قراءات نقدية

المتوالية القصصية وضبابية الرؤي

ثائر العذارينشرت جريدة طريق الشعب في ٤/٢/٢٠١٩ مقالا بعنوان (التجنيس في القصة القصيرة بين المتوالية sequence والدورة cycle) للناقدة د. نادية هناوي وهو واحد من مجموعة مقلات نشرتها في صحف متعددة يعرف القارئ المتابع أنها ترد عبرها على ما أكتبه أنا في الموضوع. وهذا رابط مقالها بعد أعادت نشره في موقع الناقد العراقي

https://www.alnaked-aliraqi.net/article/60996.php

ومع أن الرد حقي قانونا وأخلاقا فقد رفضت الجريدة نشره بحجة أن فيه قسوة، بينما لم أكتب فيه إلا الحجج التي يستطيع القارئ التأكد منها وإنه لغريب أن يكون هذا موقف طريق الشعب آخر قلاع الالتزام.

في البداية أود القول أن الكتابة والنشر مسؤولية وأمانة، فنحن مسؤولون عن كل كلمة نكتبها، وحين يبدو لنا أننا كنا مخطئين في تصور ما كنا قد كتبناه فلا مناص من الاعتراف للقراء بالخطأ والاعتذار، أما العزة بالإثم فهي قصيرة العمر وسرعان ما تعود على صاحبها بالحرج، فقراء جريدة مثل طريق الشعب لا ينبغي الاستخفاف بهم وكلهم من خيرة مثقفي البلد. وانطلاقا من هذه المسؤولية وجدت أن علي الكتابة وبيان الأوهام والتناقضات التي حفل بها مقال د.هناوي.

في هذا المقال كما في مقالات سابقة تخصص الكاتبة أكثر من نصفه لتنصيب نفسها الكاهنة العظمى لمعبد النقد فتسمح وتطرد وتهب وتمنع وتوزع التهم والانتقاص يمينا وشمالا، فترى أن غيرها مدع ضبابي الرؤية وأنها وحدها تمتلك الحقيقة، ومن يقرأ المقالات التي كتبتها في الموضوع كلها سيكتشف بسهولة تناقضاتها وضبابية رؤيتها وجهلها بالموضوع من أساسه، وهكذا ينطبق عليها المثل العربي (رمتني بدائها وانسلت)، وسأركز على المغالطات والأوهام التي انطوى عليها هذا المقال الذي لا يتعدى طوله الصفحتين.

قرأت المقال بتأن ثلاث مرات ولم أفهم إن كان اعتراض د.هناوي الذي يشير إليه العنوان، فهل تعترض على تجنيس المتوالية القصصية أم على تسميتها؟ ولذلك سأرد على الاحتمالين مبينا الخلل في رؤيتها وأسبابه.

أما قضية التجنيس فلطالما كررت د. نادية اتهامي بالتلميح مرة كما في هذا المقال وبالتصريح أخرى بأنني أخترع تجنيسا أدبيا، وأنا لا أدري ما أساس هذا الاتهام، ولم يسبق لي أن ادعيت هذا، غير أني كتبت أن المتوالية القصصية جنس أدبي، لكن هذا ليس اختراعا ولا تقليعة كما قالت، فهذا الضرب من الكتابة السردية يشار إليه منذ ثلاثينيات القرن الماضي بأنه جنس أدبي والغريب أن الدكتورة لا تنتبه أن كل الدرسات التي تذكرها والتي كنت قد ذكرتها في مقالات سابقة لي تقر ابتداء من العنوان بأن المتوالية القصصية جنس أدبي مستقل على أن أذكر القارئ الكريم أن كلمتي نوع وجنس باللغة العربية تستعملان بمعنى واحد مقابل كلمة genre الإنكليزية، إذ لا يشار إلى الأجناس الأدبية بغيرها في تلك اللغة. فضلا عن أن د. هناوي تخطئ في الترجمة فتخرج بنتائج لا علاقة لها بالمقاصد الحقيقية.

