تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

رؤية نقدية لتجربة الأديب غسان ونوس في مجموعته: الزمن الراجع

57 غسان  ونوسعلى العموم لن أقوم هنا بتقديم دراسة نقدية كلاسيكية لكل قصة فيها من حيث أسلوبها ومفرداتها وزمنها وشخوصها وأهدافها، وإنما سأقدم فقط دراسة نقدية للمجموعة كلها كنص واحد، محاولاً تبيان رؤى وأسلوب ما بعد الحداثة الذي بنيت عليه قصص هذه المجموعة. وقبل عرضنا لأهم نقاط التلاقي ما بين أفكار وأسلوب هذه المجموعة وما تقول به نظرية ما بعد الحداثة، دعونا نتعرف على حوهر هذه النظرية أولاً.

إن نظرية ما بعد الحداثة كما يفهمها (جاك ديدرا) والكثير ممن نظر لها في الغرب، تقوم على مفهوم للحركة الفكرية بآلية ديناميكية، بحيث تعمل هذه الحركة الفكرية على اقتحام عالم من الأفكار أو المواقع النظرية التي تؤدي إلى تصادم ورفض الكثير من المعطيات والحوادث الثقافية التي كانت للحداثة، وحتى للكثير من الأفكار والرؤى التي طرحتها بعد الحداثة ذاتها أيضاً على الساحة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

إن فكر ما بعد الحداثة في سياقه العام، يعارض من حيث المبدأ كل ما يتعلق بالهوية أو الأصالة، كما يقوم بتفكيك الكثير من المفاهيم والقيم المتعلقة بشيء إسمه الحقيقة والتقدم والنزعة الإنسانية وما شابه ذلك. وبكلمة أخرى إن فكر ما بعد الحداثة اتجه في خط سيره العام إلى التشكيك في إمكانية الوصول إلى الموضوعية أو الحقيقة. وهذا المنطق الما بعد حداثوي يتطلب بالضرورة التخلي عن، أو تجاوز الفرضيات والمواقف المنفتحة على المصالح المشتركة بين الناس، وكل ما يتعلق بالتضامن الإنساني، كما يفترض هذا المنطق أن أية محاولة لتقديم تشخيص أو علاج لما هو مطروح من نظريات أو مواقف تتعلق بالتضامن الإنساني وحل المشاكل المعيقة لهذا التضامن، ستؤدي حتماً إلى الوقوع في الكليانية التي ستنزلق إلى ممارسة الدكتاتورية.

إذن إن أفكار ما بعد الحداثة وفقاً لهذه الرؤية، تعمل على سحب البساط من تحت أقدام كل ما هو (أصيل) راح يتجسد في الحركات الاجتماعية الكبيرة ممثلة بنظريات أو أيديولوجيات مثل القومية والاشتراكية والليبرالية وغيرها، وهذا يجعلنا نفكر بلغة هويات جديدة بعيدة عن تلك النظريات أو الأيديولوجيات الأصيلة أو ما يؤدي بالوصول إليها. فالموقف الفلسفي اتجاه الأشياء الإنسانية الناشئ هنا عن رؤى ما بعد الحداثة هو موقف ينزع إلى نسبية تلك الأشياء، ويدعونا إلى نبذ التطلع إلى الحقيقة بوصفها هدفاً يتعذر بلوغه من حيث المبدأ، حتى ولو كان الأمر يتعلق بفكرة ناظمة، أو تتضمن رؤية أولية لطرح حلول أولية لمشاكل الإنسان القيميّة. فالنظريات المطروحة لحل مشاكل الإنسانية سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، هي ليست أكثر من سرديات، وطالما هي سرديات، فيمكن للإنسان (الفرد) أن يختار (ذاتياً) ما يبدو له أكثر نفعاً أو اطمئنانا وراحة، ومن هذا المنظور تغدو الأحكام الأخلاقية مسائل تتعلق بتفضيل ورغبات وحاجات شخصية، وهذا يشكل في الحقيقة عائقاً أمام أية حاجة موضوعية لها بعد إنساني عام من جهة، ومن جهة أخرى يسد أمامنا الطريق لتأييد أو شجب أية ممارسة سياسية أو ثقافية أو غيرها من الممارسات بشكل محدد.

