قراءات نقدية

الأدب الأسطوري والملحمي.. الأدب العراقي أنموذجا

عامر عبدزيد الوائليما زال سحر الأسطورة يشدنا إلى الماضي لما يمثله من ثقل راسب في أعماق نفوسنا ويمثل الوسيط بين الحدث الطبيعي والنص القدسي والفلسفي، فإذا كانت (الأسطورة أداة نفسية لملء فراغات لم تكن اللغة مهيأة لملئها بمفرداتها في صقل المشاعر الإنسانية)، فأنها أيضا قد شكلت محاولة لإيجاد حل للمشاكل التي واجهها الإنسان وتركت، تأثيرا في طرق تفكيره ونظرته إلى الوجود، وعلاقته به من خلال الأسطورة (التي هي عملية تأمل من اجل الإجابة عن اسئلة مبعثها الاهتمام الروحي بموضوع ما). من هنا كانت الأسطورة سدا لحاجة وتأملاً من حيث الطبيعة وكانت الأسطورة بالنسبة للإنسان المبكر مركز تأملاته، وحكمته وأرادته في التفسير والتعليل . ومن هنا تشكل أثار وادي الرافدين منذ العصر الحجري الحديث وحتى مطلع العصور التاريخية أكثر الآثار خصبا وتنوعا في الشرق الأدنى القديم. إذ تعد النصوص المسمارية الأدبية على جانب كبير من الأهمية كونها مرآة صادقة تعكس الكثير من الأفكار والمعتقدات الدينية. وهكذا جاء الأدب بوصفه مرآةً عاكسة لمتطلبات الحياة وحاجاتها لهذا جاءت الأسطورة بوصفها كلمة أو هي مجموعة من الكلمات التي تظهر على شكل رسالة ؛ لكن هذه الكلمات التي تحمل رسالة، إنما هي مرتبطة بتلك الحاجات للحياة لهذا كانت الأسطورة تستمد شخوصها وأزاحتها وأمكنتها من التاريخ وتتحول هذه الشخوص وتلك الإزاحة والأمكنة بالتدرج من شخوص محدودة زمانا ومكانا إلى أزمنة وأمكنة غير محددة.وهكذا جاءت تلك الفترة التاريخية الممتدة من الإلف التاسع إلى الإلف الرابع قبل الميلاد في العراق القديم هي ليست بالفترة البسيطة. وهنا لعرض دراسة الأدب وإبعاده التي تؤكد بواكير الفكر الفلسفي في العراق القديم تناولنا الأدب العراقي القديم بعده يمثل الأثر النصي الذي يقدم تصور لما كان .

فالأدب في العراق القديم ينقسم إلى نوعين كبيرين هما: الأدب الديني، وهو أدب الكهنة الذي يرددون الأناشيد الدينية .و الأدب الدنيوي، القابع في القصر، ويندرج تحت كل منها مجموعة من فنون ذلك الأدب

أولا- الأدب الديني:

إذا كانت الكلمة هي حبر الوجود فان تدوينها هو المعجزة التي أثمرت أدبا وتاريخا وعلما . فجاء الأدب متداخل الإغراض يصعب فض الاشتباك بين أنواعه الدينية والدنيوية وهو تصنيف وظائفي لم يكن مفكراً به لدى العراقي القديم إلا إننا يمكن إن نحدد هذه الوظيفة والمكان الذي كانت تقام فيه في المعبد لغرض التعبد الديني وفي القصر لغرض دنيوي، إلا إن الوظيفة المدينية كانت هي السابقة في العراق القديم حيث كانت النصوص الدينية قد تطورت وشاعت وترعرعت بين الكهنة وداخل المعبد وكان لها السبق على النصوص الأدبية ذات الوظيفة الدنيوية فقد شاعت في المدرسة وأشاعها المعنيون المرتبطون بالموسيقى الدنيوية في القصر وبين الناس .فالأدب الدنيوي (لم يكتب لغايات دينية يغلب عليه الطابع الذاتي أو الانفعالي) . أن الأدب الديني (فيشمل النصوص المرتبطة بغايات عملية طقسية أو تلك المرتبطة بالآلهة (الأساطير) أو الخوارق الدينية ويغلب عليها الطابع الموضوعي والميتافيزيقي والأسطوري والسحري).ومن هنا جاء الأدب الديني، فإذا كان الدين يتضمن:أولا، مبدأ الخارجية، أي القول بان المجتمع يستمد قوانينه من خارج لا من ذاته . وثانيا مبدأ (المغايرة) أي القول بان البشر مدينون بمعنى وجودهم إلى غيرهم وليس إلى بشر مثلهم، ويتضمن ثالثا، مبدأ (الاتصال) أي القول بوجود فارق أو مسافة بين المجتمع ومصدره بين الجماعة والمبدأ المؤسس والمشروع لها .() .

فجاء الأدب الديني بتوجيه من هذا الأصل الديني بجميع مكوناته الرئيسية (العقيدة، الأسطورة، الطقوس) ومن ثم فهو يجتمع على نواة المقدس الديني وتكون غايته ووظيفته ذات طابع روحي تهدف بالأساس إلى ترسيخ الدين وجعله شغلا شاغلا لحياة الفرد أو الجماعة، والأداة هي اللغة القادرة بمصطلحات مستعارة من ميدان طبيعي وهذا ما يحصل عبر اللغة وقدراتها المجازية (فالمجاز هو جمع عدة وحدات معقدة في صورة واحدة قوية، انه تعبير عن فكرة معقدة .. بالإدراك المفاجىء لعلاقة موضوعية تحويل الصور الموضوعية إلى صور جديدة لذا فانه اختراعنا) . فهذا الاختراع لصورة عن القوى الغيبية نابع من قياس الغائب على الشاهد وتشكيل صورة متخيلة قدسية منفصلة عن الصورة الدنيوية فيظهر الفضاء الأسطوري حيث ألاماكن تشكل دورا ثانويا ؛ لان الأسطورة لا تستند إلى المكان بل إلى العلاقات مع التخيل وعلى هذا ظهرت تلك النصوص التي تعكس سلطة دينية ومجتمعة تداعب الرغبات الفردية الساعية إلى الحياة ومقاومة الموت عبر فعالية لغوية ؛ إذا كانت الأسطورة يغلب عليها التفسير فهي تهدف إلى (تعيين الأسباب والعلل الأولى للأشياء والإحداث الجارية وليس ثمة ظاهرة طبيعية او ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية تأتي تفسيرا أسطوريا أولياً تستدعي مثل ذلك التفسير . وكل المحاولات التي بذلتها مذاهب الميتولوجيا لتوحيد الأفكار الأسطورية أو ردها إلى أنموذج موحد قدر لها إن تنتهي إلى الاخفاق السريع)، وهكذا فأن الأساطير تحدرت من القدسي فهي (حكاية مقدسة أو تاريخ مقدس) فان القيمة لهذه الأساطير العراقية القديمة تستخلص من خلال الأسلوب الأسطوري الشعري الذي يظهر من خلال مظهرين هما:الاول (الايقاع الشعري) الذي يظهر واضحا بشكل خاص في الأساطير البابلية أو المكتوبة باللغة الاكدية، حيث تظهر الأساطير موقعة بأوزان شعرية . واضحة يمكن مقارنتها بالأوزان الشعرية العربية المألوفة . والثاني (التقنيات الشعرية) مثل التكرار والمقابلة والوصف، والتشبيه ويرى (خزعل الماجدي) إن الأساطير الرافدينية تنقسم إلى:

(1) أساطير الخليقة (التكوين) (Myths of gensis) وتشمل أساطير خلق الكون وأساطير خلق الآلهة وأساطير خلق البشر حيث أسطورة الخليقة البابلية (اينوما اليش:عندما في العلى) .

(2) أساطير البناء (Myths of coustion) وهي الأساطير التي يقوم فيها الآلهة بخلق وبناء التفاصيل العالم وتأسيس الموت ومنح الإنسان أدوات العمل(كالفاس) وأدوات الحكم والسلطة وإنزال الملكية من السماء وغيرها، وتسيطر على هذه الأساطير المدائح الإلهية ومدائح المدن التي بناها الآلهة وقصائد البناء، وتشكل أساطير البناء وتجملها ما يشبه الكوميديا الإلهية المليئة بالأفراح والمسرات والمدائح .

(3) أساطير الحب المقدس (Myths of cacred love) وهي أساطير الحب الإلهي وكانت عند السومريين تمثلها أساطير الحب والزواج المقدس للآلهة انانا (عشتار) والإله (موزي (تموز) وهي تحتوي على نوعين من الأساطير الاول منها (النوع البنائي)، وهي أساطير وقصائد الحب والزواج المقدس .و الثاني (النوع التدميري)، وهي أساطير أنزول الآلهة العاشقين إلى العالم الأسفل وما يتبع ذلك من مرأى الحب . وان هذا النوع من الأساطير مرتبط بالمكان الذي ظهر فيه وبإشكالية فكرية معينة (ان الحديث عن الخصب وعقائده يستدعي أولا الإشارة إلى تشكيل هذا المعتقد في العراق القديم لان الحضارة العراقية صاغت هذا المعتقد وأسست له مجموعة مهمة من المفردات والطقوس والنصوص الأسطورية).

