تصعيد المشكلة الأزلية بين الشك والإيمان. وهنا كان الشك بالنظام. أما الإيمان فقد ركز على مجموعة عناصر هي بمستوى ماهيات، ومنها الشغف بمصادر اللذة الحسية، والتحويل الفرويدي لفكرة السعادة من تلامس إلى اتصال، أو من سعادة مكانية لسعادة زمنية، يعني روحية.

وفي النهاية جاءت الرواية بكتلة واحدة. كانت تتطور ضمن نفس المربع الأول. وقدمت لنا حاملا وحيدا لا ثاني له، وهو البطل المركزي. ولكنه كان مشتتا، وفي حالة محاسبة أو مراجعة للذات، ولم يخجل من أن يوجه سهام النقد اللاذع لنفسه. وأول خمسين صفحة هي أصلا نقد وإيروتيكا. وإن لم يكن البطل بتمام عريه في السرير بين أحضان هيلينا، فهو يناجي خياله أو ظله، أو أنه يوبخه على ما في رأسه من أفكار. فهل كان يرى أن حياته بحاجة لتنقية، لفلتر، لعمليات تنظيف من أورام لا تراها بعينك وتشعر بها بذهنك وقلبك؟؟.

أعتقد ذلك!!.

ووصلت مناجاته واحتجاجه على ذاته لدرجة مناجاة هاملت للأرواح. وهذا مفصل هام آخر في هذه الرواية التجريبية. فقد كانت تدعو للإصلاح على طريقة أبطال ديكنز، ولذلك هي رواية تفكيك لا تركيب، وشخصياتها تتماهى مع نفسها فقط، ولا تكرر غيرها.

وهذا هو أهم فرق بين العملين.

فنحن أمام حكاية بلد يلملم جراحه ويحاول أن ينهض من تحت طبقات الرماد ومن بين ألسنة النار، ومعها حكايات حب مؤسفة أو مؤجلة، وضمن إطار محزن ورمادي (رحيم).

مقابل حكاية أفراد من عوالم تتقاطع ولا تتوازى، وكل فرد يحمل معه أخطاء نظامه وأصوله الطبقية والعرقية، وفي إطار تراجيدي يذكرنا بالمأساة السوداء التي منحها شكسبير كل جهده (الخطيب).

ولذلك كان مشروع سعد رحيم يقوم على تماهي الأجزاء مع الكل، بينما مشروع برهان الخطيب يعمد لتعليب أفكار كل شخصية بصورة واحدة. وقد سهل ذلك علينا مهمة التنقيب فيها، واكتشاف مستويات كانت مدمجة وحان الوقت لتتداعى (على طريقة التساقط والتفكك الذي قدمه غينوا إشيبي في "الأشياء تتداعى").

 

صالح الرزوق

 

 

في المثقف اليوم