قراءات نقدية

الدور الفني لللغة المحكية في أعمال جيمس كيلمان

صالح الرزوقبقلم: سكوت هايمس*

ترجمة صالح الرزوق


ذكر الناقد الشكلاني الروسي فيكتور شكلوفسكي أن “القيمة الفنية لشيء ما، وعلاقتها بالشعر <بالتعارض مع النثر العادي> هي نتيجة حالة إدراكنا، وهي ليست ناجمة عن صفات نوعية خاصة”. وعليه دور الفن أن ينعش الإدراك، لأنه دائما بخطر التعرض للخمود، والدخول في دورات أوتوماتيكية عادية. وبتعريف شكلوفسكي الفن “أسلوب لاستعادة خبراتنا الواعية، والتحرر من العادات الميتة والميكانيكية في سلوكنا” بشكل عام.  وبتخليص الواقع العام من “ألفته” والاقتراب منه بطريقة غير روتينية، يخلصنا الفن من خمولنا ويذكرنا أن الإدراك مسألة متحركة. وأفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف يكون بواسطة أعمال  تتطور طوعيا، وتقودنا إلى الدخول في طور الوعي، وبذلك تخفي تحسسنا من أساليبها ومادتها وأشكالها، وتضمن ذوبان “الطبعنة” الكسولة التي قد تحيط بطريقة تعرفنا على القوانين والتقاليد:

وبـ “تغريب” الموضوعات والأشكال المعقدة، يجعل الفن الإدراك مسألة تحتاج لوقت مطول و“متعب”. ويكون لطريقة الفهم هدف خاص به فقط وعليه أن يتوسع بأكبر قدر ممكن. إن الفن طريقة من طرق فهم وتجريب آليات الإبداع.  ويلعب الاحتكاك والكدح والسوداوية في كتابة المحكيات دورا جماليا تحرريا في نطاق الحدود المذكورة هذه. فالقراءة، وأن تكون على درجة من الوعي بعمل القراءة  نفسه، جانب مختلف من جوانب الإدراك الأدبي، ولا يكتفي بمعالجة الكلمات المستعملة والمتكررة (أتوماتيكيا، أي دون وعي) وكأنها كل “مضمون” الألفاظ. وانسجاما مع هذا المنطق يكون المستوى الفني الخاص بالكاتب مجرد “أثر منتزع عمدا من مجال الإدراك التلقائي”، ويعمل على تنبيهنا بجدواه فيما يتعلق بالتحوير الفني. ولكن هل يمكن للخطاب “الطبيعي” حقا أن يكون أساسا لمثل هذه الآثار؟. يقدم فريدريك جيمسون في صياغته لموقف الشكلانيين دعوة مفتوحة لنا لدراسة محكيات كيلمان وتأثيراتها وذلك بضوء “التغريب ostranit” الذي اقترحه شكلوفسكي. يقول عن ذلك: بدأ الشكلانيون بإثبات أن الخطاب الشعري من عدة جوانب يعادل لغة الكلام العادية وكأنه لهجة من اللهجات... واللغة الشعرية  لهجة تعمل على جذب الانتباه إليها، وهذا الانتباه يقود لإدراك متجدد يشمل نوعية المادة اللغوية نفسها.

لنقلب هذه الفكرة رأسا على عقبونتساءل: إذا كانت اللغة الأدبية “لهجة” من لغة عادية، هل إن كتابة اللهجة - حتى اللهجة “غير الشعرية” -  شيء له نفس التأثير،  ويجدد إدراكنا للألفاظ ببساطة، فقط  لأنها “كثيفة” مثل اللغة القياسية  أو  المكتوبة؟. هل إن كلمة “لا يعلم doesnay” لا تلفت الانتباه لها بنفس الطريقة التي سماها  شكلوفسكي “الحساسية الشعرية”، ومثل ”عادي natchril” و“ أكتر  mair” و“الاتنين baith”؟. ومثل “شعرية” شكلوفسكي إن كتابة المحكيات هي  إبداع “متعمد” يختاره الفنان بطريقة تدفع المتلقي، للتمهل خلال القراءة، والتفكير بالنص. وهكذا يمكن للعمل الأدبي أن يفرض أعمق نوع من أنواع التأثير الدائم. إن الأثر الغريب الذي نجده في اللهجات والمحكيات أو الأشكال غير القياسية - وهو ما يسميه دورا أحمد ببساطة (نقلا عن كين سارو - ويوا) “الإنكليزية الفاسدة” - قد بدأ يلعب  بسياق استاطيقا الكلام الجازم.  إن نصوص المحكيات، عوضا عن أن تكون “أكثر واقعية” من الفن، وبتجاوزها للدلالة وتقمص الطبيعانية والأصالة، أصبحت حجر الزاوية في الصيغ  الأدبية السائدة والتي تنتج عن احتكاك وتلامس يؤدي للفهم والوعي:

وكما يقول أرسطو، على اللغة الشعرية أن تكون لها خاصية شيء غريب، شيء متميز.. وفي النهاية نصل لتعريف الشعر على أنه لغة كلام محرف ومتحول. 

