قراءات نقدية

مقولةُ الأنوثةِ وسلطة مرجعيَّاتِ النَّصّ الثَّقافيَّة

وليد العرفي في شعر: سردار مُحمَّد سعيد

يبدو الشاعر: سردار مُحمَّد سعيد في نصوصه مُنشغلاً  بفكرة مجاوزة الشكل التعبيري، وهو يُعيد صياغة رؤياه حول ما يود التعبير عنه، وفي هذه المجاوزة يُظهر توقاُ إلى قولبة نصه الشعري بما يحقق له هوية خاصّة مفارقة في شكلها ومضمونها الحدود الفارقة بين الأجناس الأدبية، فالنص لدى سردار نصٌّ لا ينتمي إلى إجناسية محددة بقدر ما يُعبّر عن توق لجذب القارىء إليه وفق غواية يعرف الشاعر ممارستها بذكاء وحنكة قادرتين على شدّ متلقيه من غير أن يشعره بفعل الشدّ الحاصل، وهو ما يجعل القارىء يقع من دون أن يعرف ضحية نص في لذة وتوجع في الوقت ذاته، وهنا يبدو السؤال منفتحاً على مدى مشروعية النص في هذه الغواية

أوَّلاً - الإغواء بالأسماء الرمزية:

يُشكّل ورود  الأسماء في النص الأدبي فعل ممارسة فوقية على القارىء الذي يجد نفسه أمام سلطة ما هو خارج النص، وبهذا ينقاد إلى سلطة الاسم المُستدعى، وفعل الاستدعاء الذي يعتمده الشاعر يبدو فعلاً يقوم على توجّه إغوائي يجعل الشاعر صريع ما ينفتح عليه النص أكثر مما هو في داخل النص، وعلى هذا الأساس؛ فالنص يتطلّب من القارىء حالة مرجعية لفهم ما ورائيات تلك الشخصيات المستدعاة، ولنلاحظ كيف استدعى الشاعر في قصيدة (حكاية سُعدى) تلك الرموز يقول:

أُلّهت في أوروك، وسموني "عشتار"

وفي مصر سموني" إيزيس " أحببتُ وعشقتُ،

ومن كان بلا لحاف صرت له لحافاً،

ومن مسّه عطش سقيته لبن أثدائي

امتزجت بأجساد امتزاج الماء بالنبيذ

ذبت بأخرى ذوبان الملح بالماء .

وسميت ببلاد الإغريق" افروديت "

إذ برزت عارية كلؤلؤة من صدفة تطفو على سطح الماء

وصفتُ بآلهة الحب والعشق والشهوة

وعُرفت ُفي شتى البقاع بأسماء مختلفة

فمرّة فينوس ومرّة اللات ومرّة كليوباترا، وكلهن أنا .

أنا " سُعدى "، إسمعوني يا أهل العالَمَين العلوي والسفلي.

حمل الراية معي، وكان لي لحافاً،

ذاب فيً وذبت فيه، اندمجنا معا،

حين أكون كأساً يكون كافورها

تُمثل سعدى في هذا النص مقولة الأنثى بوصفها محور الكون، وأساس الحياة، ومانحة الوجود، وهنا لا بدَّ من طرح سؤال عن حقيقة سُعدى ؟ ومن تكون ؟ هل هي الأنثى المجردة من نسبة أم أنها رمز للأنوثة بوصف اسمها ذات إحالات على غير واحدة من سُعديات الشعر العربي اللواتي وردت أسماؤهنَّ في مدونة شعرنا التراثي؛ فقد ورد ذكرها في شعر عبيد الله بن فيس الرقيات بقوله:

بَشَّرَ الظَبيُ وَالغُرابُ بِسُعدى             مَرحَباً بِالَّذي يَقولُ الغُرابُ

وأيأً تكن الإحالة المرجعية ومقصدية الشاعر الحقيقية ؛ فإن سُعدى في النصَّ تُحيل على مقولة الأنثى بما تعنيه من رمز لدى كل شعب من الشعوب، وبهذا المستوى من الفهم تتبدّى سُعدى واحدة متحوّلة من خلال ارتباطها بالفعل الأسطوري الذي يجعل منها آلهة لدى كل شعب من الشعوب التي تغيّر في تسميتها من دون أن تستطيع الانعتاق من سطوتها على تفكير الشعب واقتناعه بقدرتها على ما تحمله من دلالة، وما تُشير إليه من رمز

