قراءات نقدية

قراءة في نص: امنحيني مطرَ الدّفء للشاعر شلال عنوز

انعام كمونةقراءة للمعادل الوجداني المعنوي لرموز ودلالات الطبيعة في النص الحديث

سأتناول مضمون النص المعنوي لأبحر في مدى روحي أكثر اتساعا لاستقراء المعادل الوجداني لكيانات الطبيعة في عاطفة الشاعر عنوز، ولنتسرب لآفاق فلسفته ورؤاه الفكرية والنفسية واتجاهات تأمله بالحدس المعرفي والتذوق الصوفي، لنلتقط المبهم والمجهول اللامرئي بلغة التحليل بطوبوغرافيا فلسفية التأويل، فالشعر فلسفة رؤيا للشاعر يرسم فضاء تأمله عبر اللغة كما أن الشعر لا يخلو من فلسفة ذاتية ورؤيا تجريبية، (يقول شيلينغ: "ان على الفيلسوف أن يمتلك من القوة الجمالية قدر ما يمتلكه الشاعر"*1 (أذ لا شعر بدون فلسفة) "، وأقول أن على الشاعر أن يمتلك قدرة لتصوير الجمال بقدر ما يمتلكه الفنان برشقات ريشته وعين خياله، وبما تتجاوزه رؤى الفيلسوف بإيداع التأمل حيز البصيرة لتحويل الذات الى موضوع بفكر مبدع، ، فكلاهما يرتبطان بكينونة الفكر والخيال بشكل روحي مباشر وغير مباشر، ومن تجاور المعرفة تتوالد افتراضات فلسفية تتناغم سويا مع فكر الشاعر بطريقة شعرية، فالغوص في أبعاد جغرافية الذات اِنفلات متفاوت التأزم لكيان واحد لتحرر الذات الإنسانية من نمطية الانكماش والانحشار بروتين خصومة الآخر فيبعث على التحفيز لتجديد الرموز ودلالات أقرب للذات بمهارة التخيل، فالفكر الخلاق للشاعر لغة النضوج وناصية أثر لبصمة العصر معرقة المعرفة تحاكي تاريخ الماضي والحاضر، ومن زمن لآخر يتشرب الواقع فيهما بمستوى اختلاف الضبابية والوضوح لشعرية الفكر وروحانية الوجدان ...

- ولنقطف لحظات الصفاء الروحي بعمق تأمل الشاعر عنوز وتوهج رؤياه بكينونة التفاعل مع جماليات الطبيعة كبيئة جذابة لتغريب المعنى فنقف امام أسلوب البعد المراوغ المستفز لشهية القارئ من اول وهلة لعتبات العنوان بتشكيلات لغوية مدهشة ...

- العنوان ...

- امنحيني مطرَ الدّفء :- العنوان دفقة شعورية مجسدة بسيمائية النص الحديث، يشي عاطفة إنسانية حميمية التوقد مخملية التعبير، وثراء لغوي شفيف التوهج، صياغة فنية رصينة المفردات مكثفة الدلالة مؤثرة الإيحاء، يخامره تناغم داخلي حثيث بعبق حب أسطوري، يضوع من بودقة التأمل أريج أنتعاش مفرط الرقة ...

- ولننحو لمفردة تضمنت الفعل والفاعل والمفعول به في آن واحد وامتداد نحوي بارع الألتقاطة من خزين الشاعر اللغوي، أينعت جمال التشكيل البصري وهيمنة المعنى فتكورت بإيحاء المضمون واختزلت الفكرة، وهي تلك المعجمية المزدانة بأنهار العطاء وبلاغة لغة وانهمار المعاني، ألا وهي (امنحيني) ....

- امنح .. فعل امر مبني على السكون كسر لالتقاء الساكنين والياء الاولى للمخاطبة فاعل , والنون للوقاية , والياء الثانية مفعول به اول , والمطر مضاف وهو مفعول به ثاني , ودفء مضاف اليه وعلامة جره الكسرة ,علما ان منح من افعال العطاء المتعدية التي تنصب مفعولين مما يدل أن مرتكز العنوان على رموز الفكرة في الصورة الشعرية بتعالق مشترك للتشكيل البلاغي العميق ...