أما قضية التسمية ففيها وهم كبير وقعت فيه الكاتبة بسبب عدم معرفتها المفهوم الحقيقي للمتوالية القصصية ولذلك وقعت في تناقض وتخبط، ففي البداية كانت تدافع عن مصطلح المتوالية القصصية وتدعي أنه مصطلح عراقي اخترعه الأستاذ جاسم عاصي، ثم أصبحت تسميها في مقالات أخرى المتوالية السردية وكتبتها بالانكليزية narrative sequence وفي هذا المقال تقول إن من يسميها بهذا الاسم مخطئ، والحقيقة أنها هي الوحيدة التي استعملت هذا المصطلح، أما الاسم الذي استعمله في كتاباتي فهو short story sequence أي متوالية قصصية ولم استعمل أبدا مصطلح المتوالية السردية لأنه مصطلح وضعه تودوروف يخص بنية الجملة في القصة ولا علاقة له بموضوعنا.

إن (المتوالية القصصية) هو واحد من الأسماء التي يستعملها النقد الغربي للإشارة إلى هذا الجنس الأدبي وهناك أسماء أخرى كثيرة منها حلقة القصة القصيرة (وليست دورة كما ترجمتها د. هناوي) وأفضل استعماله لأن كتابا عربا وعراقيين استعملوه لوصف أعمالهم، وعندما يشيع مصطلح ما فلا جدوى من الاعتراض عليه ما دام الاتفاق على دلالته قائما، ولدينا في العربية عشرات المصطلحات الأدبية التي لا تمت دالاتها المعجمية بصلة إلى معناها الاصطلاحي، ولعل المثل الأبرز هنا هو كلمة التداولية التي وضعت مقابل كلمة pragmatic الإنكليزية التي تعني النفعية.

يعد كتاب فورست انجرام ( Representative Short Story Cycles of the Twentieth Century: Studies in a Literary Genre) الذي ذكرته الكاتبة في مقالها كتابا مؤسسا في دراسة المتوالية القصصية، ولو أنها قرأته لعلمت أنه كتاب فني صرف لا علاقة له بالثيمات. وأبين هنا الأخطاء الجسيمة التي وقعت بها في تعاطيها مع الكتاب لأنها كما أظن استمدت معلوماتها من مراجعة للكتاب لا الكتاب نفسه لأنه نادر وغير متاح على الانترنت.

من العنوان يتضح أن انجرام يدرس المتوالية على أنها جنس أدبي مستقل ويبدأ كتابه بتعريف المتوالية القصصية (التي يفضل هو تسميتها حلقة القصة القصيرة) في أول سطرين فيقول:

"A story cycle is a set of stories so linked to one another that the reader's experience of each one is modified by his experience of the others."

وتمتاز لغة انجرام بسهولتها الكبيرة بحيث لا يحتاج القارئ إلى خبرة كبيرة باللغة الإنكليزية لفهمها، فكيف لمن يخطئ في فهم انجرام أن يفهم أساليب معقدة مثل أسلوب تودوروف. واقتبس هنا ترجمة د.نادية للتعريف:

"وقد قنن انجرام في هذا الكتاب فاعلية ( دورة القصة القصيرة) بوصفها مجموعة من القصص المرتبطة بعضها ببعض، يوزعها المؤلف بطريقة متوازنة ضمن وحدة معينة، في شكل مجموعات أو سلاسل، ولكل قارئ أن يقوم بتعديل تجربة ما من تجارب الآخرين."

هذه ترجمة مشوهة معتمدة على استخراج المعاني من القاموس فحرفت التعريف عن مراده الحقيقي، وكما يرى القارئ الكريم فالتعريف هو (حلقة القص هي مجموعة من القصص المترابطة جدا بعضها ببعض بحيث تتعدل التجربة القرائية لإحداها بالتجربة القرائية للقصص الأخرى.)

وأضع هنا صورة للصفحة الثانية من فهرس الكتاب لأشير إلى خطئين جسيمين آخرين:

738 ثائر العذاري

أما الأول فهو قولها أن انجرام ناقش في الكتاب التكنيكات المشتركة مثل الراوي والشخصية المركزية، ونظرة سريعة إلى الفهرس تكشف أن انجرام لم يكن يدرس هذه التكنيكات على أنها مشتركة بل لأنها مما يميز عمل شيروود أندرسون في كتابه Wisenburg,Ohio الذي يعده انجرام وغيره أول متوالية قصصية ناضجة منذ صدورها عام ١٩١٩. فهذه مباحث فرعية من الفصل الخامس الذي قصره المؤلف على دراسة هذا الكتاب واستغرق فيه أكثر من ربع حجم كتابه فهو يبدأ من صفحة ١٤٣ وينتهي بصفحة ٢٠٠ وهي نهاية الكتاب كله أيضا.