(4) أساطير التدمير (Mythos of deconstruclion....) وهي الأساطير التي تبدأ فيها قوى العالم الأسفل بالظهور والصراع مع قوى العالم الأرضي أو الأعلى وتمثلها أساطير قوى التدمير الإلهية للمدن وأساطير صراع آلهة العالم الأسفل مع الآلهة الكونية. وتسيطر على هذا النوع من الأساطير المراثي الإلهية ومراثي المدن وقصائد البكاء وظهور رموز الشر . ومن الأساطير السومرية في هذا المجال: أساطير كور، ومن البابلية: أساطير أيراء .

5) أساطير الموت (Myths of death) وهي أساطير نهاية الكون والآلهة والإنسان في ملحمة تدميرية واحدة وتمثلها في الأدب العراقي القديم (أسطورة الطوفان).

6) النصوص الطقسية (Pitual Texts (Liturgy) وهي النصوص الدينية التي كانت تكتب بهدف توضيح وتطبيق مراحل طقس دين معين . وتمتاز بثباتها الزمني وممارساتها المتكررة .وهذه تشتمل على: الأول النصوص الروحية (الصلوات والتراتيل)(Spirtual Textes Prayers and Hynms) يمكننا من حيث المبدأ تصنيف النصوص الروحية بحسب تركيبها وطبيعتها إلى أربعة أنواع هي الصلوات (Prayers) التراتيل (Hymns) والأدعية (Calls) والأناشيد الدينية (Chantsanthems) وأقوال الآلهة (God Calls) .والثاني النصوص السحرية (Magic Texts) . يمثل السحر أكثر إشكال الدين بدائية قدما ؛ مثل: (كالفتيشية والازواحية، والطموطمية).

ثانيا – الأدب الدنيوي:

القسم الأول في الأدب الدنيوي (الملاحم Epics): الأدب الملحمي هو الأدب الدنيوي المقابل للأساطير الدينية فإذا كانت الأساطير تضع الإله محورا لقصصها المقدسة فان الملاحم تضع الإنسان البطل محورا لقصتها البطولية وتنقسم الملاحم إلى: الملاحم الكبرى: ولعل من أهمها (ملحمة جلجامش) أقدم ملحمة انسانية مدونة . والنصوص والحكايات السومرية مثل: جلجامش وقصص آدابا ... الخ . ونصوص السيرة مثل: سيرة سرجون الاكدي . ويمكن التفصيل:

أ – الملاحم الكبرى: ولعل من أهمها (ملحمة جلجامش) أقدم ملحمة إنسانية مدونة يمكن أن نجمل ابرز مميزات الملاحم الكبرى فيما، التكرار والإعادة ويعود هذا المبدأ إلى الأصل السمفوني للملاحم، ولكن لا يمكن النظر إليها على أنها خاصية شفاهية فقط أو لتأكيد الأسباب الممهدة للسرد الروائي أو لاندفاع البطل نحو غاية محددة، بل ينبغي النظر إليها على أنها تتصل اتصالا وثيقا ببنية الخلق ...وهكذا يمكننا أن نعلم إن أول ما يميز صاحب هذا المنطق البدائي انه،ليس له إلا أسلوب واحد في التفكير والتعبير والكلام وهو الأسلوب الشخصي .و إنه يعرض، لا يحلل ولا يستنتج، واٍنه لا يصل بين نفسه أو إدراكه الذهني من جهة والظواهر الطبيعية من جهة أخرى إن إعادة خلق الأسطورة مثل إعادة الكلام نفسه في رواية ثانية مثل إعادة الإنسان إلى الحياة من عالم الموت مثل إعادة تنظيم الكون . واستباق الإحداث: وهو التنويه في مقدمة الملحمة عما سيتحقق في الملحمة. والشحنة الأسطورية فهي تنطلق دائما من موضوعات الآلهة دون إن تفرق في التبيان، بل لكي يزداد تألقها الروحي .

القسم الثاني من الأدب الدنيوي: (الأدب الحواري Dialoge):انه ذلك الأدب الذي يقوم على أساس الحوار بين اثنين وليس على أساس السرد أو الوصف. الأدب الحواري يتضمن ثلاثة أنواع مختلفة من الحوار الذي نراه مختلطا بأجناس أدبية أخرى وهي

1- نمط حواري للمناظرة وهو الذي كان يكتبه الكتاب من محض خيالهم لإبراز طبقات عنصرين متناظرين مثل (النخلة والأثل، النسر، الحية) .

2- "البلبال"نمط حوار خفيف سومري الأصل ويؤدى بمرافقة الموسيقى مثل حوار "دموزي وانانا ".