- المنح هو خلاصة الكرم وهبة جزلة العطاء، وضمير المتكلم هو صوت الذات الفاعلة بوعي الأنا لتحقيق أمنية وخاطر موغل الجوهر في ذهن الشاعر، يشي بروحانية التقديس لتبجيل إنسانية الانثى بشكل عام في وجدانهِ والمتحققة في المفعول به الأول، فدلالة معجمية (امنحيني) هو الاستسقاء الروحي المشحون بالعاطفة، وطلب بأمر يتضمن بعدا خطابيا موجها لأمرأة ما تداولي الإشارة وما يتوارى خلالها هو إيحاء لوجود رمزي مقدس، وكيان لا ينفصل عن الوجود ...

- (المطر والدفء):- لنبحر في أُفق هاتين الاستعارتين ونستظهر عمق الباطن المعنوي لمضمون سيرورة الدلالة ومدى تفاعل نفسية الشاعر بأجواء البيئة، باستلهام مفردتيهما اضافة لصوت معجميتها رموزا دلائلية بفاعلية الحركة أوقدت الأبداع بخصوصية اقترنت بسيولة الحس الإنساني، مما يدل اندماج الشاعر ببيولوجية الكون متفاني الانصهار بحذافيره الوجودية، مؤمن بكينونة انتمائه لفطرة الطبيعة بل جزءً لا يتجزأ، معها يتكيف وبها يتأثر ويؤثر بتغيراتها فهو مادة الكون وعجينة النوع الرمزية ...

- ما يلفت لمعجمية المطر إيحاء ميتافيزيقي التردد، يخضب الحواس برائحة التراث، يفوح منها صدى فلكلوري، من أغاني وأشعار تستحضر الماضي بنشوة الحاضر، تنعش القلب وتبلل ارواحنا بنقاء المطر فتغسل همومنا، وللمطر أسطورة مشاعر غريبة تفيض التأمل بنكهة روحانية الآفاق لاسيما انه منزل من السماء، بهذا تستجلي اهتمام مشاعر الوجدان الروحي وتطلق عنان الفكرة بأبعاد مستحدثة لغير المألوف نتلمسها عند الكثير من الشعراء منهم الشاعر العراقي الكبير السياب وانشودة المطر التي تعتبر ملازمة لخاصية أشعاره وميزات اسلوبه بدلائل متضاربة ، فارتسمت في تاريخ الأدب العربي حاضرته الشعرية ...

- ومن الأبداع ان يتخذ الشاعر عنوز عناصر الطبيعة محورا لخطابه ويتجلى تأمله بخصائص جمال الطبيعة فسيولوجيا كرموزا للتعبير عن فكرة رومانسية المغزى، واغتنام مفردة عميقة المعنى ممتلئة الدلائل غائرة المكنون بإتقان مذهل فتكون متعددة الوجوه في مرآة خيال الشاعر تنعكس في ذهنية المتلقي رؤى تأويلية، وكما تتميز معجمية المطر من دلائل روحية لكل ما في الوجود لأنها رمز الخصب وأصول الحياة متجذرة بمعتقدات شتى بأشكالها التاريخية والعقائدية والاجتماعية بعمق سيكولوجي لجوهر العلاقات الإنسانية، فتتوغل في فكر القارئ البسيط المعرفة و المتلقي الملم بمكامن المعرفة تاريخا وحضاريا فيترف في تأويلها لما تملكه معجمية المطر من مرونة معاني تعبيرية سطحية ورموزا عميقة مواربة الإحساس للطبيعة طاغية في الوجدان، وكم من قواميس لسانية يطربها السمع بخفة الوتر ونشوة النبض فتُحيي الروح من العدم، فكيف ان تضمنتها روحا شعرية..! سيكون الأبداع غاية الإتقان لنتاج الشاعر عنوز ...

- وحين نسترسل في رؤى الشاعر تراودنا اسئلة شتى بدهشة الفضول الأدبي الممتع ...هل للدفء مطر؟ .. ومتى يكون؟ تتمحور الإجابة بما تبوحه العبارة بمكنونها التأويلي بإيحاء ذاتي التحفيز في ذهن المتلقي وما يلتمسه ورؤياه المعبرة باستحضار استبصاره الروحي وبلورة آفاق تحليله المحتمل بالمستوى المعنوي بما تسترجعه ذاكرة البحث والتفسير ويستدرجه مستوى شغفه وتأويله ...

