قراءات نقدية

نوتنغهام بين الذات والموضوع

صالح الرزوقفي هذه الرواية القصيرة والمكثفة (نوتنغهام في علبة لشمانيا) يعود بنا الدكتور قصي الشيخ عسكر لأطروحته الأساسية عن الصراع بين عناصر المدينة الفاضلة والمدينة الشريرة. فروايات الشيخ عسكر هي نتاج نقطتين لا ثالث لهما:

الأولى الصراع بين العناصر أو مواقف كل إنسان من موضعه في المجتمع.

والثانية هي أجواء المدينة.

ومعظم أعماله تحمل عناوين تشير لاسم مدينة معروفة. ومنها: “نهر جاسم” أول أعماله والتي تدور عن مدينة صغيرة تصادف أنها مسقط رأسه. وقد عزا لها صفات ومكونات تجدها في مدن لا وجود لها إلا في رؤوس كتابها، مثل ماكوندو ماركيز، والخالدية عند محمد البساطي، و نهيلون Nihilon في رواية ألان سيليتو المعروفة بعنوان: “سفريات في نهيلون”. ومع أن “نهر جاسم” مدينة لها وجود ملموس على الخريطة، غير أنها في الرواية تسمو فوق واقعها، وتعيد تعريف علاقة الإنسان بالأسطورة والخرافة والحكاية الشعبية. ولقصي العسكر أيضا رواية بعنوان “الرباط”.

لكنها تبدو بعكس سابقتها. فهي عن شخصيات مهاجرة لا تهتم بالمكان ولا بالمدينة، وتحمل معها إشكالياتها وتفرضها على الجو. وله أيضا “المقصف الملكي” التي تعيد إلى الذاكرة أجواء بيروت وهي في مخاض الحرب الأهلية. ولكنها تقف بين العملين السابقين.. ترسم أجواء بيروت من الداخل، ومعها معاناة الشخصيات بما لديها من طاقة على الأمل وقدرات على التأقلم. حتى أنه يصعب في هذه الحبكة فصل الشخصيات عن المكان. ويتقاسم الطرفان دور البطولة، ويبدو كل شخص كأنه جزء من المدينة.، عين أو قلب أو أذن. في حين تتحول بيروت إلى أمنية أو رغبة تتوسع في داخل الشخصيات حتى تحتلها. وأعتقد أن هذا هو حال هذه الرواية “نوتنغهام في علبة ليشمانيا”.

82 kusay600

إن الشخصيات تحمل معها جرحها، و تضعه بموازاة جرح نوتنغهام، وكلاهما يتحول إلى رسالة رثاء وندب للحضارة والإنسانية التي تنوشها الحروب من جهة والأمراض الفتاكة من جهة.

وميزة هذه الرواية برأيي أنها رواية تفاصيل كما ورد في مقدمة الدكتور عبد الرحيم مراشدة. وللأسف إنها تفاصيل مؤلمة عن شرور العالم الحديث ولذلك استحقت من الدكتور الناقد أن يسميها يوتوبيا سوداء أو دايستوبيا. فنوتنغهام مفصل من مفاصل المعرفة. وهي مكان للدراسة والتعلم. غير أنه مع تطور الأحداث نكتشف كم فيها من موبقات وآثام كتجارة البغاء وظروف العمل القاسية وطاحونة الرأسمالية التي لا ترحم الضعفاء والمساكين. هذا غير أنها ماكينة عسكرية تشترك في احتلال الشعوب وتقييد حريتها ومستقبلها. وبين استغلال مواطنيها وغزو واستعمار الشعوب تتجلى صورة نوتنغهام الحسناء واهبة للمعرفة ومانحة للحب المأجور. وهو ما توقفت عنده مقدمة الدكتور مراشدة بكثير من التأني. ومن أهم ملاحظات مقدمته معنى المدينة المعلبة والعواطف المعلبة التي يمكن أن تربطها بالعنوان: “نوتنغهام في علبة ليشمانيا”. وكانت الرواية عادلة في توزيع اهتماماتها بين مخاوف بطل الرواية من آثار الحرب على بلده وبين مخاوف جوستين بطلة الرواية من دور الظلم والجور الاجتماعي عليها وعلى أفراد عائلتها. وقد انتبه الدكتور مراشدة لهذه النقطة و رأى أنها دليل على واقعية الرواية. فهي لم تقف مكتوفة الأيدي أمام الحضارة المانحة والمتقدمة ولكن أشارت للسلبيات التي تنمو على هوامش الحضارة، قبل أن تتحول إلى علة فتاكة مثل داء الليشمانيا الممرض والضار.

وإذا كانت الرواية تتبع اتجاه الواقعية الجديدة ومن أبرز سماتها: بطل من غير بطولة، أو شخص يائس يفكر بطريقة ويعيش بطريقة أخرى، فدراسة الدكتور مراشدة تتبع مدرسة الشكلانية الجديدة. وهي مزيج من رؤية باختين لتطور الشكل الفني عبر التاريخ وعلاقته مع المجتمع والفكر الإنساني. مع رؤية تودوروف ذات الأبعاد النفس/ وصفية. وبالأخص فيما يتعلق بفرز العناصر الغريبة عن العناصر العجيبة وأصول كل منها و تجلياته لاحقا في أدب المستقبل (ما اصطلحنا عليه بالخيال العلمي). مع الكثير من نقاط التمفصل والارتكاز على أحد أعمدة البنيوية وما بعد الحداثة وهو رولان بارت.

وهذه الخلطة المتوازنة من المناحي والخلفيات قدمت لنا رؤية بصيرة وثاقبة. وإن كنت لا أتفق مع كل تفاصيلها، لكن لا يسعني إلا أن أقف موقف التقدير والاحترام لما ورد فيها من نقاط إضاءة وتنوير. لقد عملت هذه المقاربة النقدية على وضع أسس الشكلانية الجديدة عند العرب بعد أن حفر الأساسات لها مجموعة من النقاد الأفاضل ممن بدأوا في الثمانينات أمثال فائق المحمد السوري وحسام الخطيب الفلسطيني ومحمد برادة المغربي وسواهم كثير. وتابع جهودهم المضنية في التسعينات جابر عصفور من مصر ونجم عبد الله كاظم وحمزة عليوي من العراق مع آخرين..

ومن أبرز علامات الشكلانية الجديدة:

1- ربط تطور المجتمع التاريخي بتطور معنى الأدوات وليس الأدوات ذاتها.

2- التعامل مع النص على أنه نتيجة مركبة لتعاضد وتآزر مجموعة من الفنون والعلوم كعلم المعرفة والفلسفة والانتروبولوجيا وغيرها..

3- الاهتمام بجدلية العلاقة بين الانتاج الفني والنشاط البشري. ولذلك كان لدور التطور التكنولوجي يد عليا في توجيه قراءة النص واستقباله. ومن أهم علامات هذه الرؤية في دراسة الدكتور مراشدة ما ذكره عن اليوتوبيا السوداء. فقد جاور عمدا بين الخير المطلق والنوازع الشريرة التي تدخل في نطاق استعمال العنف للدفاع عن النفس أو لنصرة الخير والفضيلة ابتداء.

ختاما.

قدمت الرواية مكاشفة صريحة للذات أمام الموضوع. ومثلها كانت المقدمة عبارة عن وصف مسهب ومحايد لمحاسن ومساوئ الغرب والذي يعود له الفضل بفن الرواية الحديثة.

 

صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم