قراءات نقدية

ترانيم العشق قراءة في رُقيم 34 من مجموعة رُقيمات سومرية

رحيم الغرباويللشاعرة ميثاق الكريم .

لعل العشق يتنوع بتنوع أحاسيس الإنسان بالأشياء، فتارةً يعشق محبوبه الحسي كما وجدنا ظاهرته لدى الشعراء العذريين كجميل ومجنون بني عامر والعباس بن الأحنف وغيرهم، وتارة أخرى يعشق محبوبه الروحي وهو ما لمسناه عند المتصوفة في أشعارهم ورسائلهم كالحلاج وابن الفارض وأبي داود والجنيد وغيرهم . ولعل الحب هو ما يعتمل القلب ويلفت العقل الذي يهيم فكراً حينما تتغلب عليه غرائزه وهذا النوع الأول من الحب، أما الثاني فمسألة الهيام فيه هو عشق الروح التي تدفع بالعقل أن يستمد التفكير النقي للانشغال بالمحبوب وكيفية الاتحاد به حد الفناء، وشاعرتنا ميثاق الكريم حاولت المزاوجة بين شعورين هما : شعور الاحساس الحسي بالحبيب، والآخر الاتصال به حد الذوبان والتوحد كما هو العشق لدى المتصوف، الذي يؤدي " به إلى الشطح  وأهمها الوجد أو الحب الإلهي، إذ أنَّ شدة حبه لله تؤدي به إلى حالة السكر التي هي حالة لاشعورية – لايقصد بها عدم الشعور بل شعور من نوع خاص يغيب من خلاله الصوفي عن جميع صفاته الحسية منها والعقلية ويفقد على أثرها التمييز بين ذاته ووجوده وبين ذات الله ووجوده " (1) ؛ يجعله يتحد ؛ بوصفه المحب وبين الله بوصفه المحبوب . ولعل كثيرا من شعرائنا المعاصرين قد اختلجوا النزعة الصوفية لكنَّهم لم يكونوا متصوفة، بل ساروا على أساليبهم وبرعوا فيها، وقد كُتبَت عنهم الدراسات والكتب والمقالات الكثيرة .

ولعل شاعرتنا ميثاق الكريم التي أشرقت علينا بقصيدتها قد مزجت بين حسية الحب وروحية الإحساس، فنراها تقول :

ألتقيكَ...على رصيف كلماتي

وتتحول آهات صبري الى أفكارٍ طائشةٍ

تنقلني من حلمٍ إلى حلمٍ

وحدكَ من يراقص أنوثتي على ألحانِ الدهشةِ

وحدكَ من يحوِّلني إلى قطرة عشق تغرق العالم شعراً

وحدكَ من يذيب طين رعشاتي بماءِ ليلكَ .

فهي تجسد لنا قوة الحب بعد لقائها على رصيف كلماتها، ولعل الحبيب هو وحده الذي له في قلبها شأنٌ، وهو من أفقدَ عقلها، فتحول بكلِّ مافيهِ إلى أفكار طائشة، لكنها تؤمن بحقيقة العشق للواحد طالما له التأثير الكبير على مسيرة حياتها، فهو وحده من له الحق أن يستمكن أنوثتها، فيجعلها ترقص على أوتار الذهشة التي تستعذبها منه، وحده من يحولها إلى قطرة عشق، تفيض على العالم شعراً، ووحده من يذيب رعشاتها بماء الليل، كناية عن الالتحام والتوحد، فتخاطبه قائلةً :

وفي الصباح تلملمُ ورودي ؛ لتصنع منها تمثالاً من العطرِ

تطوف عليه أنفاسكَ

تمنحني مصيراً ما قرأت عنه في ألواحِ العمر

مصيراً يكتبني على تلال الخيال

ويرسمني لهباً على خرائط الغيم

...

وكل الشعراء صاروا يستدينون أزماناً من جنون قصائدي

لأني إمرأة تقطع مسافات الليل بالرغبةِ

ولأني عاشقة ترتب هندام الشوق بأيادي القصيدة .

أما في الصباح فنراها ترسم صورةً جميلة من خلال تصوير الحبيب بأنَّه يلملم  ورودها ؛ ليصنع منها تمثالا من العطر ؛ لتطوف عليه أنفاسة، وهي تبرق لنا عبير رومانسيتها من خلال كلماتها ؛ لتعبِّر عن شعورها وإحساسها تجاه الحبيب، ثم تترى صور جمال العشق في (تمنحني مصيراً ...، يرسمني لهبا ...)، ثم تصف حبَّها الكبير الذي يستدين الشعراء من جنون قصائدها تلك العالية المفردات في العشق ؛ لأنها المرأة التي تعيش الحبَّ الحقيقي ؛ فتقطع مسافات الليل بالرغبة، وهي من تنظم القصيدة، وتعتني بها كما يعتني المرء بهندامه ؛ ليظهر أليفا جميلا .