- ولنتابع استقراء خفايا ومضمون العنوان نعرج أولا لمعجمية المطر وما توجت بلآلئ مميزة تملأ التأمل ...

- محورا رابطا بين مفعولين قبلها وبعدها في نسق بنيوي غاية الإتقان على مستوى التركيب اللفظي بجمالية فنية وتشكيل لغوي بارع بوعي او لاوعي اخترق نفسية الشاعر مما ينم عن مهارة لغوية للشاعر عنوز وخبرة مقتدرة لصياغة حالة شعورية دقيقة بزخم عاطفي روحي برصانة وتمكين ...

- اتخاذ مفردة المطر موقع اسنادي للمعنى التعبيري تمثلت بمستوى أساسي لتشكيل النسق التعبيري لصيغة العنوان بصورة شعرية ربطت دليلين لمصاهرة عمق المعنى وتكثيف الدلائل بالتقاطة شاعرية ينبئ بعدا دلاليا مكتنز الإيحاء برتم مبهر وايقاع تشكيلي برهافة حسية توقد الحواس ...

-مضمونا بيانيا باكتساء المطر دليلا حيويا لعاطفة البشر شخصنته روحيا باستعارة مكنية كوسيلة تجسيد في مدى خيال الشاعر، منه يتجلى لنا ميزة التشخيص والإنابة باكتساب مفردة المطر صفة غزارة الإحساس في عمق الذات المتخيلة بوعي محسوس ولا محسوس متجذر في جوهر طبيعة الخلق، فأنتجه بسحر المغزى بديلا عن مفردة الأحضان مما زاده غنى في ايصال الفكرة بعدة دلائل وأثراء التأويل للمتلقي...

- ولننعطف لمعجمية الدفء ورمزيتها المتناظرة في المعنى مع المطر والمتوازية في المستوى الطبيعي للتباين الحراري خلقت روح التضاد حيث ان البرد والحرارة كلاهما متغيرات لنوع طبيعي واحد بنفس المستوى الا انهما قطبي اختلاف وتعارض أثرهما في عمق الإحساس البشري ما ان نستحضر البرد في اعماقنا الا ونطمح لدفء مماثل ليوازن التوتر الحاصل بينهما فالمطر يذكر ارواح اشتهاءاتنا بالسماء .. البرد.. البرق .. الرعد ..الشتاء ..الأمل .. النماء والدعاء وبالتالي الحياة والأهم الحب، اما الدفء هو الأرض الطيبة.. الوطن.. الحبيبة.. الحلم .. الأماني، (ودلالات اخرى سوف لن اتطرق لها لأبقى في حيز ما اطمح لاستقرائه)، فرغم التنافر بينهما في الموقع والصفات، الا أن تنوع عناصر كينونتهما حققوا بنية الاتساق بترابط جذاب وفنية عالية في التكامل التام بإضافتهما في مبنى مختزل كل التغيرات البيئية والطبيعية وكشفت عن مدى احتياج بعضها واندماجها بكينونة توازن لغاية كامنة وراء وجود كنه البشر لتكتنف حلم الأنسان ...

 - المطر والدفء:- من تغاير صفاتهم وترادف تكوينهم خلق الشاعر الأبداع باقتدار مميز من عناصر بيئية التكوين ..وأنتج من حيز انصهارهما كيميائية نواة رائعة الخيال بوشيجة فطرة التكوين وما جبل عليه من تناقض، ومن مستوى الباطن نستكشف ما رسم الشاعر من طقوس للمطر والدفء ببذخ المشاعر وأحاسيس وجدانية بتشكيلة فنية ساحرة الوصف ولوحة شعرية بجمال خلاب بوجهة نظر فلسفية لحُلم عاشق ولهان، مما ازدانت الغرابة بدهشة التذوق عند المتلقي الباحث عن جمالية التفرد والتكامل ...

