قراءات نقدية

فرانز كافكا المعادي للبيروقراطية

صالح الرزوقبقلم:دافيد بيهر

ترجمة: صالح الرزوق

لتفهم الدولة البيروقراطية عليك قراءة فرانز كافكا. فالقليل من الأدباء لديهم قدرته على نقل الأثر الغريب والسلبي والعميق الضاغط على الروح. حتى أن هذا الموظف العامل في شركة تأمينات هادئة في براغ قد أوصى بإتلاف كل أعماله بعد موته (ولحسن الحظ لم ينفذ أحد وصيته).

ومع أن كافكا مشهور كل الأوقات، فقد عانى من نفس المصير الذي عانى منه كاتب سياسي مخلص لأفكاره وهو جورج أورويل: فقد كان معروفا، ولكنه مقروء قليلا.  ومثل "الأورويلية"  التي تذكرنا برواية ١٩٨٤ ، إن "الكافكاوية" ترتبط في الخيال الشعبي برواية المحاكمة أو المسخ.

وهنا أغتنم الفرصة للإشارة لـ"جدار السور العظيم" وهي قصة قصيرة محدودة الشهرة بين أدب الكوابيس بالمقارنة مع المثالين السابقين، و أعتقد أنه يجب إضافتها إلى قائمة أعمال كافكا الهامة.

تبدو "الجدار العظيم" مثل يوميات كتبها الراوي المجهول، والذي، على الأرجح، يقترب من نهاية حياته ويعمل نقّاشا ويشارك في بناء جدار الصين العظيم، وفي نفس الوقت يحاول أن يعطي وجوده معنى خاصا يغلب عليه النشاط الروتيني. وكما هو حال أبطال كافكا، تستمر حياة هذا النقاش المجهول، وراء الكواليس، وخلف الإدراك السطحي الغامض، وهكذا يتحدد موضعه ومكانته في الدولة.

تتفرع القصة برشاقة حينما يشعر الراوي بوضعه الذي يعرّض توازنه النفسي للخطر. ظاهريا يبدو من الحكاية أن الراوي متيقن من أمر واحد: تحديدا، إن بناء الجدار ضروري لمنع الغزاة القادمين من الشمال. وكلما تطورت الحبكة، نرى أنها مركبة من وحدة واحدة. حيث أن مجموعة من العمال  (ومدير تنفيذي) ينتهون من ٥٠٠ ياردة على التناوب، ويصلون في الخاتمة إلى موضع بعيد جدا من المشروع قبل أن ينجزوا المهمة الأساسية. وهكذا يعاني البناء من فجوة كبيرة، مشكلة كان بالإمكان تجنبها لو أن البناء جرى على التوالي. هذه الطريقة لم تكن غائبة عن نظر السلطات الحاكمة. وسنعلم لاحقا، أنه قبل إرساء أول حجرة في السور بـ ٥٠ عاما، كانت برامج المدرسة والتعليمات على طول المملكة، قد تآزرت لإعداد العمال والمدراء حصريا لهذا المشروع الذي تتبناه الدولة.

وبالتدريج يشرق في ذهن الراوي أن هذا المشروع الذي لا ينتهي والهادف لبناء الجدار، والذي يستهلك الروح والجسد معا، جزء لا يتجزأ من التصميم.

والمصممون - من وقف في أعلى الهرم والذين يسيطرون حتى على الإمبراطور-  تجد أسبابهم المحيرة، التي تحرك المشروع، في جوهر القصة. وفعلا، كان كافكا يضغط على القارئ ليتساءل أكثر فأكثر عما يربحه الآمر الأعلى من توريط كل المجتمع بما يبدو واجبا دائما وعبثيا، وبالأخص أن هذه المشاغل الكثيرة لا تتعمد ، ظاهريا، الضرر. وهكذا نرى صورة مشتركة لهم: في مكتب القيادة- ولكن كل من تسأله لا يعرف مكان المكتب أو من يداوم فيه - ففي ذلك المكتب يتأكد المرء أن كل الأفكار والرغبات الإنسانية تدور في دائرة، وكل أهداف البشر وإنجازاتهم تدور في دائرة معاكسة. ومن خلال النافذة كان شكل عجائب هذه العوالم التي صنعها الله تتركز بيد نفر من القادة الذين بيدهم كل شيء وضمنا التخطيط والأوامر.

المخيف بشأن "الجدار العظيم"، بالإضافة إلى الغياب التام لازدهار الإنسان المستقل، تجده في شكل الحياة البليدة التي تراها عين الراوي. إنه لا يتضور من الجوع، وغير مضطهد: ويتلقى التعليم المناسب، ويجد العمل الذي يشغل به أيامه ولياليه. ومع الحذر الشديد، يمكن القول، إنه سعيد بهذه الحياة المتدنية المستوى، ولكن الممتلئة والحافلة. فالإنسان بطبعه لديه رغبة بالأمان والتدابير الأمنية. والآن، وحتى الآن، هناك حكومات وقطاعات خاصة يرغبون بتوفير الراحة والاستجمام. وإن قراءة كافكا تساعدك في رؤية الأسباب الداعية لذلك.

وطبعا، هناك احتمالات أكثر بهجة في الحياة. وكما قال الراوي: في تلك الأيام كان العديد من الأشخاص، وبينهم أفضل المستويات، يؤمنون بحكمة صامتة مفادها: حاول بكل جهدك أن تستوعب القرارات التي يتخذها الآمر الأعلى، ولكن فقط حتى نقطة معينة. ثم تجنب أعباء التفكير.

 

......................

- دافيد بهر David Bahr: مفكر أمريكي. مدير اتصالات، يعيش في واشنطن

- عن الفوربس

 

 

في المثقف اليوم