تقول الكاتبة ان انجرام ختم كتابه بدورانية التطوير النفسي التي درسها في ثلاثة مباحث هي النار والريح وايماءة والضبط. وأنا أرجو القارئ الكريم أن ينظر إلى القسم الرابع من الفصل الخامس نفسه الخاص بكتاب أندرسون لنكتشف بسهولة أن الدكتورة هناوي لا قرأت كتاب أندرسون ولا كتاب انجرام ولا حتى فهرسه. فعنوان المبحث هو تطوير الرموز في المتوالية وهو يدرس هنا تكنيكات اندرسون في الترميز واختار منها الريح النار اللتين تظهران في الفقرة الأولى من القصة الأولى حيث يستدعي جورج ويلارد نجارا ليجعل سريره بمستوى النافذةبينما كانت الريح الباردة تعصف في الخارج والنار في الموقد. أما ما ترجمته الكاتبة ايماءة فهو كما يتضح في الصورة التلويح باليد، لأن اندسون استعمل هذا الرمز في القصص كلها.

أما الخطأ البالغ فهو في الثالثة التي ترجمتها د.هناوي الضبط، وهذا يكشف عدم اعتيادها على قراءة الدراسات السردية بالانكليزية لان هذه الكلمة من مبادئ المصطلح السردي الإنكليزي، فهي لا تعرف ان النقاد يستعملون كلمة setting مقابل مصطلح (الزمان والمكان) في العربية وهذا ما كان يدرسه انجرام في هذا المبحث، فهذه الكلمة في السرد لا تعني ضبط كما هي ترجمتها في أجهزة الموبايل.

ثمة خطأ مركب تقع فيه الكاتبة في آخر المقال حين تذكر كتاب ( Short Story Cycle: the Ethnic Resonance of Genre) وتنسبه لسوزان فيرجسون والحقيقة أنه لجيمس ناجيل James Nagel ، فضلا عن ترجمتها الخاطئة للعنوان التي بنت عليها نتيجة خاطئة أيضا، فقد ترجمته صدى التشظي في النوع، والحقيقة أني لا أعرف ما أقول، فلا أظن هناك أحدا لا يعرف معنى كلمة Ethnic فهي بفضل الله من أكثر الكلمات التي تتكرر في العراق ومعناها الإثنية أو العرقية وعنوان الكتاب هو أثر الإثنية في الجنس الأدبي. وهو الكتاب الذي اعتمدت عليه جنيفر سميث في تطويرها لفكرة العلاقة بين التنوع العرقي في المجتمع الأمريكي وظهور المتوالية القصصية أواخر القرن التاسع عشر، فهي ترى أن شكل المتوالية القصصية يحاكي شكل عرقيات متنوعة كانت تسعى للاندماج لتكون أمة واحدة هي الأمة الأمريكية وهذا المعنى لا علاقة له بقضايا أخلاقية مثل الحضانة والاجهاض والطلاق كما رأت د.نادية.

ترى الكاتبة في المقال أن هذا جنس يمتاز بالميوعة وهذا يحول دون تجنيسه، وهذا فهم واهم لفكرة السيولة والميوعة، فجنس أدبي كتب فيه جيمس جويس وشيروود أندرسون وهمنجوي وكافكا وفيرجينيا وولف لحري بأن يدرس مستقلا. أما الميوعة والسيولة فهذه سمة من سمات القصة القصيرة لا المتوالية القصصية فالقصة جنس أدبي لا يستقر على شكل واذا سايرنا رأي د.هناوي فيجب أن نلغي مصطلح قصة قصيرة من قاموسنا لانها جنس مائع. على أن سوزان لوهافر التي تعد أشهر المتخصصين بالقصة في عصرنا عدت هذا الشكل المراوغ للقصة القصيرة واحدة من أهم السمات الفنية للجنس وبنت عليه كتابها الشهير Coming to terms with the short story الذي أتمنى أن يقرأه كل مهتم بالقصة القصيرة.

 

ا. د. ثائر العذاري

 

في المثقف اليوم