إن ما بعد الحداثة كما تبدو لنا من خلال هذه المعطيات، تعمل على إلغاء إمكانية الاستمرار في نوع من الانغماس النقدي في عصرنا. كما أنها ترفض أي تأسيس ثابت للقيم الايجابية في المجتمع الإنساني، كونها تتغاضى من حيث المبدأ عن أكثر الممارسات السياسية والفكرية قمعاً ورجعية. إنها تدعو إلى أخلاق تحجم عن جميع تمثلات (الهوية) ، ولا تفرض مطالب على الآخر لكي يتمثل أي نظام قائم على الحقوق الشرعية، أو القانونية، أو قواعد محددة سلفاً عن الشرف والعدالة والمحبة.([1])

بعد هذا العرض الأولي لأهم أفكار نظرية ما بعد الحداثة، نعود إلى المجموعة القصصية لأديبنا الكبير "غسان كامل ونوس" ( في الزمن الراجع)، كي نقدم قراءتنا النقدية لهذه المجموعة.

يتبين لنا من خلال قراءتنا لهذه المجموعة أن الأديب "غسان ونوس" استطاع أن يوظف الكثير من أفكار نظرية ما بعد الحداثة في البناء النظري (الفكري) والفني لقصص مجموعته. ففي هذه القص يغيب عنده تماماً البعد الأيديولوجي لما تسميه هذه النظرية بالسرديات الكبرى، حيث لا نعثر في هذه المجموعة على أي إشارة لمسألة القومية أو الاشتراكية أو الدين أو الليبرالية، فكل الذي نجده هو مواقف ذاتيه تعبر عن حالات (فردية)، لأناس أو أفراد مقموعين ومقهورين ومهزومين من الداخل، ومهمشين وكأنهم يعيشون في جزر معزولة عن محيطها الاجتماعي... ناس حالمين أكثر من كونهم فاعلين. فحالة الغربة التي يعيشونها أوصلتهم إلى اليأس واللامبالاة، حيث تكثر لديهم الأسئلة عن قضايا ملحة في حياتهم الخاصة لم يستطيعوا الاجابة عنها، أو تهربوا من الإجابة عنها والبحث عن أسبابها والتفكير في كيفية تجاوزها، أو قد أوصلهم اليأس الذي هم فيه إلى عدم الرغبة في الإجابة عنها أصلاً لأنه لا جدوى في معرفة الإجابة.

وهنا ننتقل إلى فكرة أخرى من أفكار ما بعد الحداثة يتبناها القاص غسان في مجموعته وهي فكرة التفكيك، فظاهرة التفكيك تبدو جلية في كل قصص المجموعة إن كان على مستوى السرد القصصي، حيث تجد القاص ينقلك في سرده المتقطع زماناً ومكاناً لأحداث قصصه من موقع فكري وجغرافي إلى آخر، حتى تشعر وكأنك تعيش في جزر متناثرة من الأفكار والأماكن لا يربطها مع بعضها سوى القاص فقط. ثم تجد في هذا التفكيك أن كل قصة من المجموعة القصصية تتمحور في الغالب حول شخص واحد فقد أو إثنين، وإن وجد شخوص آخرين فهم نادرون، لذلك تفتقد قصص المجموعة إلى الحوارات الشخصية ببعدها الاجتماعي الديناميكي، وغلبة المنولوجات الداخلية لأبطال قصص المجموعة، الأمر الذي يجعلك تشعر بغياب اللحمة الاجتماعية أو التضامن الاجتماعي، في مضامين قصص المجموعة. ومع غياب التضامن الاجتماعي تغيب هنا أيضاً قيم الفضيلة القائمة على التعاون والمواساة والمحبة والتشاركية في سراء الحياة وضرائها. وعلى هذا الموقف التفكيكي يأتي الموقف الأخر لنظرية ما بعد الحداثة واضحاً في قصص المجموعة، وهي قيم الشك وعدم اليقين، وقيم النهايات وعدم الجدوى من السعي للفضيلة، فكل الأفاق مسدودة وليس هناك مجال للخلاص، وهذه القيم البعيدة عن الأمل والتفاؤل بحياة أفضل، نجدها بداية في عناوين معظم قصص المجموعة مثل (قبل الوصول- الجثة – العصا – التابع – في اللجة – العزاء – ثقب أسود)، كما نجد مفردات وتعبيرات ما بعد حداثوية في هذه المجموعة منتشرة بشكل واسع في قصص المجموعة مثل: الموت واليأس وعدم الجدوى والضياع والانكسارات والقهر والظلم واليأس والجوع والجفاف والظلمة والوعي الخامل والرصاص والبرد وتصحر الروح والكثير غيرها من مفردات اللامعقول التي تبشر بها نظرية ما بعد الحداثة.

