قراءات نقدية

مظاهر الجلال في قصيدة: وجع القرنفل للشاعرة فضيلة مسعي قراءة في المضمون الشعري

رحيم الغرباويإنَّ صفات العظمة والكبرياء والمجد والثناء تمثل معنى الجلال، ولعل الفعل الجليل هو ماينسجم ومفهوم القيم الأصيلة الخالدة التي أكدت عليها الرسالات السماوية، كذلك المعاني والقيم الإنسانية التي خُلِّدت وهي بأبهى وأنصع صورها .

وفي مفهوم الجلال انتماء للمقدس الميتافيزيقي وفي الجوهر البشري القابع في الاختلافات الثقافية والدينية، ويبدو أنَّ الشعر لايمكن أن يعبِّر عن ذاته إذا ما كان يجهر عن قضايا لها مساس بالمقدس العرفاني فهو لايأتي بلغة منطقية وبرهانية إنما يأتي بلغة مجازية تعتمد على أساليب المفارقة أو التناقض الظاهري القائم بين الأضداد والرمز " والإشارة والتقاطع ... وغيرها من الأساليب التي تقع على حافة اللغة في الضفة المفتوحة على التناقض والإزاحة والشرخ " (1)، كما أنَّ اتجاه الشعراء المعاصرين كما يرى الدكتور إحسان عباس إلى المقدس في أشعارهم ارتبط بمجموعة عوامل لعل أبرزها " طول عملية التقدم والتراجع في الحياة السياسية التي عاناها المثقف والشاعر العربي، واليأس والسأم في متابعة الكفاح ... فيعوض الشاعر عن المادية بعالم الروح " (2) ؛ لذا فالمقدس يُشعر الشاعر بالإحساس بفرديته وثوريته، ويمنحه الجرأة بعد امتلاكه الصفاء والنقاء الروحي .

والشاعرة فضيلة مسعي من الشاعرات اللاتي وظَّفن المقدس في نصوصهن الشعرية للتعبير عن مآسي الواقع، فضلاً عن التمييز بين الروحي المقدس والمادي المدنس، فهي تثور في استمالتها للتضادات على كل ماهو قبيح وفاحش ؛ لذلك تتخذ من المقدس المثال الذي تتوق له النفس الباحثة عن الحق والإشراق والخلق في ميادين الحياة المتنوعة التي صارت اليوم مثوى لكثير من مظاهر الفساد والتجني فيها، فنراها تقول في قصيدتها (وجع القرنفل):

في ردهةِ الحلم

تعدو الأمنيات كما الحصان الجامح

تتدحرج الأشواق نزولاً إلى أسفل الأحداق

تتشابك الأشجار في أطراف الكلام

زهرة برّية تنبت في أحراش الآهات

تتصفّح ألبوم صوّر الكلمات

تمسك بالشّفاه المطبقة على ندف الثّلج وأجنحة الفراشات

كمصباح حزين في غرف الموتى

فهي تصور لنا الأمنيات في الاحلام وهي جامحة كالحصان إشارة إلى التمسك بملاذ الدنيا، بينما الأشواق لما هو غضر ينزل في الأحداق، إشارة إلى مكان نزول الدمع الذي يمثل المقدس لما للدمع من تزكية للنفس والوجدان، بينما الشجر وهو مظهر من مظاهر المقدس الذي ذكرته جل الكتب السماوية وما أكد عليه الرسول لصيانته وغرسه لما له من منزلة وفائدة في حياتنا، ثم تشير إلى الزهرة البرية التي حاولت الشاعرة أن توسمها بالمقدس، لكنها نبتت في أحراش الآهات، بينما مثَّلت الزهرة البرية ذات الشاعرة التي تعيش في هذا الواقع المأساوي بما  تعيشه الأمة من مأزق يكاد يفتك بها، كما تؤكد الشاعرة ذلك في جعلها تتصفح الكلمات وهي تتحسر على ما فيها من قيم فائتة، وأحدات بطولات ظلت عالقة فيها وهي  تحاول أن تقرأ قصة الشفاه التي قبضت على نتف الثلج وأجنحة الفراشات، ولعل الشفاه هي شفاه الناس التي آمنت بالسكون، وقد تمثلته في القصيدة نتف الثلج بينما أجنحة الفراشات إشارة إلى حياة الترف، مشبِّهة ذلك بمصباح حزين في  غرف الموتى، إذ لافائدة من إنارته، كذلك هي لافائدة لها من قراءة ما في الشفاه مما في قبضتها .

