قراءات نقدية

لُطفاً كُنَ بشراً.. قراءة في مجموعة رحيم زاير الغانم: لُطفاً كُن وطناً

439 رحيم زاير غانمفي مجموعته الشعرية "لُطفاً كُنَ وطناً" يكشف لنا الشاعر رحيم الحاج زاير بكتابة صور شعرية وقصائد نثرية تغوص في عمق المأساة العراقية لتكشف عن صورة الوطن الغائب، الوطن الحُلم، الوطن الذي كُنا ننشد وأغان وقصائد نتغنى بها، وطن نكتب عنه قصائداً وردية، نُحيي روحه التاريخية وألقها، لنردمها على صخرة الموت وسفك الدم, وطن رميناه في قاع البئر فتبايكنا عليه وصرنا نقول:

(من الآن سنرفع لافتات الحداد،

نحن الذين فقدنا الأمهات مُبكراً)

الأمهات وطن نحنُ إليه وإلى فيافيه وأحضانه، ونبكي عليه بعد فقدانه، كما نفعل بعد فقدنا لأمهاتنا، ولكننا حينما كُنَا في أحضانهن، لم نستشعر قيمة ذاك الحضن "الوطن"، فنغادرهن وبعد طول غياب نعود لهن بتمردنا، لم نكن نعي أننا بتجاهلنا (الأثيم) هذا لحنينهنَ إنما كُنَا نُمارس أشد أنواع العُنف، فنحنُ نهدم بعضاً من طاقتهنَ في الصبر، هو ذا الوطن، هو ذا العراق، نُخاطبه بالقول "كُنَ وطناً"، ولم نتجرأ يوماً على نقد أنفسنا وننقد ذواتنا السافرة في غيها، ولو بمُجرد مُخاطبة كلِّ واحدٍ منَا لنفسه ولو همساً بالقول: "لُطفاً كُنَ بشراً" واستعد وطناً.

(حُضن الأرض مُضطربٌ

من عواء الحروب

....

لا تُقدس الحرب ليلاً

وتلعن ضجيجها في النهار)

هذه الذات تنشد وطناً، ولم يدرِ في خَلَده أن هذا الوطن يروم وينشد وفاء الأبناء للأمهات، فلُطفاً "لنكُن أبناء" حقيقيون يعرفون معنى الوطن (الأم)، يعرفون معني (اليُتم) والموت بلا وطن، بلا أم.

(أمي حينما تجلب الجوع

تحتارُ أي فمٍ تفطمُ!!)

حُزن وألم، توق ومحبة، ندم وضياع، وحسرة على وطن، بل تأوهات شاعر لم يحيى هو ولا عاش الوطن، لكنه سيعود:

(سأعود من الحرب

إلى بلدتي

وربما إلى أمٍ

ما زالت على قيد الشوق)

فهامت روحه تروم السفر، سفر لك أن تؤوله وفق طبيعة الشجن العراقي الذي عشت فيه وأنت في أي بُقعة من أرض العراق، بل:

(وأنت تحزم روحك

في حقيبة بيضاء،

وأنت تُردد نشيداً للوطن،

تُشعرني نظراتك

إنك مُهاجر بالفطرة)

يحزم روحه في حقيبة بيضاء، ربما يكون الكفن ببياضه حقيبة سفرنا نحو هجرة لا عودة فيها، وربما تكون سفرنا داخل النفس لنلوذ ببياض فطرة الإنسان حينما يكون على سجيته ليتخلص من أدران الجسد وملذات الحياة بكل ما فيها من تباغض وتحاسد وكُره وعُنف.

(إيه أما اكتفيت يا عراك؟

متى تنهض

وتُرجع كرامة الجباه السُمر

المُرتهَنة للآن

في الأرض الحرام

متى تُعيد للشهادة هيبتها)

هُنا يُرادف الشاعر بين مُفردة (عراك) وعراق ليشي لنا بأن العراق أرض كُتب عليها أن تكون أرض عراك، مُخاطباً الأرض وكأنها هي من تمتلك إرادة الحياة أو خيار الموت في الشهادة التي فقدت هيبتها ومعناها، وذلك ما نتفق فيه مع الشاعر، ولكن لا وطن من دون مواطن، وكل الأوطان إنما يرتفع شأنها بقدر ما يُقدمه أبناؤها من عطاء ووفاء، وستكون الأوطان رهينة في الأرض الحرام حينما يرتضي أبناؤها أن يكون قادتها من الأغبياء وخيرهم (دعي ابن دعي)!.

