قراءات نقدية

تحدي الكتابة والنص الفائق

خالد جودة احمدوجدت في محافل ثقافية أدباء من الشباب النابه يرجو النصيحة والتواصل مع أجيال سبقته في ميدان الكتابة الأثير -وطلب النصيحة يخص أيضًا من يريد تجويد منجزه الإبداعي فيرقي دائما- لعل الكلمة التي يجب أن تقال حينها كما أري: جرب قلمك ولا تتركه يصدأ، أبذل جهدك ولا تتوقف أبدًا منتظرًا الإلحاح من لحظة الإضاءة، فهناك قسمًا لا يستهان به من خلطة الإبداع يعتمد علي بذل الجهد ومقاومة العقل الفنان المختبئ في اللاوعي وترويضه، وهو عقل مزاجي كما وصفته "دوروثي براندي" في كتابها "لياقات الكاتب" إنه "بتصرف كبير": (لا يحب القوانين واللوائح ولن يهدأ له بال إلا بكسرها، فهو كسول، يحبذ قوانيه الخاصة، ويقاوم الصرامة والتنظيم في الإبداع ويرواغ العقل الواعي)، ولها رؤية حول ضرورة (تسخير اللاوعي بتعليمه الإنسياب في قناة الكتابة)، وتسدي نصيحة رائعة: (عملية صناعة الكاتب هي عملية تعليم الكاتب المبتدئ كيفية التحايل لفعل ما يفعله الكاتب العبقري بشكل عفوي)، أي أن الكاتب البارع هو القائم بترويض تام أو جزئي لعقله الفنان ليكون في خدمته، وهذا الكلام –كما أري- له ظلال من الحقيقة في الواقع، حيث أن هناك الكثير من المنجز الكتابي لأعلام في الكتابة لم يحدث سوي تحت ضغوط، كالإلتزام بتوقيتات لنشر مستديم في الدوريات والصحف، أو ما ناظر ذلك، ولولا ذلك لم يكن ممكنًا تثمير هذا المنجز باي حال من الأحوال.

بالتالي يجب أن يتصل التجريب الذي يثمر التجديد، ويؤدي للتجويد حتمًا في خارطة طريق الإبداع للعقول اليقظة، والقلوب الشابة بالإحساس، وهذا الشأن يؤدي بطبيعة الحال أن لكل كاتب مجموعة من الدرر والحصي، ويقوم النقد الأدبي بصحبة القراء بمهمة الفرز والتنبيه والإرشاد، لكن يحدث أن نصًا أو منتجًا ثقافيًا للفنان يكون فائقًا ومميزًا بطريقة لافتة، يستأثر بالاهتمام البالغ من القراء فلا يبصروا للكاتب سواه، كنت اعرف شاعرا له قصيدة رائعة حقًا وكان الناس يطلبونها علي الدوام في الأمسيات، جماعات وفرادي، وكانه لم يؤلف قصيدة غيرها حتي أنه كرهها جدا، وأصبحت هناك حالة نفسية وانقطاع ود بينه وبين القصيدة، فقد أصبح لها شخصيتها الطاغية علي سائر نصوصه، بل علي ذاته الشاعره، والكاتب "صلاح حافظ" له حالة شبيهه وضحها في مقدمة كتابه "انتصار الحياة" حيث يحكي عن المأساة التي عاشها مع مقالات كتابه ذلك يقول: (مضي علي حتي الآن ربع قرن وأنا أحترف الكتابة. ولا تكاد صحيفة في مصر لم اعمل بها بعض الوقت. ولا يكاد يوجد فن من فنون الكتابة لم أعالجه. ومع ذلك يأبي معظم الذين قرأوا لي إلا أن ينسبوني إلي عمل واحد هو هذه المجموعة من المقالات التي نشرتها في مجلة روزاليوسف بعنوان "انتصار الحياة" منذ أكثر من عشرين عامًا!. فحتى هذه اللحظة ما أكاد أقدم نفسى –أو يقدمني غيري- إلي أحد من القراء حتى يصيح: صلاح من؟ بتاع "انتصار الحياة"؟، وأرد بغاية الأدب: ياسيدي أنا بتاع أشياء كثيرة، أنا عالجت الشعر والقصة والرواية والنقد والسياسة والترجمة والتحقيقات الصحفية. وجربت نفسي في الفكاهة وقصص الأطفال وسيناريوهات السينما) ويستمر أنه لا يشير الناس ولا يتحدثون معه سوي عن انتصار الحياة حتي يفكر في ارتكاب جريمة: (ويخطر علي بالي أن أقوم وأطبق علي عنق محدثي)، ووصفها في موضع آخر (تلك المقالات اللعينة).