اللغة “المحلية” ببساطة هي نص “غريب”، وهو ما سمح لكيلمان بالنفاذ إلى نوع مزدوج وغريب من الاغتراب. وهو بذلك يحتل موقعا معاكسا  لما قال عنه شكلوفسكي “اللاأتمتة”  - الوعي الذاتي المنعش لإدراك الألفاظ - وعليه يمكن تأصيل “اللغة الطبيعية” التي لم تفسدها تقاليد المجتمع أو الضوابط الألسنية: لغة رومنسية معفاة من الأتمتة لأنه من المفترض أنها تنبع مباشرة من الطبيعة. ولمثل هذا التحفز تاريخ تجده في “اللغة البسيطة والمباشرة” التي تبناها وردزورث واقتبسها من “حياة القاع البطيئة” وفرضها على “القصائد المغناة “Lyrical Ballads ” بغاية تقريب الصيغ اللفظية (والذوق المتبدل” بسبب موت الأساليب) من عناصر الطبيعة. هذه “اللغة البشرية الحقيقية “تتقمص” عاطفة الإنسان.. وتندمج بالأشكال الجميلة والدائمة للطبيعة”، ومنها في النهاية تتطور تلك اللغة”.  وكما يقول أتريدج “بهذا الخصوص علينا أن نكبح الفكرة القديمة عن الشاعر والتي ترى أنه حرفي، لأن أي وعي حيال أي كلمة يخلق مسافة تفصل بين لغة الشاعر واللغة الحقيقية التي  تتطور ضمن ظروف عاطفية معينة”.   وعليه تحتل المحكيات مكانا إستاطيقيا على مسافة بعيدة أو قريبة من الحقيقي، فهي تدل على كل من الطبيعة نفسها والأداة الواعية. من ناحية غرابة المحكيات - المنحرفة عن”النفس”- تتضمن قراءة منهكة، ونصا يدرك نفسه و(حينما تكون بشكل لغة سردية) تبدو بشكل ظل على نافذة نرى منها ما فوق الخطاب الواقعي. من ناحية مقابلة، يتجنب كيلمان الصوت الرومنسي بإلقاء المحكيات إلى الخلف لتنطبق على نفسها. وهكذا لا يمكن السماح لغرابتها أن  تضاعف من دور المعايير الجديدة المنافسة، وأن تصنع سلطة خطاب مستقر (كموضوع - أو كميتا لغة)، أو أنها تساعد “ألفتنا بها” لتكون مثل أصل للغة ذات جذور.

وعليه إن كيلمان ليس نوعا عائما من الواقعية “المباشرة”، ومقاربته للغة،  بالرغم من من انتمائها للصحافة، ليست طبيعية. وليس هناك كلام “فعلي وحقيقي” في أعمال كيلمان، ولكن تحتل المساحة “موسيقا حقيقية فعلا” - فاللغة بعيدة عن روح الروتين وبرود القواعد وتلاحظ أنها سلسلة من المناسبات الشعرية المنعشة. وهذا التيار اللغوي المتدفق “حقيقي” مرتين: مرة لأنه يتجنب الارتباط بالتقاليد السائدة، ويحافظ على أصالته (يحتفظ بواقعيته بالمعنى الذي تجده في محطة MTV)، ومرة ثانية  لأنه يجعلنا واعين بالبروتوكولات الرومنسية “من أجل الاحتفاظ بروح الواقع” (حيل النص ليظهر حقيقيا)، ولكنه جزئيا يعمل على الغدر بها وخيانتها.

بتعبير آخر محكيات كيلمان هي تغريب للذات (تنحرف عن شكل لغة الأدب الإنكليزي الرسمي) وهي اغتراب ذاتي باعتبار أنها تبدل من ترتيب عضوية “الحضور” الصوتي الرومنسي. والمؤثر الثاني أكثر صعوبة على عين الملاحظ، لأنه لا يتم إدراكه إلا من داخل أشكال معروفة من الفن الشعبي الدارج  (سرد اللهجات). ولكن هذا لا يعمينا عن حقيقة أن التوتر الأساسي  في أعمال كيلمان موجود بين مساحة صوتية غامضة - جوهر الكلام الاجتماعي “المحلي” يكون صادقا بتطوره وإعادة إنتاجه - وبين الأسلوب الذي يضع “اللغة الحقيقية” على مسافة منك: إنه إضفاء جماليات نوعية على المألوف وهو ما يضمن لنا درجة من التحرر من المعطى والتجريبي، ويفتح الطريق لاحتمالات إبداعية في نشاط القراءة. إن كيلمان لا يكتشف فقط، على امتداد محور التجربة الألسنية، ما لحق  بالثقافة العضوية و“الطبيعية” من تصنيع وتكلف. ويمكن لنا أن نراه في روايته “النفور disaffection”  يربط هذه المشكلة الألسنية بأجندا إستاطيقية أوسع، ويفحص، بزوجين من الصور الأساسية، إمكانية الإستثنائيات الفنية - الموضوع “الغريب” الذي يجدد ويحرر الإدراك والفهم، بمواجهة خلفيات الروتين اليومي - وإمكانية سيادة فن شعبي له جذور في ما ينتجه المجتمع من “معطيات” وأشكال مألوفة.

 

.............................

* ناقد من اسكوتلاندا في مجال الأدب السياسي. أستاذ في جامعة ستيرلنغ البريطانية. المصدر مراسلات شخصية.

 

في المثقف اليوم