قراءات نقدية

بعثرة الهوية الذاتية واشكالياتها، جيورج أنموذجاً.. قراءة في (الحكم) لـ (كافكا)

منذ الوهلة الأولى يطالعنا العنوان باهميته؛ ذاك لأنه يشير إلى قضية، حفزت النص الى تناولها وشرحها، لتجعل من محورها عنواناً، فهو –العنوان- عتبة اولى للنص.

(الحكم) قد يكون هذا العنوان مألوف وبسيط عند القارىء، لكنه في المضمون يحمل دلالات وتوريات تحتاج الى فك شفرة النص وقراءته لأكثر من مرة لفهم مافي داخله من (اشارات) بعضها صريح ومعلن، والآخر مضمر يحتاج الى قارىء دقيق (ذكي) لفهمه، فالعنوان يمتلك رونقاً وخاصية فردية وقدرة على جذب القارىء للنص، وهو –العنوان- هوية الكاتب ودليله لتحمل هذه الهوية الدلالة الخفية للنص، وعندها نستطيع القول : إنّ العنوان يفصح عمّا يعجز النص عن الأفصاح به؛ لأنه الشريان النابض والباث للحياة في البحث والأعمال الأدبية، وهو بداية الشد للنص .

وهو اول مايكتب في النص الشعري والروائي؛ لأنه البذرةالأولى (الثيمة) للأفكاروالمعاني أو لأنه بؤرة أفكاره ومعانيه، وليشدنا هذا العنوان الى القراءة لمعرفة قرار(الحكم) بإزاء من وظف؟ وهل هو حكم قانوني؟ أم حكم أسري؟ هذا من ناحية العنوان، ومايحيل اليه.

فـ (الحكم) تناقش اشكالية الهوية وتبعياتها، نتلمس هذه الأشكالية عند المحور الرئيس فيها(جيورج) الذي عانى جُل هذه الأشكالية وتبعياتها، وهي أشكالية فردية تنحصر بذاته فقط، لنرصده يسعى جاهداً الى أثبات وجوده، وتمثل هذه الأشكالية من اشد واعقد الأشكاليات ذلك لأن (الفردية) تعني (العزلة-الأحادية-، غير الأنتماء، الفقدان، الأنعدام، التشرد، الأنتقاص، الأنا المبعثرة بين المجتمع-عدم الأنتماء للمجتمع- ...الخ).

من هنا نتلمس أن شجن (جيورج) تولد من هويته الضائعة، ويعود السبب في هذا الضياع والفقدان الى سلطة العامل الأبوي؛ لأنه ينتمي الى سلطة (اب) فرضت وجودها عليه، وبذلك زحزحت كيانه ووجوده وبعثرت انضباطية ذاته الإنسانية، لكن هذه السلطة الجافة من لدن الوالد شاء لها الزوال بمجرد وفاة والدته التي توفيت أثر حادث مؤسف، مما اضطر(جيورج) للعيش مع والده العجوز في منزل مشترك، من هنا نفهم أن (الاب) أسس وجوده وقوته واستمدها من والدة (جيورج)، الذي عانى –جيورج- سلطة(الاب والام) .

ونشطت هذه الغريز السلطوية للأب بالنمو من جديد بمجرد خطوبة (جيورج)، ذلك لأعتقاد (الاب) أن ولده سيمتلك السلطة من خطيبته مثلما كان هو-الاب- يستمدها من زوجته، لذا نجده سعى من جديد الى تهميش وجوده وخلخلة هويته الشخصية عن طريق السعي الى زرع عامل الشك داخل ولده، الذي فوجىء بصحة ابيه العالية وقدرته التي كان يعتقد أنها اضمحلت.

الأحداث تحدد مكانها بـ (روسيا)، والشخصيات محددة بـ (جيورج –الابن-، والاب-بندمان-، والام، والصديق الذي يعيش في –بطرسبورغ-، والخطيبة التي توظف كشخصية من دون وقائع وأحداث ترتبط بها).

