قراءات نقدية

سمفونية الرفض قراءة في قصيدة مُجازاة للشاعرة سلوى محمد علان

رحيم الغرباويما تزال المرأة بطانة الرجل ورمز لأسراره، وهي النموذج الحي لرحلته ، وليس من حقيقة إلا وهي أصل لها، وقد تمثلت منذ مطلع الحضارات بالأم بوصفها رمزاً للإخصاب، "وهي زوجة الإله الذي يموت ثم يبعث حيَّاً، وهي في الوقت عينه عذراء إيزيس، وعشتار لتموز، وكيبيلا لأتيس، وتمثل الإلهة قوى الأرض المنتجة" (1)؛ لذلك نجدها شاخصةً في عيون التواريج وإلى يومنا هذا، أما في الشعر فهي الأنثى التي سلبت العقول قبل القلوب، وما الشعر الوجداني لدى الرجال إلا متسع ينبض بها ولها، لكن من اللافت أنَّ وجهة نظر المرأة الشاعرة اليوم قد قلبت الموازنة في نصوصها فصارت المنتظرة بل والمُفرَّط في حقوقها وفي كثير من الأحيان تكون المجارية لما يخطه الرجل لها .

ولعل تركيبة العصر الحالي الذي زاغ عن تكويناته الأولى بفعل ما ترسب فيه من أفكار وتطلعات وثقافات جعل المرأة يعلو شأنها في أماكن من المعمورة وفي آخر نراه يتضاءل تبعاً لمردودات الحضارة عليه ؛ ولما لنزعة الرجل المتجذرة بطبيعة تكوينه في غلبة العنف وما يتنكبه من متضادات مثل ما هي عليه الطبيعة وما يستشعره بالتفوق والغلبة، وقد حكت لنا الأساطير من صراعات بين البشر وبمناصرة الآلهة حسب الاعتقادات السائدة، وقد كانت المرأة هي محور هذه الصراعات في غالب الأحيان كما حكت لنا الملحمة الإغريقية الإلياذة التي كان سبب حدوثها هو اختطاف أحد أمراء طروادة ملكة اليونان هيلانة (2)، فطغت وعلى مرور الأزمان شقوة الرجال واعتزازهم بالمآثر وتخليد مقاماتهم في الشجاعة والبطولة والكرم لاسيما لدى العرب وتحولت المرأة لديهم من إلهة كعشتار إلى ممتهنة ترعى الشياه والإبل . وما زال هذا الفكر متجذراً في نفوسهم إذا ما ابتعدت عقولهم عن وهج الحضارة ومراقي المدنية .

وشاعرتنا سلوى محمد علان واحدة من الشاعرات اللاتي كتبن للتعبير عن لواعجهن تجاه محنة العصر وفيه مأساة الكثير من نسائه والتي يقود دفته الرجال ولا يسمح أنْ تُدارَ الحياة إلا بذهنيته ؛ مما جعل من إحساس النساء يعوم في محنة التمزق والشتات جراء العنف الذي يتمثل في الرجل ؛ لما له من هيمنة وسيلتها القوة والشعور بالتعالي فنراه يوظفهما لأجل الغلبة والسطوة والاستبداد، لذلك نرى شاعرتنا سلوى تنتقد الذكورة التي تتحكم بمصائر العباد بعدما كانت المرأة في نشأة الحضارات الأولى لها الدور الكبير في قيادة الحياة وفي تدبير امور البلاد، بل و كانت الحاضنة المشفقة على الرجال، وهم يسجدون لها ويقدمون بين يديها القرابين لكنها بقيت كما هي بالأمس أُمَّاً تمنح الحب حتى لمن يعقّها ويستبيح كرامتها ؛ لأنها خلقت للحب وللخصب والنماء، فنراها تقول في ذلك :

تعال أستجر بك من رمضاء الأشواق

أهش بوجهك الصبوح على ناصية سهري

متوثبة

أُحضر الخطايا لحظة عتاب

كلوح زجاج مكسور

وأماني طفل يتيم

ينتظر العيد ولا يأتي !!!

لي الأيام الثكلى

ولك بعضي أو كُلِّي لو شئت !!!