لم يكن الوطن أرضاً (أماً) فقط، إنما كان في الوطن (آباء) عاقين وإن كان في بعضهم وفاء، وهم قلَة من الذين شعروا بأنهم شاركوا بقصد أو من دون قصد في ضياع وطن، ليكتب الشاعر نصه بوصفه رسالة من الأب إلى الابن مُخاطباً له:

(يؤسفني أنك في قادم الأيام

لن تسمع صوتاً مقبولاً

لكنك ستسمع أصواتاً نشازاً،

تُصدرها حناجرٌ بلهاء

ويؤسفني كذلك

أنك ستتقبل

حُكاماً نشازاً

يستهيوهم دوي الحرب

وصفارات الإنذار

هُم نتاج اللامعنى

والتأويل الأسود،

لذا مُستقبلك

محكوم بالصدفة)

أي نص هذا مُكتنز بمعان ثرَة. إنه نص الأنا في تماهيها مع خطاب شوفيني اقصائي، لم يورث منه الآباء للأبناء سوى غياب الوعي وترك ساحة الرفض والمُمانعة لأراذل الحُكام وسدنتهم من الذين يُمعنون في خداع الأبناء كي يكون وقوداً لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، سوى انقيادهم الأعمى لـ "اللامعنى" و"التأويل الأسود" الذي لم يحصد منه أبناءنا سوى بقايا الألم ورؤية أصدقاء لهم يُحزمون حقائبهم البيضاء صوب "اللاعودة"، فصار مُستقبل الأبناء الذي لم يُتقنْ, الآباء توريث ماض قريب لهم وحاضر أقرب "محكوم بالصدفة".

جُلَ أخطاء وخطايا الأبناء إنما هي مُعلقة في ربقة الآباء وأعناقهم، وإن إلتمس الشاعر العُذر بقوله:

(نحن المقسو علينا

ليس لنا مُتنفس إلَا التناسل)

فأن نكون مُجرد كائنات حية همنَا الوحيد مُمارسة الغريزة ففي ذلك إمعان منَا في التخلي عن إنسانيتنا، فحينما يكون مُتنفسنا الوحيد هو التناسل، فهذا معناه أننا من فضَل التكور حول جذوة الغريزة ونسيان طبيعة وجودنا ككائنات حية عاقلة ميزتها الرفض حين تروم الغريزة نزع بقايا تعقلنا ووعينا بذواتنا كبشر لنغرق في:

(مشحوف (سومري)،

هاربٌ من قسوة اليابسة)

صرنا نعيش الزمن لا روح فيه لفرط ما نعيش فيه من ألم، بل وعشناه من قبل:

(السفينة

غافية على اليابسة

والهاربون من التصحر

يتسابقون للنهر)

أي نهر هذا والسفينة غافية على اليابسة، فالماء أصل الوجود (الحياة) ونحن العراقيين نتسابق كي نصل لسر الوجود هذا، فلم نجد الماء، بل وجدنا صورته في رسم النهر تجاعيد وأخاديد على جباهنا المُتعبة (المُتصحرة)، وتلك من خبايا ما لم تُخبرنا وتُخبرك به العرافات من "سوء الطالع" صديقي وأناي:

(سوء الطالع

رافقك ساعة المخاض

يا صديقي المُعذب

لِمَ تعجلت المجيء؟!)

وفي نص مُعبر عن سوء الطالع هذا يقول الشاعر:

(لستُ وحدي

ما دامت معي كل هذه الخيبات!!، ليُخاطب الزمن بقوله:

أيُها الزمن

وأنت تنتعل الذكريات

خُذ بيديك الألم)

لكن رحيم زاير الغانم لم يستطعْ نسيان الألم ولا نقد الحال الذي نحن فيه، بل ونقد كل موجات (الأسلمة) الفاقدة للضمير الإنساني بصورة شعرية مُعبرة بقوله:

(في بلدتنا مسجد

نسيً الفقراء

كما نسوا

أن يُشيدوا له منارة)9

ملأ الحُزن والألم مجموعة رحيم زاير الغانم حد اليأس بقوله:

(في ذاك المدعو وطن

لا يُدندنُ مُجدداً

بخيط الفجر)

بل لا يشعر فقط بغياب الفجر (الفرج) في هذا البلد اللا أمين، بل يرى نفسه كما القمر:

(لكن القمر

مُنشغلٌ بخيبة النجوم

فهي الأخرى تناست

ترصيع السماء

ببذار ضوئها)

وأظن في قوله هذا تلميح لا تصريح عن يأس من تحسن الحال، فهو عنده من قبيل المحال، ليس لأن الوطن أو نحن لا نُحسن تنظيم إدارة النفس أو الذات، بقدر ما يروم التلميح لنا بأن القوى الخفية الكامنة في السماء، لم تُتقن تصيير السماء بنشرة ضوئية عهدنا تشكلها في سمائنا من قبل، فلم يعد تشكيلها "ترصيع" أو تجميل يليق بما كانت تختزنه الذكرة من قبل عن هذا الجمال، فهو إعلان من الشاعر عن مُغادرة الجمال لنا ومُغادرته لنا في أرضنا وسمائنا!، لأن:

(الأنبياء

لا مكان لهم

في بحبوحة الأوثان)

فنحن نعيش في زمن "الوثن" الصنم لا النبي الرسالي "المُلهم"، فالنبي يبعث الحياة للتجديد، والوثن راكد لا يقبل التغيير بل يُستأنس بصوت ببغاء يُتقن الترديد.

(أخفض صوتك

السُرَاق في الجوار!)

حرب وغياب لتصوير حالة سلم ومعركة و"البارود الساخن المُنتشر، البارود الكاتم للحياة،..."صحنا إنه العذاب"، "وعبر حُزنك ألمحُ خربشة الفقر"، "حدودك في اتساع للخراب، كلما علا صفير الأزقة" "عواصف من رماد، تاركاً المنايا تطوف، غير مُبال بالجحيم"، "في زنزانة الزمن أدحرج ملامحي وأُلملمُ وحدتها".

زمن للحرب، وهو ذات الزمن الزنزانة، زنزانة الألم، وحتى الصداقة زنزانة يتوجس فيها الشاعر المحبة "المُفرج عنها قريباً"، ليترك لنا ثقباً كبصيص أمل للمحبة أو الصداقة المسجونة في زنازين زمننا الذي وصفه الشاعر بأشد صفات الوجع، لكن ربما سيُرج عنها قريباً!، ولكن اليأس مُطبق في رؤية الشاعر وصوره الشعرية:

(في زنازينهم

لم أسمع زقزقة واحدة

تُمجد الحُرية)

هي إشارة وتصريح على أن العراق اليوم وما قبل في سياسياً واجتماعيا لم يكن سوى زنزانة قمع للحريات وهدم لقيم الحب والإنسانية وتقويض لُمران المُدن والحواضر، فكل المُدن تحولت إلى ركام، بل خرائب ليتسائل مُستغرباً:

(كيف للمُدن أن تتلاشى؟)

ومن شدَة استغرابه من حجم ما يحصل من دمار وخراب يُشبه الشاعر نفسه مثل العصا فيقول:

(سأقف،

مُستعيناً بوجعي،

سأقف

مُشاكساً الأرض

التي للآن تشكو

توحدها وجسدي

سأقف.....

أتفق معي؟

أم أنك عصا مُسجاة

فرَ منها القطيع)

في قصيدته خواء تعبير وصور شعرية أخاذة في مرثية الوطن، في وصفه لسحر الوطن والهيا به، يُرافق هذا عتب شفيف ولكنه مليء باحساس الشاعر المُرهف بقوله:

(إيه يا وطن

أيها الساحر الفريد

إلى أين ستلقي بنا تعاويذك؟

بعدما صرنا جراراً خاوية

أ نبقى مُعلقين بحبائل

أمجاد غابرة؟)

ويبدو أننا سنبقى كذلك مُعلقين بأمجاد غابرة، فلا ماض قريب نسعد به، ولا حاضر تنعمنا بالعيش فيه برضا، والمُستقبل كالسراب نظنه ماءً. 

 

د. علي المرهج 

 

 

في المثقف اليوم