كان (جيورج) يكتب لصديقه التاجر الصغير الذي سافر ولم يعد ولم يتواصل معه ومع غيره، حتى اسلوب التعزية لـ (جيورج) جاء باسلوب جاف علل (سببه سوى أن الحزن في الغربة على مثل هذا الحدث يصبح غير قابل للتصور كلية).

الجانب العملي لمتجر (جيورج) تفوق، خصوصاً بعد وفاة والدته .مما اضطره (مضاعفة عدد العاملين، وتضاعف حجم المبيعات خمس مرات).

كان (جيورج) يكتب كل شيء لصديقه الحاضر الغائب، ألا أنه ثمة أشياء سعى الى اخفائها عنه منها (تطور الجانب العملي –ذاك لأنه في رسالة التعزية الآخيرة كان يعمل على اقناعه بالهجرة خارج روسيا-)

ثم انتقل الى كتابة الرسائل العادية مثلاً خطوبة انسان لا اهمية له من فتاة تساويه في الأهمية ليبدأ صديقه بالأهتمام بهذه المسألة .على عكس ما كان يبغي اليه (جيورج) الذي عمد الى كتابة مثل هذه الأمور بغية عدم معرفة صديقه بأمر خطبته .على الأنسة (فريدا براند نفلد)التي تنتمي الى أسرة ميسورة الحال، والتي نكتشف فيما بعد بإنها كانت على علاقة مع صديقه المغترب.

أي أنه وظف اسلوب التمثيل على الذات، وهي صورة لهوية مضطربة، بمعنى أنه عمد أن يكتب عن مشروع خطوبته بصيغة الغير، ثم لنكتشف فيما بعد بإنه قد اخبر صديقه بامر خطبته.

اشكالية الهوية المفقودة نتلمسها إذاً عن طريق ثغرة الصديق، والذي كان يعتقد (جيورج) أن والده لايعلم بأمر المراسلات فيما بينهما، ليفاجىء وينصدم بردة فعله – الاب- والأنتقالة المفاجأة في صحته وهو الرجل الضعيف ذا الشعر الأشيب المنفوش وذا الملابس المتعبة، وسعيه الجاد الى زرع الشك في ذات (جيورج) وتشكيكه بأمر المراسلات، وهنا نقف امام ضدين أو مفهومين الأول: ماهو مغزى الوالد من هذا الأمر؟ هل هو أمر يعود الى نفسية الوالد الذي نجده تارةً يريد منه الرحيل، وتارةً اخرى يريد منه البقاء؟ الثاني: يعتبر صديق (جيورج) البعيد صورة الأبن الضائع – وهو اخ جيورج-.

كل هذه الضغوط الممارسة بإزاء (جيورج) جاءت عن طريق سلاح الاب المجاني المتمثل باللغة، وهي دليل على أن الكلام أشد وقعاً من الفعل، وغاية لفرض الذات على الغير وزرع الشك فيها، ومن ثم تسبب أختلاجات داخلية تزعزع الثقة بالذات، مما يولد فقدان الهوية الشخصية (الهوية الفردية)، التي اجبرت (جيورج) فيما بعد على الأنتحار.

وقد سعت الكتابة الى نقل التفصيلات المجانية سواء للشخصيات أم للمحيط المرتبط بهم، ونقل برجوازية الأسرة، صورة الذات، الأنا المضطهدة، الذات الداخلية، الرغبة بين تحقيق الذات او عدم تحقيقها، نقل اداة التسلط المتمثل باللغة التي تعد من اخطر الأسلحة الموظفة ضد الذات الأخرى.

اخيراً، إن النص حمل مهمة نقل هدف اجتماعي ينحصر في عدم توظيف مفهوم الأضطهاد الأسري بإزاء الأبناء، والعمل على نقل الصورة التي كان يمتلكها الأب (بندمان) بإزاء (جيورج)، أي بمعنى أن على الأسرة زرع عامل الثقة والسعي لتحقيق الذات للأبناء، وهي رسالة وجهت بلغة مفهومة وهادفة، لفئات المجتمع كافة.

 

بقلم: وسن مرشد

 

 

في المثقف اليوم