ثم تتصاعد لديها التشبيهات حيث يطغى على شعورها تجني الواقع على أهليه فتقول :‏

كقصيدةٍ ثكلى ...هامت على وجهها الذّكرى

كطفل من الموصل مزّقوا أمام عينيه كراريس المدرسة

أشعلوا مقعده الخشبيّ في الفصل

شنقوا معلّمه وأطلقوا الرّصاص على صديقته

كبنت يزيدية تخبئ عذريتها لؤلؤة بين أجفانها وتجري

تجري حتّى آخر رمق جرحها..‏

ك ..ك و .. ك..‏

تحبو الابتسامة الصّفراوية على وجهها..لتكفكف دمعها.

إذ نجدها تصف ذكرياتها في عهود الاستقلال راحة بينما أمنياتها باتت قصيدة ثكلى كما أنها تشير إلى مدينة الموصل التي وقفت بوجه الغاصبين في جميع الحقب التي مرَّت عليها أزماتُها، لكنها في العصرالحاضر لم تستطع مقاومة عنجهية وظلامية الأوغاد الذين استباحوا حياتها العلمية والثقافية من خلال إشارة الشاعرة إلى الطفل الذي مزَّقوا كراريس مدرسته، وأشعلوا مقعده الدراسي كما شنقوا معلِّمَه وأطلقوا النار على زميلته في المدرسة، فلم يبق له سوى همومة وأحزانه التي لامناص منها طالما دمَّروا كل شيء يمكنه تحقيق أمانيه .

ثم تشير إلى الأيزيديات اللاتي فجعن العالم لما آل بهم الظلم في أبشع كارثة حدثت في العصر الحديث، إذ بعنَ في السوق النخاسة ومنهن من وقعن رهن الاغتصاب القسري الذي ندَّى جبين الإنسانية من فعلة الظالمين الذين ما انفكوا يجاهرون في سخفهم ونذالتهم التي ما عرفتها بطون التواريخ إلا بأزرى ما وصفها بهم .ولعل الشاعرة وهي تشبه ذاتها بجميع تلك المآسي التي أصابت العراق في ظل الاحتلال الأمريكي والإقليمي الغاشم عليه وما تلك المآسي إلا استحضار للمقدس الذي تستشعرة ؛ كي تستنكر المدنس من خلال فداحة الأفعال الإجرامية المقيتة التي آثرت أن تطفئ النور في أرض الحضارات (أرض الرافدين) .

ثم تعود إلى رمز القرنفل الذي يمثل الطيب والعطاء والبلسم الناجع المعهود بقولها :

وجع القرنفل يهزّ جذع الأرض

يهتزّ له عرش السّماء و أكثر

شكرا جزيلا.. على مروركِ الخاطف أيّتها الشّمس

فقط..أسألك لماذا تهربين من الأكفّ

من عيون طفل في الموصل ‏

من أجفان يزيدية أو كردية تستبسل..‏

ولعل هذا القرنفل يحتج بوجعه الذي يهز الأرض، كما يهتز له عرش السماء ؛ دلالة على الرفض الكبير من كل نفس طيبة معطاءة تجاه ما استشرى من مخاطر المدنس؛ ليشمل الحياة كلها حتى أنَّ الشمس آثرت أن تهرب من الأكف المنادية لها كذلك من عيون أطفال الموصل الحدباء ومن نضال الباسلات من الأيزيديات والكرديات اللاتي دافعن عن شرفهن حد الاستشهاد . إلا أن غرابيب الظلام حجبت عنها نور الشمس التي تمثل الإشراق والخلاص نحو طريق الحرية والاستقلال .

 

د. رحيم عبد علي الغرباوي

.......................

(1) الفلسفة الغربية المعاصرة : 945

(2) الرؤيا والتشكيل في الشعر المعاصر، سلام الأوسي : 178، وينظر اتجاهات الشعر المعاصر، د. إحسان عباس : 208 .

 

 

في المثقف اليوم