3- "أدمندوكا" حواريات الجدل بين نقيضين وهي القطع الأدبية التي تمثلها على أحسن وجه حوارية السيد والعبد . وهذا الضرب من الأدب يعتمد أساسا الحوار المتناظر والتنازع بين شخصين يقابل احدهما الأخر ويحاول كل طرف منهما إظهار أفضليته على خصمه والنيل منه .

القسم الثالث من الأدب الدنيوي: (الأدب الغنائي Lyric): ذلك الأدب الذي ينبع من الذات والوجدان بغض النظر عن غرضه، ويشكل الشعر جوهر هذا الأدب بل يمكن ان نسمى هذا الأدب (الشعرpoetry،verse) وكان الشعر في اللغة السومرية يسمى (سر Sir) ما يقابله بالعربية شعر . وقد امتاز الشعر السومري بالتكرار والمقابلة والوصف والتشبيه. وينقسم الأدب الغنائي إلى:

1- الشعر الوجداني (Sentime htal sympathetic poetry)، حيث يغوص الشاعر في وجدانه ويقدم لنا ما يشبه المناجاة الداخلية الذي يفصح فيها عن أسارير نفسه وخبرته وتوتره .

لقد تركني اٍلهي واختفى إلى الأبد

وخذلتني آلهتي، وابتعدت عني .

عني انفصل الروح الخير الذي كان يرافقني .

وهرب ملاكي الحامي يبحث عن اًحد .

2- المديح (أدب) (Laadatory commendatory)، كان العراقيون القدماء يطلقون كلمة (أدب) على المدائح الشعرية التي غالبا ما كانت تؤدى على آلات موسيقية .

3- الرثاء (تبكي) (elegy poetry،eleglac)، وهو أدب الندب والبكاء والعويل في رثاء الملوك والأمراء والمدن وكان الرثاء يؤدى عادة على آلة موسيقية كانت لغة الرثاء في الغالب لغة اطلاقية تربط الموت بالطبيعة والنبات والمصائر وهي بالطبع لغة أدب مبالغ ونلمح من خلالها طريقة التعبير عن الحزن العميق .

4- الفخر (تارو) (Proudor Boast Poetry)، وهو نوع من الأدب أو الشعر الذي كان يكتبه الملوك والأمراء على لسان الشعراء لمديح ذواتهم وإعمالهم .

5- الهجاء (Satric poetry) وهو أدب يهاجم فيه الشاعر عدوا له .

6- الغزل ( Love، Erotic Poetry) فاذا كان الأدب الديني "كالا"قد قدم لنا أدب الغزل الإلهي بين تموز وعشتار فان الأدب الدنيوي سيقدم هذا النوع من الغزل على لسان الملوك والكاهنات في طقس الزواج المقدس.

7- الأدب الأخلاقي (Ethical Literature)، وهو الأدب المكرس لبناء الأخلاق الإنسانية عبر وسائل أدبية عديدة ويحوي مجموعة من الأنواع هي:

(1) الأمثال (Proverbs or Aphorisms)

- ارم كسرة إلى كلب فيهز ذيله لك

- المال، مثل الطير، لا يعرف موطنا ثابتا .

- إذا خرجت تصطاد الطيور، بدون شبكة فلن تصيد شيئا .

- من تحبه عليك إن تحمل ثقل نيره .

- انه محفوظ في كل شيء طالما يلبس، حلة جديدة .

- الزوجة المبذرة في البيت اشد ضررا من جميع الشياطين .

2- نصوص السخرية (texts of irony):وهي النصوص على شكل قصص ذات مغزى أخلاقي معين وأطول نص ساخر وصل إلينا هو قصة (جميل نتورتا)

3 - حكايات الحيوان الرمزية ذات المغزى الأخلاقي (Parables) تذكرنا حكايات الحيوان الرمزية ذات المغزى الأخلاقي في الأدب البابلي بقصص (ايسوب) الإغريقي أو قصص كليلة ودمنة الهندية الأصل، ولابد إن نتذكر إن القصص البابلية هي الأقدم والأشد عراقة في هذا المجال مثل (الثعلب والبحر) ويرد منها الالتماعة الحكيمة الساخرة (بان الثعلب مرّ في البحر فنظر إليه متعجبا ومتباهيا وقال: أكل هذا البحر من بولي (.

4- الوصايا (Commandments):

- لا تفتري بل قل كلمات صالحة .

- لا تتداول بأمور شريرة، ولا يكن لك سوى كلمات طيبة .

- فالذي يفتري، ويقول كلمات شريرة

- سينتظر عبثا مكافأة شمش .

- حتى إذا كنت وحدك، لا تبح بأفكارك الخفية .

- فما تكون قد قلته مرة ستلقاه بعدئذ ..

 

د. عامر عبد زيد الوائلي

 

 

في المثقف اليوم