لي رداء شفاف لا يستر عورة خيباتي

ولك قلبي خيمة ووطن !!!

فهي تعلن استجارتها من رمضاء الأشواق، لما تستشعره من جفوة الرجل (الحبيب) بسبب سطوته التي يختال بها يرغب، بينما يؤمه قلبها قبل عينها، فهي تومئ لذلك بـ ظِل وجهه المتخيل حين تقلِّب صورته في منامها، كما أنَّ الخطايا تفرشها لأجل العتاب، وقد استعملت أسلوب التشبيه ؛ لتوضح المعاني التي ترومها ففي النص تشبيهان، إذ تشبه توسلها بالزجاج المكسور أو كطفل يتيم ينتظر العيد الذي لايأتي بسبب حرمانه، إشارة منها إلى أنَّ أمانيها لاتتحقق مع من ترومه ؛ مما جعلها ثكلى وهي تطلب منه أن يتملكها ولو لجزء منها . ثم بالمفارقة تمنح سطورها دهشة المتلقي حين تصف رداءها الشفاف الذي لايستر خيباتها بدلاً من أتقول (لايستر عوراتها)، بينما تجعل من قلبها خيمة ووطن له ؛ وكأننا نقرأ أنَّ النفوس تعيش عناء الاغتراب لا كما حالها في نشأتها الأولى، بينما الإنسان يظل يسعى للتآلف والانسجام معها، ولما كانت حياة المخلوقات مبنية على الصراع الأزلي بين الخير والشر وأنَّ الإنسان ينتابه كلا النزعيتن (فألهمها فجورها وتقواها)، لذا نجد غلبة الشر على الخير في عصرنا؛ مما جعل كل شيء في غير مقامه ومكانته التي خُلِق بها .

فهي تقول:

لي ليل الكآبة

ولك فجر يلوح أفقه !!!

في ذمتك وعود خاوية...

ولك في ذمتي أرض وسكن...

ها قد ناداك النوم بإغراء لا يقاوم

وأفسدت مخيلتي ونهاري !!!

فداهمني البكاء بلا دمع ...

حين وليت وجهك عني...!

ولعلها أيقنت أنَّ الحب لديها هو العيش في الليالي الكئيبة، بينما تراه يعيش الدعة والأمان وهي تقارن بين حالين : حالها المأساوي من جهة، وحاله الذي يتسم بالحبور والسعادة من جهة أخرى، فهو لن يبالي بوعوده التي قطعها لها، بينما هي تمثل السكن والملاذ الأصيل كون المرأة باقية على حقيقتها لا تتغير بل هي تبقى مثال الأرض المعطاء في تمثلها للأم والوطن والسكن، وقد استعملت أسلوب المغايرة بالمقابلات، وهو أسلوب يمنح النص جمالياته المعنوية، و نرى تفشيه في سطور النص: لي ليل الكآبة – لك فجر يلوح أفقه، في ذمتك وعود خاوية – ولك في ذمتي أرض .

ويبدو أنها تتهم الرجل الشرقي بعدم الوفاء وهو من ينقض العهد والميثاق ؛ لأنَّ قلبه تحول إلى ظلمات تجاه الجنس الآخر المرأة، فتراه يتعامل معها كما يتعامل الفارس مع القلاع حين يسعى إلى اقتحامها، ولايهتم سوى بتهديم أسيجتها واقتلاع أبوابها المؤصدة من دون ارعواء حتى وإنْ انهارت أركانها ؛ ذلك شعور المتلبد بثقافة الغابات التي تتطوح في البقاء للأقوى، بينما يبقى قلب المرأة الودود يحن ويشتاق على الرغم من الأسى الذي تكابده، هذا ما أرادته الشاعرة من التعبير عن نساء عصرها وهي واحدة من بينهن، كما نلمس في قصيدتها نكهة المرأة التي اشتعلت عيونها وفاء وقلبها مواريث رماد .

 

بقلم: د . رحيم الغرباوي

.....................

(1) سحر الأساطير، م ف إلبيديل 360

(2) ينظر في النقد الأدبي الحديث، فائق مصطفى : 114

 

في المثقف اليوم