ثم تقول :

ألتقيك

عند أوَّل نسمة تهبُّ من نافذة الروح

ألتقيك

بأزقة السهاد...عند بحيرات الحلم

فمن كروم جسدي أصنع لكَ كل مساء

نبيذاً أعتقه بأساطير المعابد

ومن فقر الشعوب أرتل دعواتي

هذه أنا :

مثل ينبوع تجري بين راحتيكَ خواطر دمع

ألتقيكَ

كل لحظةٍ وأترك آثار صمتي

مفردات تخفق بين أضلع بريدكَ .

فنراها تكرر التقاءها به، وهي تعيش مع رومانسية الإحساس (عند أول نسمة، بأزقَّة السهاد، عند بحيرات الحلم) ؛ مما يمنح النص طاقته تجاه الوجود الكوني الجميل الذي يشعر المتلقي بجماله والحبيب بمديات الإخلاص من طريق خلجات الحبيبة التي تنضحها عطوراً تفوح بالود والانطلاق نحو مدائن الجمال والألق الشفيف .

ولعل جسدها هو الآخر مسكر لكن فيه قداسة العشق من خلال ألفاظ الكروم والمعابد، فالكرمة التي صُلبَ عليها سيدنا المسيح (ع)، تُعَدُّ من كروم الجنة لقدسية التضحية التي تلقاها عليها، بينما المعابد وهي دور العبادة التي اتخذها الأقدمون مكان تنسّكهم في إشارة إلى حبها الذي يميل إلى قداسة المنزلة للحبيب كما كان الصوفي يتخذ من الكأس رمزاً ؛ لتقربه لخالقه، كذلك شاعرتنا جعلت من جسدها أضحية العشق ؛ لتتحول إلى خمور من عنب ؛ فتُسكِر بها الحبيب من أديم عشقها مستعملةً الرمز للتعبير عن المشاعر الإنسانية العميقة التي نبع منها عملها الفني بوصفه بنية ثقافية " تجاوزت الدائرة الفردية وترسخت في الوجدان الاجتماعي، وتجلت من بعد في صيغ معرفية تراثية خاصة لكل منظومة حضارية، ولكل دائرة ثقافية في نطاق المنظومة الحضارية الواحدة "(2)، إذ أنَّ الشاعر يرسم من أحاسيسه ما يحسه ويستشعره متلقيه لكن يضفي عليه فنية وجمالية تزين ما هو يجري في الواقع ؛ لتظهره طريفاً مُشبَعاً بالتأمل، ومُقنعاً بالتفرد .

أما الجانب الفني، فقد اهتمت الشاعرة من طريق أساليب البيان بصورها الفنية التي تبعث على الدهشة والطرافة في رسمها صور القصيدة، وقد كان للاستعارة النصيب الأوفر في اقتراحها للمعاني التي تأهلت لرسم خطوط النص وتباشير معانيه، والاستعارة في التعريف الاصطلاحي لدى البلاغيين، هي استعمال اللفظة في غير ما وضعت له في أصل الوضع لعلاقة قائمة بين المعنيين الأصلي والمجازي هي علاقة المشابهة مع قرينة ملفوظة أو ملحوظة تمنع إرادة المعنى الحقيقي الذي وضع اللفظ له (3)، أو هي نقل كلمة من شيء قد جُعلت له إلى شيء لم تُجعَل له (4)، فاستعملت الشاعرة الاستعارة التصريحية ؛ لتمنح نصوصها جمالا وسعةً في الرؤيا، ومن الاستعارات التي بثتها في جسد النص : (رصيف كلماتي، طين رعشاتي، ماءِ ليلكَ، ألواحِ العمر، تلال الخيال،  خرائط الغيم، مسافات الليل، هندام الشوق، بأيادي القصيدة، نافذة الروح، بأزقة السهاد، بحيرات الحلم، كروم جسدي، أساطير المعابد، آثار صمتي، أضلع بريدكَ) ؛ إذ نرى معظم الاستعارات ترمز إلى الرومانسية بوصف المستعار له كائنا حسياً، لكنها شاكلت في المستعار فكان حسياً أحد عشر مرة، بينما ماكان معنويا فورد خمس مرات، وهي تتنقل بهذا الشعور بين كلمات، ورعشات هيام، وعُمر، وخيال، وشوق، وروح، وسهاد، وحلم ؛ كما أنها استعملت الفعل المضارع الذي شاع في فضاء النص، لتعبِّر في خطابها ؛ لرسم حياتها المستقبلية والعمل على التدرج في البناء والتطلع لحياة أرحب، فهي بذلك تنشد قيام عالم يوتوبي ترتفع به من الواقع إلى عالم آخر أكثر حظَّاً ؛ لممارسة حياتها فيه، ولا يكون إلا مشفوعاً بتهيام الوامقين الذين آثروا أن يعيشوا في علياء الجمال والرقي إلى حيث فضيلة الكلمة التي تنبض بالحب الزاكي الأنيق .

 

بقلم د. رحيم عبد علي الغرباوي

.............................

(1) الفكر الصوفي، د. نظلة أحمد الجبوري : 115

(2) في النقد الجمالي د. أحمد محمود خليل : 279.

(3) أساليب البيان في القرآن، جعفر الحسيني : 459.

(4) الرسالة الموضَّحة، الحاتمي : 29 .

 

 

في المثقف اليوم