على العموم، نستطيع القول بأن الأديب القاص "ونوس" في خوضه مغامرة الدخول في عالم ما بعد الحداثة، استطاع أن يحقق انجازاً فنياً جديداً اقتحم عالم القصة القصيرة على الأقل، وهي تجربة قد سبقه الكثير من الأدباء الشعراء والفنانيين التشكليين وبعض من اشتغل على قضايا الفكر كـ (علي حرب). والملفت للنظر أن "غسان" لم يتبن كل أفكار ما بعد الحداثة في مجموعته القصصية هذه، لما تحمله هذه الأفكار من قيم سلبية لا تنسجم مع قيم وأخلاق وطموحات غسان المشبع أصلاً بقيم الوطن والمواطنة والمحبة. "فغسان" لم يتناول فكرة ضرب الأصالة أو تجاوزها، كونه يدرك ان العدمية ستزيد من معاناة مجتمعنا، فهو ظل متمسكاً في جذوره التي أسهم هو كثيراً في أعماله الأدبية السابقة واللاحقة ربطها بالمعاصرة، كما أنه لم يتبن الفهم الوجودي والعبثي الذاتي للحرية، كهدف فردي لتحقيق اللذة، أو الرغبة اللا مشروطة، فهو أيضاً لم يزل متمسكاً بالحرية بالرغم من أنها لم تأت عنده في هذه المجموعة كوعي للضرورة، أي هي تفتقد إلى أساسها الفلسفي العقلاني النقدي، بالرغم من أنه حاول أن يعطيها بعدها الاجتماعي، وهذا ما أكده في قصته الأولى من هذه المجموعة وهي (رؤيا)، حيث يقول في نهايتها: ( الشمس تصعد متباطئة، تزداد ابتسامتها، وتتضاحك أكثر، حين ترنوا إلى أعداد تتكاتف من كائنات تسعى مثلي لمقابلتها قبل أن تسخن تماماً، كل على انفراد...) ص12. فهو في رؤيته هذه رغم أنه يشير في نهايتها إلى التفكيك والرغبة بالوصول إلى الحرية (كل على انفراد)، إلا أن هذا التفكيك ليس هدفاً لديه أو رغبة بالتفكيك، وإنما تأكيد على أن حالات التشظي الاجتماعي التي نعيشها في عالمنا العربي المتخلف، تتطلب منا تجاوزها، ولن يتم تجاوزها إلا بتكاتفنا، (.. من كائنات تسعى مثلي لمقابلتها..).

عموماً لقد لاقت نظرية ما بعد الحداثة عند نقادنا اليساريين الكثير من النقد، حيث تم تسليط مبضع نقدهم على أفكارها وعلى المشتغلين عليها في الساحة الثقافية العربية، معتبرين أن أفكار ما بعد الحداثة هي تعبير عن معاناة المجتمعات الأوربية، وهي مشروع أيديولوجي يعمل على خدمة الطبقة الرأسمالية الاحتكارية، وتعميق غربة الشعوب ومعاناتهم، ودفعهم نحو المجهول واللامعقول خدمة لهذه المصالح، لذلك فإن كل من يتعامل معها من كتابنا وأدباءنا فهو يساهم بهذا الشكل او ذاك في تعميق تخلف أمتنا وزيادة معاناة أبنائها وتعميق لحالات قهرهم واستغلالهم من قبل أنظمة استبداديّة لا تختلف في طبيعة توجهاتها السلطوية عن توجهات الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الأوربية، لا سيما وأن الطبقة الحاكمة العربية في معظمها قد التحمت بالطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية، وأصبحت شريكة لها. هذا وأن مدرسة ما سمي بالحداثة داخل عالمنا العربي منذ فترة السبينيات في مجال الأدب بشكل خاص، قد اهتمت بسحر اللغة وطرائق تعبيرها وتراكيبها على حساب وظيفة اللغة الاجتماعية التي يهمها أن تنظر في قضايا المجتمع الأساسية فيما يتعلق بتناقضاته الطبقية وصراعاته مع القوى الرجعية والاستعمارية.