- ومن سابق مارسمته العلائق السابقة، تميز العنوان بانزياح جمالي خرق اللغة المعيارية بأبداع باذخ، وهذا التوظيف للانزياح الدلالي الغير مألوف خلخل الصورة فوَلَدَ ديناميكية حركية لصورة فنية انسجمت بين الحقيقة والخيال، الحلم والواقع، وينطبق مع(قول اليوت :-“وحده الخيال – ذلك الشباب الأبدي – يستطيع أن يجمع بين المثالي والحقيقي في قيادة عجلته، وهذا، في الفن أو في الفلسفة، هو انتصار الرؤيا الغنية بالخيال“)*2، وهكذا خلق الذوبان بين المعنى الظاهري لرمزية المطر وما ضمره الباطن بعمق الدلالة بنشوة التخيل ...

- وبما ان لحبات لمطر صفة السعة المتناهية ظرفيا كونها لا تعد ولا تحصى زمانا ومكانا فلا ظرفية تحدهما ولا تقيدهما، أذ لا يمكن عدها او تأطيرها بمسافة أو تحديدها بفترة زمنية معينة، فنستقرؤه من ذرى التمني تأويلا المعادل الوجداني لهما أن يحصل على حنين وافر بفضاء عدد حبات المطر للاستعارة عن مدى شاسع للاحتواء والحنين وهو المكافئ الدلالي لمطر الدفء، وإشارة الشاعر الى الاستمرارية وأمل التواصل اللا محدود بسعة خصوصية حبات المطر ...

- ما يشي مطر الدفء من ايحاء في ذهنية المتلقي ينأى به التأويل بما تتفتق ذاكرة معرفته الفكرية بتيار فلسفي، قد تكون أمنية روحية تحلق بفكره ليستدل الى استقرار البحث في عمق المعنى المعنوي بمطلق طبيعة حبيبات المطر، فيوجب له الأبحار بأشرعة شتى مع اي تيار، بل يطلق العنان للوقت وخارج حدود بوصلة المسافات ليسترسل في حيز معنوي بقدر ما يصاحب ذهنية القارئ من ومضات روحية تستجلي الدلالة الخيالية للشاعر ويكشف عما تضمره بنيوية المفردة متمددة وغائرة خلف قناع المعنى والرمزية وتجريدها من واقعها المادي وتلك بلاغة الشاعر ...

- من خلاصة العنوان وظف الشاعر عنوانا مكتنزا بصورة شعرية خصبة الرموز، بسيطة المفردات، بليغة البناء التعبيري، باستعارة جغرافية الظواهر كونية الطباع، ائتلفت بتضاد متنافر بين رمزي الطبيعة، باختراق باطنهم المتواري امتزاج حيوي التوحد للمعنى الحقيقي مما يدل على الأبداع الخلاق باحترافية الشاعر وبراعة استهلال يبان تعالقه النسقي مع جسد النص ...

- النص ...

- تميز اسلوب النص بجمالية التشكيل اللغوي بصياغة فنية رائعة لصور متوهجة، مكثفة المعنى بعنفوان عاطفي، واتقاد روحي ينبض شعورا ببراعة التخيل متعددة المضمون تتناغم بانساق متماسكة الارتسام بإيحاء رقيق لا تفلت منها الفكرة من الاستهلال لخاتمة جذابة تستفز المتلقي لآخر المطاف، وقد اكتنزت صوره الشعرية بعناصر متنوعة رائعة بسيمائية النص الحديث مثل الرموز والتناص والاستعارة والتضاد وهذه الميزات القيمة اثرت الدلالات بأبعاد معنى اللفظة الدالة وعمق دلالتها وما تشي لتأويل باذخ مما يدل على جدارة الشاعر في تقنيات اللغة وحسن البيان بالسهل الممتنع وهذا ما يوافق قول الجاحظ :(« أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا واحدا و سبك سبكا واحدا فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان »)*3والأروع ايقاعات النص الداخلية المتنوعة مدهشة بهمسات عزفها تبحر بنا لهدير الروح والتوحد معها ...

- ولنبحر في بعض مدارات إجرائية لجسد النص بمستويات متنوعة للخلق الإبداعي بلغة متموجة باعثة للدهشة من روح القصيد الذي يبعث لإمكانية القراءات المتعددة واستكشاف خبايا سيكولوجية النص الممرغة بالحواس وآفاق تلوح بذات الشاعر تارة وفلسفة الأنا الروحانية تارة اخرى مخضبة بتجارب الحياة وخبرة مخضرمة المعرفة متميزة الاطلاع بدروب معاجم اللغة وتقنياتها السيمائية، وينطبق ما يعنيه الآمدي حينما قال: (" ليس العمل على نيّة المتكلم، وإّنما العمل على توجيه معاني ألفاظه")، وهذا بمرجعية التناغم الجمالي المتظافر العزف بأسلوبية تميز الشاعر المبدع وتوحي بتقنية متمكنة وشاعرية فذة ...

