قراءات نقدية

البراق عبد الجليل في شيخوخة أوراقه المغازلة بطفولة الذاكرة

احمد الشيخاويصحيّ جدّا وأنأى ما يكون عن حالات الانعزال المرضية، التشبّث بالتفاصيل الأعمق و الأكثر توغلا في الذاكرة، أو لنقل تلفا حتّى، وذلكم حين تحاصر الذات أوجاع الشيخوخة، وتنثال الجسد متعثّرا بفوضى الجوارح، أسئلة الموت المحرجة.

إذ الكتابة بوصفها أوبة أو عودا مخمليا إلى القصي من مضارب الطفولة البعيدة، لا يمكن إلاّ أن تتبرّج بزخم وكثافة الصور المضمّخة بمعاني الحياة التي قد تتوسّلها ذات طمرتها التجارب حدّ الإيذان بانقضاء فتيلها المتوهّج، تمهيدا لعمر إضافي أو مرحلة استشراف مغر ومدغدغ بطقوسيات تجاوز نوبات زحف الموت إلى مخيلة خصبة لا تسأم تجريبية تشبيب الروح في بدايات تشكل ملامح خريف العمر، و إعادة تأهيلها، لا يُقعدها مثبّط عن المكابرة واستئناف النضال الإبداعي والحياتي على حدّ سواء، بل تفجّر في الذات أملا مُنسيا ومواسيا لم تك لتطفئ بمثله ظمأ وجدانيا أو تشفي به غليلا ملء عمق الجراحات، في سابق العهد.

وهنا تبرز وظيفة التحول الذاتي استطرادا في تبوأ منازل النضج الذهني المنقذ لما تبقّى من ذبالة روحية، بغية القذف بالذات المبدعة والزّج بها في أتون عوالم بديلة قد لا تكسّر من إيقاعات مغالبة حياة الشيخوخة، ولا تفسد مذاق حواس تهترئ وتتقادم رويدا رويدا، بل وتوّسع معاني توليفة الشهواني والصوفي لديها وقفا على اجتراح جرائر الإبداع الاستثنائي والمغاير ملائمة وتوأمة لتصاعدية منسوب النضج وتسارع توهّجه عقلا وعاطفة.

إنها كتابة إخراج، تضع الجسد في إطاره الطوباوي، مشرعة الذاتية على أسئلة الموت، خدشا بفلسفة تأجيل الآني، أو غوصا في محاولات تضميده بالأحرى، قفزا إلى إلهامات الرتوشات الغيبية المغدقة على الروح إذ ترعى شبابها بحذر، من الطاقات الايجابية ومناهل الأمل البرود، عدل ما يجفف اللحظة المتوعّكة بمثالب الشيخوخة، مجنّبا إياها فخاخ الانهزامية الضاغطة والدافعة باتجاه تأدية المزيد من الضرائب والدمغات الجبائية التي قد تفرضها معايير هذه الشيخوخة المترهّلة.

تجربة انبعاث، ممتدة في تربة الانقراض الوشيك وممسوسة بغرائبيته وسيرة ظلاله، أو انفلات معزّز للمغالبة الذاتية التي عبرها ومن خلال تعاليمها فقط، تظفر القصيدة بعنفوان الأبد وترتقي سلّم الخسارات كمعادل لقرابين المقايضة الوجودية التي يبرّر بياضاتها حجم الصمت المستفزّ، و المرتّب بوشاياته مشاهد الشيخوخة المنذورة لاستنطاقات الفناء مطرّز اللغز بجملة الغيبيات المُلهمة والمتسببة بجلال هذا النزيف على قلقه وتشكيكيته، هذا النزيف المرّ المكنّى عطالة عن الحياة، بل كتابة تنرسم لتجليات الذاكرة الطفولية في لبوس شيخوخة قاهرة بهواجسها وأسئلتها وعدميتها.

قبل أن نعود لاستكمال هذه المعالجة، يجدر بنا التوقّف عند هذه الفسيفساء كغيظ من فيض لصاحبنا، وهو يعلن حربا نفسية على جهات العري والغضاضة والثغور الملغومة بخيوط سم حقبة من حياة الإنسان تدعى شيخوخة، فيخرج بفضل مخياله الجشِع الأكول، وروحه الشابة المرحة، و طفولة قصائده، مزهوا يتلمّظ عناقيد الانتصار على عطالة وعبثية الحياة.

[ أحدّق بعيد ..