من هنا جاء دفاع جمعية (الفن والحرية) في مصر عن نفسها بعد تبنيها المدرسة السريالية هذه الجمعية التي مثلها آنذاك كل من (أنور كامل – وجورج حنين – وكامل التلمساني)، وأصدرت بيانها التأسيسي الأول عام 1939 الذي حددت فيه موقفها من الحداثة في مشروعها الفني حيث جاء في هذا البيان : (من المعروف أن المجتمع الحاضر ينظر بيعين الاشمئزاز إلى كل خلق جديد في الفن أو الأدب طالما يهدد النظم الثقافية التي تؤكد قدم المجتمع سواء أكان من ناحية التفكير أم من ناحية المعنى... فمن سيزان إلى بيكاسو وكل ما أنجزته العبقرية الفنية المعاصرة، هذا الانتاج الكثير للحرية، والقوي الشعور بالإنسانية، قد قوبل بالشتائم ودوس الأقدام،. ونحن نعتقد أن التعصب للدين أو للجنس (للعرق) أو للوطن الذي يريد بعض الأفراد أن يخضع له مصير الفن الحديث، ما هو إلا هزاء وسخرية. ونحن لا نرى في هذه الأساطير الرجعية إلا سجوناً للفكر. إن الفن بصفته مبادلة فكرية وعاطفية دائمة تشترك فيها الإنسانية جمعاء، لن يقبل مثل هذه الحدود المصطنعة.).([2]).وهذا الدفاع عن الحداثة جاء أيضاً لدى العديد من مؤسسي مدرسة (شعر) في بيروت، فهذا "يوسف الخال" يكتب عن أهداف مدرسة التجديد في الشعر التي أسسها قائلاً: ( وعي التراث الروحي – العقلي العربي وفهمه على حقيقته، وإعلان هذه الحقيقة وتقييمها كما هي دونما خوف أو مسايرة أو تردد... والغوص إلى أعماق التراث الروحي - العقلي الأوربي وفهمه، وكونه، والتفاعل معه ... وكذلك الإفادة من التجارب الشعرية التي حققها أدباء العالم والامتزاج بروح الشعب مورد حياة لا ينضب، أما الطبيعة فحالة زائلة.).([3]). كما جاء في دفاع الأديبة "خالدة سعيد" عقيلة أدونيس عن الحداثة ذاتها في مجلة (شعر) قولها: (وهكذا تطلع الشعر والنص الابداعي عامة إلى النهوض بالدور الفلسفي والفكري والاجتماعي وبالدين أو الأسراري (وليس الدين). وإذا كانت الحداثة حركة تصدعات وانزياحات معرفية – قيمية، فإن واحداً من أهم الانزياحات وأبلغها هو نقل حقل المقدس والأسراري من مجال العلاقات والقيم الدينية والماضوية إلى مجال الإنسان والتجربة والمعيش.).([4]). اما أدونيس فيقول في دفاعه عن أدب الحداثة بأنه: (لا تقول إن الفن الثوري هو فن الذات، أي فن الإبداع الشخصي، إلا لأن الذات كانت غائبة . لم تكن ثمة ذات، بل أشياء ومنظومات ومؤسسات، وإلا لأنها تريد إعادة الوحدة بين الذات والموضوع، لكن هذه الوحدة لا تتحقق إلا بعد التهديم الشامل النهائي للبنى البيروقراطية الاقطاعية وعلاقاتها. وهذا التهديم يكون على الصعيد الابداعي الشعري ذاتياً أو لا يكون...فالشعر الثوري لا يكون فعالاً إلا في جمهور يمارس العمل الثوري. دون ذلك يتحول إلى ظاهرة إعلامية. والشعر – التظاهرة يفرغ اللغة من طاقاتها الفعالة. ذلك أنه يتحدث بلغة تناقض العمل. إنه ظاهرياً واقعي، مباشر، ولكنه جوهرياً بديل لفظي لواقع يعجز أصحابه عن السيطرة عليه وتحويله.). ([5]).