- من بداية النص نستمتع بأفق اجرائي تتعين فيه ظرفية حركية تنبع من نفسية الشاعر فتتعالق مع زمن احساس الشاعر في مفردة (كلّما) وهي ظرف زمان يفيد الشرط، دلالى الإشارة ليؤكد مشاعره المتأججة حين يعقب احساسه سكون من فيض مشاعر والذي يبعث على الاستذكار، ثم يوثق ما يليه ب (واو العطف في "وغيض") فيتبع استرساله بالتشكيل اللفظي وانعطافها على البيت السابق ليجسد امتداد زمن السكون مؤقتا، تجسيد رائع لروحانية الوجد بصوفية التعبير وانزياح رقيق لصورة شعرية جذابة وعمق احساس باستعارة الفاظ احدثت التضاد، مثل (طوفان وغيض / هدأ ويفور) ...

- ان التركيب اللفظي بوجود مفردتي الوجد واللهفة وهي جدلية الحواس الأزلية وميزة صفات شعور العاشق وخاصية التوله عند الأنسان فهي جزء من إنسانيته والتي تنقلنا لتزاوج الحواس مع عناصر الطبيعة في معظم أنساق النص، فابدع الشاعر في انزياحهما بتغيير معايير اللغة وتمرد حرفه بخرق المألوف فأضاف بعدا جماليا رائعا ...

- كما هيمن تناسل المفردات العاطفية الأخرى بأسلوب النص والتي أدت وظيفة شعورية بوجدان نفسي عميق وحررت شاعرية المعنى للتعبير عما يجول في ذات الشاعر ونفسيته حيث شغلت تبادلا لعدة معاني بإيحاء آخر فصبغت الصور الشعرية بإحساس نفسي طاغي مثل ::، أمان، اشتياق، وله، نجوى، الحنين، التوق، زينت النص بدهشة التمكن سعى الشاعر لإبرازها وايصالها للمتلقي مرادفة لانفعال المتابعة لسياق النص بجمالية الصور وتشكيلتها الفنية المتنوعة تبهر القارئ على امتداد النص ...

- وفي مدار آخر اضاف الشاعر مفردات تناصية من بيان القرآن الكريم مثل طوفان وغيض ويفور التنور، قال تعالى (وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ)*4، كذلك (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)*5، لرسم بقية اللوحة بطاقة لغوية تتناغم مع انفعال كيانه الروحي فيلوذ بنجواه الذاتي ليجسم صور شعرية روحانية التناص شعورية اللقطة ليرتقي بتجليات الروح في غمر المطلق والسمو لاعتلاء عوالم صوفية الاجتراح، والتناص مع القرآن الكريم أروع سمة في النصوص الحديثة لبيان الأسلوب البلاغي للدلالة وعمق المعنى بوشيجة طبيعية نفسية الانتماء لثقافة فكر وانتماء بيئي واجتماعي، لذا تنوع المفردات الجميلة وتجانسها في الصورة الشعرية بانزياح يلقي عليها سحرا آخر بمنتهى التذوق للرؤيا من زوايا عدة ويتكرر التناص القرآني بجمال المعنى الظاهري وما يتوارى في الروح من وعي ذاتي يشي بأطر الدلالة من غياهب الوجدان مثل :- سآوي الى، التيه، لتعصميني، غرق، نجوى، آناء وأطراف، سرابيل، وكما يُعرف أدونيس الرمز الصوفي على أنّه (« طريقة الكشف عن المعرفة، والبحث عن المعنى ووسيلة لبناء الهوية، كما هو دعوة لتحرير الكيان البشري إلى جانب كونه دعوة إلى تحرير الفكرة.»)*6، فالتنصيص يجعل النص بحوارية مع النص التناصي الآخر ولكن بذاتية مستقلة مكثفة الإيحاء مما يلفت استغراق القارئ لاكتشاف الجمال ويستفز ذهنية المتلقي لمنابع البحث والتأويل ...

