قراءات نقدية

الموتى يتكلمون.. قراءة في مشرحة بغداد لـبرهان شاوي

انتظمت رواية الشاعر والسينمائي والروائي (برهان شاوي)، على مناقشة وتفكيك وعرض بانوراما سينمائية معاشة، لاتحتاج الى الذهاب للسينما ودفع ثمن بطاقة المشاهدة، وحجز المدرج الأول او الأخير.

فنتازيا حقيقة بشخصيات عراقية اصلية، وقعت ضحايا تجارب سياسية، ودينية سياسية، وضوضاء احزاب متشابكة، ليخرج الناتج من هذه التداخلات المتصارعة الإنسان المضطهد، تحت مصالح شخصية بامتياز، ليعيش وجوده المهمش تحت صراعات مفتعلة، تارةً طائفية وهي اعقدها واكثرها تحطيما لمرتكزات البلدان، وتارةً اخرى مصالح الذات والأنا على الغير بغية المنصب السياسي .

وظف النقد على الرواية اغلبها، خصوصاً نقد السلطة الدينية عندما اشارت الى شخصية(الحاج آدم البغدادي)، المتدين للمصالح الشخصية، المريض نفسياً.

جُلنا عايش احداث مابعد (2003) التي نقلت بغداد من والى ثم اكتسبت مسميات عدّة-بغداد-، بعضها خبراً لها والأخرى مبتدأً لها، وبين المبتدأ والخبر ضاعت معالم بغداد بأنزيحات تحمل الشجن، وترميزات لواقع مأساوي محيط بهالة حروفها الخمس، بدلاً من بغداد الجميلة، وحضن العراق وعينه، انتقلت لترتبط بمسميات بغداد ثكلى، جرح بغداد، مشرحة بغداد...الخ، وهذه التسمية الأخيرة اشارة معلنة لسوداوية المشهد المعاش، وثقل الهم المحيط بإزاء العراق عامة؛لأنها-بغداد-شريانه النابض.

طبقت الرواية مبدأ (ارسطو) عندما نظمت بتقسيم متقن-لكل حدث بداية وسط نهاية-(بداية بمقتل هادي-وهو الأسم الوحيد المختلف عن بقية الشخصيات الذكورية-، وتتوسط بعالم مشتعل من الجثث تتأرجح بين(ادم) و(حواء)، وتنتهي بنهاية مأساوية عن طريق رسم ونقل صورة الواقع المعاش جثث تتحرك وهي تسير على الجسر في شوارع بغداد).

شخوص الرواية متطابقة من ناحية التسمية والمصير الموحد، سواء للشخصيات النسائية ام الذكورية، باختلاف شخصية هادي.

الخبر هو الدلالة السيميائية لثيمة (ادم، وحواء) الموحدة، فجاءت التسميات (-ادم- الحارس، الخباز، ابو المجد، العسكري، ابو الكرامات، ابو المحاسن، البغدادي، الروحاني...الخ)، وحواء (المفتي، هانوفر، الشقراء...الخ)، هذه الشخصيات تخاطبنا عن طريق عالم الجثث.

وامتاز حارس المشرحة بجانب الثقافة على الرغم من عدم اكماله المرحلة الثانوية، وهو نموذج متميز لقراءة الكتب الفلسفية والادبية ذات الطابع الوجودي، حتى في حبه لجأ الى عشق "جثمان الفتاة عشقاً قوياً مليئاً بالحنان والشفق، عشقاً حقيقياًكما يقول لنفسه؛لأنه كان يعتقد بأن الناس الأحياء حينما يحبون بعضهم بعضاً فإنهم بذلك يحبون ذاتهم في الآخر، وينتظرون المتعة منه ومعه، بينما حبه لجثمان الفتاة الميتةهو حب حقيقي لأنه لا ينتظر منها أي شي، فالحب الحقيي هو الحب المليء بالتعاطف والشفقة قبل الرغبات وانتظار المتع والمبالغة في تقدير الذات .عن طريق الآخر"، فالرواية ركزت على قضية جوهرية عندما قالت:الموتى" لايكذون .أنتم تعرفون ذلك.لقد عبرنا من تلك الضفة حيث الكذب والنفاق والحقد والأقنعة من صفات البشر.نحن لسنا بشراً .نحن مجرد جثث، مجرد أموات .اليس كذلك؟"، أذ تركت الأجابة خلف علامة الأستفهام المقفلة؛لأن شخصيات الرواية تنطق بلغة الماوراء، اي أن النسج السردي اعتمد على صوت الموتى والأشباح وخيال الجثث المتراكمة بسبب الأنفجارات، فكل انفجار يخلف الألاف القتلى والجرحى، الى درجة بلغت فيها المشرحة اعلان الاعتزال عن استقبال الجثث، لعدم امتلاكها الطاقة الأستيعابية لحفظهم .

سوداوية الحدث المعاش غلب على نسج الرواية بأكملها، ونحن نقرء لانلتمس نسيج الخيال يغلب على الرواية؛ لأن الأحداث من صلب الواقع المعاش، بل اننا نستطيع اكمال الفكرة قبل اكمال قراءتها.

نقلت النفسية الضعيفة التي سيطرت على ضمائر بعض الأطباء، وكيفية استغلالهم للجثث المجانية والمتاجرة بها.

"الجثث تبتسم"، هنا نسمح لذاتنا بازاحة الشجن المسيطر علينا؛لأن الرواية اجادت في رسم هذه اللوحة، على الرغم من القتل المجاني الذي ازاح حرمة الموت، نلتمس الفنية السيميائية للروائي واتقانه في نقل صورة حقيقة الجثث البريئة وكيفية ابتسامها؛لأنها نالت مرتبة الشهادة.

مماتقدم يمكننا القول: إن الروائي قد اجاد في توظيفيه للأحداث المجانية المعاشة، وتوثقها بلغة سردية مفهومة، مثقلة بالشجن، وجعل الموتى هم المسيطرون على لغة المتن السردي، وبهذا التوثيق تحولت الرواية الى سجل حافظ للتاريخ المعاش، ليكون وثيقة في متناول الأجيال السابقة، لقراءة ومعرفة الشجن والخراب الذي احاط بهالة بغداد والعراق عامة، ورب سائل يسأل لماذا لم اقدم عرضاً دقيقاً لشخصيات الرواية وفضائها؟اقول: إن الرواية تناولت بدراسات ومقالات عدّة، و لاتوجد ضرورة في اعادة كتابة ماتم كتابته، اعتمدت على تقديم عرض خارجي وسياحة استقصائية حول مرتكزات اساس في متنها السردي.

 

بقلم: وسن مرشد

 

 

في المثقف اليوم