إذن إن كل ما جاء في دفاعات هؤلاء المجددين من الأدباء والفنانين في الأدب والفن التشكيلي، يأتي من باب تحريك الساكن في الخطاب الثقافي العربي الذي لم يستطع أن يحقق شيئاً لهذه الأمة على أي صعيد حياتها العملية تحت مظلة أنظمة سياسية تدعي الثورية والتي كانت تتكلم كثيراً باسم الجماهير في الوقت الذي لا تسمح فيه لهذه الجماهير أن تتكلم. فأعمالهم برأيهم هي منطلقات فكرية لرسم ملامح جديدة لعالم عربي يريدون له التقدم والنهضة بعد كل هذه السنين الطويلة من التخلف والعتمة. وعلى هذا الأساس تأتي تجربة الأديب الرائع " غسان محمد كامل ونوس".

ملاحظة: هناك خلط واضح في الحقيقة بين مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة في الرؤى والأفكار، أو المدارس الفكرية التي تبناها هؤلاء، فالحداثة في عمومها هي مشروع حياة متكامل البنى يشمل كافة مستويات الحياة، وهو حالات من التطور المستمر بشكل حتمي لحياة الفرد والمجتمع، بغض النظر عن نوعية هذا التطور ودرجته لدى المجتمعات تاريخياً، والحداثة ضد التفكيك وضرب الأصالة والنهايات، الحداثة مشروع تنويري ابتدأت إرهاصته الأولى على المستوى الفكري /الثقافي/ مع الحركة الأنسية في بداية القرن الخامس عشر، وامتد مع تطور الثورة الصناعية وتطور العلوم، وصولاً إلى عصر التنوير. وإن معظم قيم الحداثة هي قيم إيجابية ركزت على حرية الإنسان وإرادته، وإعطاء فسحة واسعة لعقله كي يمارس دوره في تقرير مصير وحياة هذا الإنسان الذي سحقته القوى الرجعية أولاً ممثلة بالكنيسة والنبلاء والملك، ثم الطبقة الرأسمالية وثورتها الصناعية وكل الأنظمة الشمولية فيما بعد. أما ما بعد الحداثة، فهي موقف أيديولوجي مدروس وموجه بشكل مسبق، تريد تأصيله وتعميمه قوى طبقية استغلالية لا تعرف إلا مصالحها فقط. وهو تعبير عن حالات الضياع والدمار التي دخلتها أوربا ومواطنها منذ قيام الحرب العالمية الأولى([6]). فالمدرسة السريالية والوجودية والتفكيكية وغيرها من مدارس تدعوا إلى التفرد والذاتية المطلقة، هي تدخل في مضمار ما بعد الحداثة بالنسبة للثقافة والحضارة الأوربية، أما في عالمنا العربي فهي تدخل بالضرورة في عالم الحداثة ولكن بطريقة عكسية.

 

د.عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية

........................

[1] - للإستزادة في نظرية ما بعد الحداثة يراجع التالي من المراجع : 1= مجلة النهج –مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي- دمشق – العدد /6/ 1996- ص 227 وما بعد.= وكتاب طرائق الحداثة ضد المتوائمين الجدد- تأليف – رايموند ويليامز- ترجمة – فاروق عبد القادر- اصدلار عالم المعرفة – الكويت- العدد /246/. – وكذلك وكتاب ما بعد الحداثة- د. سامي ادهم – اصدار دار الكتب- بيروت-1994.

[2] - المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والنقديين- مرجع سابق –ص21.

[3] -المرجع نفسه- ص 63و64.

[4] المرج السابق- ص 66.

[5] - المرجع نفسه ص 68.

[6] - راجع في هذا الاتجاه كتابنا – قضايا التنوير- اصدار دار التكوين- دمشق -2010

 

في المثقف اليوم