- ونرى تحرير الفكرة من تحرير الذات وعتقها من جمود التقليد والخوض في ابتكار الصور ليبرهن الأبداع والتميز في كينونة التنصيص بما يحمله من خبايا دلالات لنكتشف ولادة جديدة من مخاض الأبداع تشق سبل التذوق ...

- وكما جسد الشاعر لوعة الاشتياق المتأجج باختياره لمعجميات صوفية المعنى مثل:- تسابيح، مناسك ، وتهاليل، سخرها بلغة خصبة الدلالات تشي بما يجتاحه من مشاعر نفسية خلع عليها صوفية التواجد الوجداني برؤى ذاتية وتأملات حسية عميقة تتكور في تكثيف المبتغى الموضوعي للشاعر، فتُغرق المتلقي بمتعة المتابعة بالبحث والتنقل برحاب التصوف وبيان اللغة ...

- هيمنت الأفعال المضارعة متوالية في بداية كل صورة شعرية وخلالها أيضا مثل :- يفور، يعشّش، يؤجج، يتبدى، تدب، يجرجر، تصطاف، ينثر، تموء، تلم، يورق، يهيم، يمحص، يمحق، يتراقص، تتبوء، يزدهر، تضج، تتناسل، تتألق، يستفيق، تشاكس، تقولي، يرحل، يلتحف ... وهذه الأفعال مؤثرة بالمعنى وببنية النص وتمد بأفق الرؤيا في تأويل المتلقي لما لها من استمرارية حضور وزمن يتنامى تبرز من وعي او لاوعي اثر الانفعال الوجداني العميق وفلسفة ذاتية لفكر الشاعر، فتطغي قوة التحفيز للالتفات لمعيار الصورة في ذهن المتلقي وهي نقطة معبرة بالروعة لتجربة الشاعر في فن مهنية الأبداع ...

- على سبيل قطفة اخرى روحية الوجدان ميتافيزيقية الوجود تراثية الأثر تؤكد أهمية التواصل الاجتماعي والثقافي في فكر الشاعر نتأملها في السطر التالي: (مكتظّة برائحة قهوة الحنين)، الحنين صفة حسية والقهوة رمزا لرؤيا تراثية تعكس نكهة الأُلفة والتقارب الروحي لمراسيم مجتمع لها مرجعية تاريخية، ومن عتمة لونها تجسد لحظة فيزيائية توحي بامتداد تصوري للقارئ لعمق المشاعر بانعكاس الرؤيا بشعور حسي بتناغم تراثي يترأى بتفاعل التاريخ مع الأدب عبر جوهر الفكرة بتأثير نفسي عميق المغزى وباستخدامه مضافا مجردا الى مضاف اليه محسوس فأنتج استعارة رائعة بصورة تجريدية في تشكيلة منسجمة بالشكل والمعنى، وهو ابتكار الشاعر لأثارة ذهن المتلقي بخبرة أدواته الشعرية الماهرة ...

- ومن مستوى اجرائي آخر من الشطر التالي (يتراقص شجر الحِنّاء على نَجيع ضفاف (الفاو) / وظف الشاعر صورة شعرية بارعة البنية، منطقية الدلالة، بتركيب خاص مميز مبتكر، بمزج رموز التراث والفرح بالأرض، الحنة مراسيم تراث توحي بالفرح والمناسبات الاجتماعية بعقائد روحية متنوعة الغرض، و(الفاو) منطقة مشهورة بحنتها في جنوب العراق(" الرمز في اللغة هو الإيماء والإشارة والعلامة ")*7 وكلا الرمزين بجوهرية الصورة والدلالة للحبيب الوطن، وهنا يلوح قلقه الروحي وشعور يفيض بالانتماء الى ترابه فيطفو بفلسفة ادبية تعانق حروفه ضفاف وطن كلل هموم الشاعر بغربة مجردة حلمه من أماني السلام ...