لا شيء في الأفق،

لا شيء على امتداد البصر.

سوى طفل هناك يتأمل الغروب،

تربى بين الكتب يصقل الكلمات...].

.................

[تسرب الجليد إلى عروقي،

عبر شظايا مسام جلدي ...

و أنا أرقب الساحل الموتور

متلفعا بالصمت،

متلفعا بالغياب،

و الخوف،،،

متلفعا

برضاض قلبي المكسور].

......................

[ألفيت قرب الثقب الأسود،

سؤالا فاتنا:

هل أصابك عشقي ؟؟

قالت:

أنا الروضة التي هي أنت،

أنت النجم الذي هو أنا.

برجة السؤال،

وصعقة السؤال،،

بكيت حتى،،،،،

حتى نط من عيني قوس قزح .

حتى،،،،

رأيت النجم و الروضة،

تعشبا أمامي،

يمارسان طقوسا نابضة،

بشعر الحياة.].

.........................

[ حرّريني من جسدي..

حرّريني من الاشتهاء والشهوة..

حرّريني من عقدة لساني...

حرّري بوحي لك: أنني أراك ربوة..

تثمر العناق والقبل والانصهار

بالعروة].

....................

[ ويشدو بقلبي شادٍ وعبده

نشيدا يسامر ليلي الطويل

وأنت يا أنس شمعة

تفيض بوحدة يومي الطويل

كريم هو القلب ما راعني

إذا ما ورودي سباها الدّخيل

تفوح بعيدا فلا حول لي

شذاها عليّ بخيل بخيل].

...................

[ ترشّ بعطفها قلبا ولوها

فيغرق في نعيم من جنان

به تزهو المحبة في منال

وقد أضحت له طوع البنان

لكم نسجا زمان الشح ودا

به وَرِدا الصفا بلا دنان].

إنها شعرية ترشق برمزية التموقع في منطقة المابين، تتزمّل بروح الكوميديا السوداء، وتتشبّع بكنوز ومرجانات خارطة الأمجاد مثلما صانت سجلاّت خلودها ريشة السّليقة الأولى، ولطّخ عذريتها وبياضاتها المغرية بتدلي عناقيدها، فحول ديوان العرب، وأستحضر هنا على وجه المثال لا الحصر شعراء خفّة الظل من طراز أبي العتاهية، وأحسب البعض ممّا دأب أن يُجريه أبو الشيماء، على لسان هذه اللوحة الكلامية المشتهاة في جميع أحوالها، ويضخّه في شرايين إرساليته التعبيرية، أسرارا مثقلة بمعنى سؤال الفناء والتبدد، معارضة مؤثثة للمغايرة النصّانية، وسابحة مع أفلاك الإضافة والتجديد وعدم الانزلاق إلى مستنقعات الاجترار والنسخ الإبداعي الذي لا طائل يرتجى منه.

قد تستأسد المعاناة، وتزرع في دائرة الذاتي ألف ثغر للرّدى، منغّصة بذلك فصول الشيخوخة، وراجمة بجمر خريف العمر، لكن...

مسرح الإقامة في الطفولة البعيدة جدا، يبدّل جلد القصيدة بالتمام، ويستنبت معنى موازيا للحياة الواقعية، ومن ثم تتعالى إيقاعات الدّندنة مخضعة الرّوح لمنطق المطلق الضاج بإملاءات الانفلات والذود بسلاح الحلمية بغية استرداد حالة التوازن الذي لا يجعل الشيخوخة شبحا أو عدوا مهاب الجانب.

تلك هي المعية المغلّفة ببكارة أوراق الصمت، مهما تحرّشت بنا مغناطيسية الهديل المرصّع برضاض ونثار أوجاعنا.

ذلكم جنون الكتابة المرتقية بالنص فوق مستوى حياة مدجّجة بأسئلة الموت التي قد تولّدها وتسقي كلأ مراعيها هواجس الشيخوخة.

لافض فوك أيها السبعيني المشاكس بأوراق شيخوخة تغازل بطفولة الذاكرة وذاكرة الطفولة.وليكن آخر قولنا قبل أن يسدل الستار على فصول العمر منّا و المنثور بلا معنى وبنكهة القبض الطفولي على جمرة الحياة، أو احتشام قوس قزح في خدود الأبكار، ليكن قصيدة تكفّن ذواتنا بجحيمية القصائد المخلفة أثرا فردوسيا في القلوب العاشقة.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

 

في المثقف اليوم