هذه المحنة لها وجه آخر هو أن يكون الفنان ذاته أسيرًا لمنجز ظفر به مرة، فعاش في رحابه لم يتجاوزه إلي غيره. ولعل هناك رؤية أن من يريد أن يتعرف علي الإبداع فعليه ان يقرأ في الإبداع لا يقرأ عن الإبداع من تنظيرات ونقدات، وأن هذا سبيل الإجادة، واستعين بتلك الرؤية فأقدم قصة قصيرة للقاص والمسرحي "محمد عبد الرسول" معنونة "الجائزة" وهي تقدم فنًا هذه المأساة، تحكي القصة عن شخصية الحدث القصصي وهو مسرحي شاب تفوز مسرحيته "السقوط" –والاسم يطابق مغزي القصة- بالجائزة البللورية: (يقف تغمره السعادة عند إعلان نتيجة مسابقة الإبداع المسرحي السنوية، وحصول مسرحيته "السقوط" علي الجائزة البلورية، يتقدم في همه ليصافح المسئول المسرحي ويتسلم الجائزة وسط تصفيق حاد وهجمات عدسات الكاميرات التي باتت تلاحقه في كل مكان، الجميع يشهد علي قدراته وملكاته، يتحدثون عن موهبته الفذة، منبهرين بتوظيف أدواته بأسلوب فريد غير مسبوق، الجمل الرصينة، الخيال، العبارات الرقيقة، الوسط الأدبي بأكمله يثني عليه ويتنبأ له بمستقبل عظيم، ينقضي الحفل وآثاره لكنه ما زال مستمرًا بداخله، يعيش لحظاته السريعة ويعيدها دون ملل، لا يكل عن الطواف ليستعيد مديح الحضور والنقاد)، وتتضح المأساة حيث كان أديبًا مبشرًا لكنه آثر أن يظل أسيرًا لنصه الفائق ومجده الذي لم يتجازوه تحديًا لذاته المبدعة: (باعمال كانت بدايات أديب ينم عن موهبة ومقدرة، يحلم ينصهر في أحلامه، انسلخ عن الواقع تماما، يري شخوصه تتحرك، تنفعل، تبكي، تتألم، تصرخ، أصبحت حياته كلها خشبة مسرح صغير دون أن يغلق لها ستار، تصفيق الجماهير يداعب آذانه، تسلط الأضواء يبهج عينيه)، ويحدث التحول: (... أهمل كتاباته، أبتعد عن قلمه، ترك أفكاره التي كانت دوما تشحنه بالجديد، يتباهى في كل مكان بعظمة مسرحيته السقوط وجرئتها وثناء النقاد عليها، داهمته الأحاسيس الكاذبة .. أنه أفضل الموجودين، تناسى كونه مبدعا، وعليه أن يثبت باوراقه صحيح كلامه .. أصم اذنه تجاه النصائح .. يجب أن يكتب ويستمر .. المبدعين الحقيقين الذين يبغون الخلود باعمالهم وليست الشهرة ما يشغل بالهم، تمر الشهور والسنوات ولا يقدم جديد، ينظر إلي الجائزة .. يحملها معه في كل مكان يذهب إليه، الندوات، الصالونات، المحافل الأدبية التي لم يزل يزج بنفسه بها حتي دون دعوة، يتحدث عن مسرحيته وكأنها علي الدوام هي الفائزة رغم تعدد دورات المسابقة لكنه يغرق في الماضى، يتعلق بالذكريات، لا يترك مناسبة بين أصدقائه أو عائلته إلا ويذكر الجائزة وكيف حصل عليها حتي أكل الزمان ما تبقى من ذاكرته وأصبح شعره الأشيب انصع من لون الجائزة، لا يمل من سرد الحكايات المشوقة لاحفاده ويجيب عن اسئلتهم عن كيفية حصوله علي الجائزة وثناء النقاد علي مسرحيته السقوط وهو ممسك بها بكلتا يديه حتي انفض عنه الأحفاد، ويغلبه النعاس فتسقط من يديه وتنكسر) والقصة كاشفة كيف يقضي المبدع علي ذاته إذا وقع اسيرًا هائمًا معجبًا بمنجزًا ثقافيًا فائقًا له نال الاحتفال والتأييد.

وختامًا تظهر قاعدة ترتدي ثوب الناصح الأمين لذاتي قبل غيري: كن قلقًا من استجابة القراء دائمًا كأنها المرة الأولى، وتواضع مهما حصدت من الإعجاب والتقدير، فجمال الأخلاق سمة الأدباء الأصلاء،  كما أن نجاح عملك الفني المبهر سيتبعه عملك الفني التالي، بمعني أن الكتابة ينبغي أن تكون تحديًا مستديمًا، وقلمكم سيكتب ثانية أعمالًا توازي وقد تسبق، واجعل لأعمالك التالية شخصيتها المستقلة، وامنح لها الثقة، وواصل التحدي عزيزي الكاتب.

 

خالد جودة أحمد

 

 

في المثقف اليوم