- امنحيني مَطر الدِّفء!! ايقاع متكرر للعنوان في متن النص يؤازر نسق النص ترابطا ممتدا بالانسجام الكلي للبنية التركيبية وسيماءً للتواصل الدلالي للشاعر مكثفة لرؤاه الشعرية وروحانية تأملاته، فنستوضح جذورا متلاحمة لبنية العنوان في هيكلية النص تتجلى إحالة دلالية بإيحاء معنوي روحي الأبعاد بسيكولوجيا فطرية لمحتوى عبارة مشبهة غزارة المطر بزمن مفتوح الأفاق يوحي للتواصل المستمر يروي الشوق والحنين ومنه يستغرق تساؤل الاستقراء بنهم المتابعة وما ضمر خلف اللفظ من دلائل بانزلاق وتروي شيق المتعة لاستكمال النص دون كلل ...

-وعلى ابواب خاتمة النص دفقة شعورية رائعة، تستوقفنا برهة تأمل وتمعن بسرد مكثف مبهر مرتكزه الأنا وضمائر المخاطب ولنحصي الجمال من منابت العتاب والذكريات وشغف محب مؤثر ...

- (منذ عرفتكِ رقصت سنابلُ أُفقي، عشقت الغناء..)، شعرية حوار داخلي(مونولوج) يعطي بعدا تقنيا مكثفا فنيا بصورة شعرية رائعة السبكة تحكي قصة اللقاء بأفق زمني واستخدام الضمائر تضمنت ال(الكاف في عرفتك) ضمير المخاطب، وضمير المتكلم الياء في أفقي .. ترانيم حوار بلقطة شعورية اختزلت قصة التوله الصوفي ووفق في التوقيت اللا محدود ب (منذ) مما يعطي علامات الاستغراب حيز فضاء الفضول فترتسم تساؤلات القارئ وجه رؤية ليبحث عن بداية الحكاية بشوق متلهف ...

- مَن قال: انّ الغناءَ لغوٌ ماكرٌ وفيه تتألّق الأرواح؟)، (مَن قال) خطاب موجه لغائب حاضر باستنكار حاد الانفعال يحلق في مخيلة الشاعر واستذكار يلتفعه تساؤل يلج بمنولوج داخلي تعمده فلسفة انسانية التجديد وحضور معرفي عما يقال بالماضي من خرافات واعتقادات متداولة تراثية من تراكمات فكرية ترفضها الأنا في مخيلة الشاعر، فيتأجج احتجاجا يؤكد بما تمتلكه معجمية (الغناء) من رقة وخفة تخترق الأسماع فيستنير طرب الأحاسيس بلذة الانطلاق في كونيات الأمل عبر الوجود يجاوز زمن الحلم، جمال الإيحاء بمزج الحسي بالمعنوي فانتج تفاعل الحواس بالتذوق الذهني عبر عوالم مخبوءة بالغموض والإبهام مشوبة بالخوف والتوتر مخبأ نفسيا في كوامن الفطرة على مستوى الدلالة النفسية للشاعر المرمزة بالأرواح تجيز لنا أُفق إجرائي آخر بالمستوى الصوتي ، وقد أبدع الشاعر بمزج الذات بالموضوع ، فاظهر جمالية اللغة بطاقة انزياحية عززت أدوات الإيحاء لتأويل الدلالة ...

- سأظل أُغنيكِ (السين) تأكيدا للحالة الحسية مع الفعل أظل لاستمرارية الحالة، والغناء تتناغم وكلام مدعاة لسبيل تواصل روحي، (حتى) ظرف زمان بمعنى الى أن وما يوحي للاستمرارية والتواضب الحسي فنمرق مدار آخر خرق المألوف بانزياح مستساغ لتحديد الصورة الفنية المتعالقة موضوعيا ومتناسقة اسلوبيا ومنسجمة انسيابيا في بنية النص متفاعلة مع السابق والاحق من الأنساق ...

- (حتى يستفيق صحو الشتاء وتشاكس القصيدة سرابيل المساء) والشتاء استذكارا للمطر والدفء، هكذا نعاود التأكيد بصورة مدهشة للعنوان وما حمل من اشارات ودلالات لجسد النص فكل الأنساق متشابكة متساندة بالخطاب تبوح بمدى الوجود وتستغرق مدارات الوقت، و قد برع الشاعر باستخدامه معجمية المساء وما تشي اللفظة للهدوء وانزواء للذات واستذكار الكثير، فانتج صورة مدهشة بمدار اجرائي لصورة شعرية بانزياح رائع بإضافة جماد معنوي الى محسوس معنوي ... والقصيدة هي حروف الشاعر في قرى نفسيته، غزله ..غناءه ..أمانيه ...

- خاتمة النص حوارية وجدانية الروح يتقد فيها استبصار نفسي تلج بذات الشاعر انفعال وجداني غائر بحنايا الروح معلنا احتجاجه واصراره استفهام السؤال بإصرار ليجيب باستمرارية الأبحار الروحي وتواتر الأنا يُغنِّي الإجابة برؤيا الأمل والتي تزهر من سمات الطبيعة البشرية لملء الحلم بفلسفة كونية من ذات الفكر والتأمل طموحه لا يخبو ساريا عبر (الزمن كله)، (هو نهارٌ يلتحف الزمان كلّه) نرى مدار انزياحي لصورة شعرية مبهرة، ومنه يكون المستوى الإجرائي مرتبطا بزمن مفتوح لا حد له ينسجم وأبعاد مفهومية وما تضمنته لغة المطر اللا محدودة ومعجمية النهار حركية انتقال بتأويل واضح الرؤيا، صادق الوجد، مبهج للنفس بمدار تأمل ...

 

بقلم إنعام كمونة

........................

هوامش

1: من كتاب الفلسفة والشعر لعبد الهادي مفتاح

2: اسرار البلاغة في علم البيان ص 41)

3: أبو عثمان عمربن بحر الجاحظ، البيان والتبيين)

4: سورة44 هود

5: سورة 40هود

6: يوسف اليوسف:ما الشعر العظيم

7: جميل صليبا : المعجم الفلسفي

........................

امنحيني مطرَ الدّفء

نص / شلال عنوز

كلّما هدأ طوفان تسابيح الوَجد

وغِيضَ دمع الّلهفة في مُدُني

يفور تنّور ذكرى

محمولا على أكتاف مهرجان عنيد

يعشِّش فيه يَمامُ أمانٍ صمّاء

يُؤجّجهُ هدير يتبدّى إشتياقا

تدبّ فيه تراتيل عُري نسيان

يُجرجره تيّار تتسكّع فيه

مناسِك الولَه

تصطاف فيه عصافير الترقّب

ينثرني ملحا وماءً

على أجنحة فراشات

ملوّنة الإتجاهات

في جزر مَنسِيّة

تَموء فيها قِطَط التغرّب

سآوي اليكِ ....

عند مُنعطفات تهاليل نجوى

مكتظّة برائحة قهوة الحنين

لتعصمينني من غَرق تدفّق

جوع الذبول

وتلمّينني قمح إنتماء

لحقول المجرّات

يُورق انتظاراً أبديّ الطّلع

في نُخيلات عُمري

يَهيم في مقتربات الحُلم

ليُمحّصَ وجع التّيه

..يمحقَ الجفاء

عندما تُزغرد العَنادل

على وَشوشات هَمسِك

يتراقص شجر الحِنّاء على نَجيع

ضفاف (الفاو)

امنحيني مَطر الدِّفء

فأنا أفقٌ بلقعٌ

هجرته رطوبة الوَدْق

وأنتِ مَدارات غُيوم ضاحكة

تَتبوّئين إحتشاداً للغَيث

كي يزدهرَ حرثُ العمر..

بساتينَ فرح

طفلٌ مستفزٌّ أنا

وأنتِ هدهدات أمٍّ حانية

عطّريني بنَقاء المُروج

لأشمَّ نفح عطر العَنبر

عبر قارات قَسرِ التهجير

آناء التَّوق وأطراف السَّهر

إرسميني لوحة يتيمة المَلامح

كلّ لوحاتكِ تُبحر فيها النجوم

تَضجُّ حقولَ سعادةٍ شرقيّة الدّلال

تَتناسل فيها أسرار الرُّقم الخالدة

منذ عرفتكِ رقصت سنابلُ أُفقي

عشقت الغناء..

مَن قال: أنّ الغناءَ لغوٌ ماكرٌ

وفيه تتألّق الأرواح؟

سأظلّ أغنّيكِ

حتى يستفيق صحو الشتاء

وتُشاكس القصيدة

سرابيلَ المساء

لا تقولي:

غبشاً يرحل بالجنون؟

هو نهارٌ

يلتحف الزمان كلّه

شلال عنوز

 

في المثقف اليوم