قراءات نقدية

"كلّ ُ هذا وأكثر" للمغربي محمد حياري.. لوحة انتماء إلى الذات

احمد الشيخاويفي محاولة لوضع حجر الأساس لمشروع شعري، يبدو أن الذات صمتت عن تفاصيله طويلا، من خلال تشفير أرهق الروح وأنهكها حدّا لا يُطاق، كي يثمر بالنهاية، بوحا يزهد في الخطاب القناعِي، ويجيء عاريا متنكّرا لمحطات الجلْد الأنوي، وإن كان لا يرفع كثيرا من المسؤوليات عن هذه الأخيرة، أيضا في مسرح ما يمكن للكائن فتح جبهة للنضال ضدّ روتينه، بعدّ الهوية الخاصة نواة معادلتنا الإنسانية، سواء بالمفهوم الفرداني أو داخل السّرب.

 وعيا يولّد صياغة بعينها، ليمنح الذاتيه معنى، ويؤثر في باقي الصياغات، وهي تمارس سلطتها، موجّهة في التشكيل، على نحو مباشر أو غير مباشر، متلاعبة بملامح مركزية كما كونية الفرد، تبعا لقياسات إذابة هذين المفهومين في ملمح السيادة أو الخصوصية الجماعية.

صمتت هذه الذات، متأمّلة مشهد ما قبل الفعل الإبداعي الضاج بثغرات أنويتنا الميّالة، في كثير من الأحيان، وفجأة انقلبت على ذاكرة طمر العيوب ومواراتها، خلف فخفخة ما تنفكّ تفضي إلى اصطدام فجائعي بفولاذية الواقع.

إنّ الشاعر محمد حياري، و هو يتوجع بترجمة مثل هذه الحمولات، ينبّه إلى عظمة وجلال الكلمة، والتي إن وفّقنا في احتواء عمقها ودوالها، بمعزل عن أضرب التكلّف والصنعة الإبداعية المشوّهة لنقل المعنى، نكون فقط قد تجاوزنا العقدة الأجناسية .

وهو طرح غامز بالرؤية الموسوعية المحيلة على طاقة إبداعية هائلة، وعبرها رفع منسوب التحكّم في الذات والزمكان، بما يتيح مساحات أوسع للتصالح والتصافي وترتيب المشهد الوجودي، وفق تصور يقوم على أنقاض فضح عيوب الكينونة، ينهض من رمادها، مكاشفا بكتابة إشراقات ولادات ثانية، وبعد برزخية، لتلكم الأنا المتخمة بخرائط طابو الأعطاب.

تجربة كهذه تتهمّ غطرسة الجماعي وتدين إشتراكيته الجائرة، إذ تتمحور على إذابة الهوية الفردية، وهي تبرز كأقصى ما يكون الفعل الإبداعي، مدى إشاعة ثقافة كون إنسانيتنا أكبر من الكلمة وسفسطة المنظومات الفلسفية المفتية بروح العام على نقصانها وجشع تغذّيها على تجاذبات إفقار الذات.

لكن تقبع القصيدة لسان الأبد في ذودها عن هذه الإنسانية المفقودة والمهدورة والمنوَّمة أحيانا.

يحضر سرد تكامل بين الأضداد لا تجاذب، ممّا يشي بتوجّه مغاير، يحسب للأصوات الجديدة، لما تخفض جناح الذل فقط للتجريب دون سواه.

إنها أبجدية تمجيد الدندنة الروحية، لا يهمها إن رفعت سقف ومضة الهايكو، أو أشركت معنى الإستذئاب الأيديولوجي، في نصغ لعبة كلامية، تنتصر للحياة وقيم الخير والمحبة والتسامح والنضارة والجمال، الخ...

في مناسبة ارتجالية، مع أنها تسجل للذات المبدعة عدم ركضها الممل، خلف الكلمات، بما يراكم معاني الانتصار لروح الفردانية، يقول:

[يكفيني سندويشا في المساء

لأحلم أني ألف الأرض مرة

 ومرتين بلا قدمين وبلا يدين

تحملني عجوز جميلة تمسك سيجارة بـــــــــفلتر

تخرج الدخان من أنفها

كلما سقطت نجمة في الجنوب](1).

ولو أن إطار الاشتغال، لا برح مستنقع أعطاب الذات: الخيانة، شحّ الضوء، الاعتراف بالرداءة النرجسية، الجنون خارج القصيدة، تأليه عبثية الأعمار، مرور الرموز الخاطف والخجول والذي يؤجج الظمأ لفراديس إنسانيتنا فوق ما يشعر بالحدّ الأدنى من الرواء، إلى ما ذلك من معاني يناوب على إنتاجها وتناسلاتها، عمق النصوص وبراءة لغتها وكريستالية معجمها وإنسانية خلفيتها وهي الأهم ههنا في مجموعة، لم تمنعها عذريتها، من مناطحة أفق المفارقات المحقّقة للوظيفة الجمالية والإدهاشية المرتجاة، من ممارسة الشعر.

من الديوان ندرج هذه الشذرة وكيف أنها تتماهي بتجليات العكسي أو المضاد، رافعة الحلم إلى رتبة صياد، استغراقا لوحشية قذرة ضمنية، يطارد الذات خارج حدود فردانيتها، بحيث لا يكون المنجد، سوى التشبّع بثقافة الاعتراف بالأعطاب الأنوي، كغيث كاذب، تغذّيه إرهاصات مصاردة الحلم للذات، لا العكس،  توسّلا برمزية وهوية الذات في عمق انتمائها إلى طقس العالمية:

[ بالأمس كنت طريد أحلامي

قفزت فوق أسوار المدينة

تخفيت بفروة ذئب

تكلمت لغة النمل

حتى سمعت غيمة حديثي

ففاضت عيناها بالدمع](2)

كذلك هي كتابة رصد الأعطاب، حين تبحث في المعنى الزئبقي، دفقا بألوان تغذية هوية الكائن الفردية، مثلما تُلهم هذه المجموعة الشعرية الباكورة .

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

.........................

هامش:

(1) نص نجمة سقطت في الجنوب، صفحة52/53

(2 )نص تفاصيل صغيرة، صفحة 45

كلّ هذا وأكثر (شعر) طبعة أولى2019، إصدارات جامعة المبدعين المغاربة، الدار البيضاء.

 

 

في المثقف اليوم