ثانياً الإغواء بالأسماء المعاصرة:  يستدعي الشاعر اسم شاعرين لهما تجربتهما المتفردة في استهلال نصه، فيلجأ إلى إقامة حوار أحادي الجانب بهدف خلق أرضيّة لبناء قصيدته وفق هندسة المرجعيات الشخصية التي بدأ محاورتها:

أتشعران بي؟

أنا أشعر بكما بمجرد سماع صوت هشيم الأباريق،

وصدى وقع خطوات مريم،

فتعروني قشعريرة، يحتضن شجرتي نور الشمس فتورق،

ويضوع ريّا ثمرها الزكي .

لقد أمحضتماني الفنّ .

فإليك يا بياتي ويا سعدي ولم ترحل فراشاتكما من بستاني،

ولو أنذَ المنتأى واسع.

لكما مني تسليم البشاشة.

حاولت أن أزيح طرفاً من الستار العظيم كما فهمته منكما، أيها المعلمان.

إنَّه فعل حوار يقوم على لفت انتباه القارىء إلى تجربة كل من الشاعرين، وقد ارتبطت كل شخصية منهما باسم امرأة مع مالهما من خصوصية، وسبق ريادة في تجربة الشعر الحديث التي بدأت ملامح تشكلها الأولى على يدي السياب والملائكة والبياتي  .

إنَّ استدعاء الشخصيات المعاصرة تفرض موقفاً لا بدَّ أن يتخذه القارىء من الشخصية سواء أكان موقفه منها سلبياً أم إيجابياً، وعلى هذا للموقف  المبني على ما هو خارج السياق النصي سيبنى الموقف مما هو داخل السياق النصي، وعلى تلك اللعبة يتفّنن الشاعر سردار في فعل غوايته حيتاً وتوريط القارىء حيناً آخر في القراءة التي لا يمكن أن تكون بمعزل عن مرجعياتها الثقافية والمعتقدات الفكرية لتي يؤمن بها القارىء ويعتقد بها

ولا تكاد يخلو نص من نصوص الشاعر إلا وفيه متل هذه الاستدعاءات:كما في قصيدته أعرف أين أقف الآن التي ينهيها بقوله:

بلحظات ربيعي فالخريف قادم لا محالة تفقد وهجها البراعم

تيبس أغصان بستانك

فمن يظللني؟

ومن أين يأخذ الطين لونه

وعرايا "غوغان"  فإنَّ النص في أسئلته المفتوحة التي جاءت في ختام النص تُحيل القارىء على مرجعية الاسم غوغان، ولذلك تبدو إشارة الشاعر التعريفية في الهامش ضرورة، ومفتاحاً لفهم القصد من المسمّى غوغان الذي أشار إلى أنه رسّام فرنسي انطباعي، وفي هذه الإحالة يغوي القارىء بالعودة إلى لوحة الرسّام ليُدرك ما رمى إليه الشاعر إنها فتنة الغواية التي يعمد الشاعر سردار إليها بهدف جذب القارىء إلى مرجعيات نصّه الثقافية التي يؤسّسه عليها .

وهو ما يتبدّى في نصه الآخر بعنوان: (إيميسا) التي يستهلها بمرجعية نص قرآني كريم بما يضفي على النص من إجلال ومهابة وسلطة قادرة على تحقيق الفعل وإنجازه على وجه السرعة والآنية يقول:

كن فيكون

فكانت إيميسا

قال الماء

راح زمن العطش

ناديا تبللت شفاهها

حلَّ وقتُ الارتواء

ألقت جسداً في "العاصي"

تدافع الموج

للتبرك

يبدو فعل القول الذي يلجأ إليه الشاعر على لسان الماء فعلاً باعثاً على الحياة فالماء رمز الحياة، وإيمسيا اسم مدينة حمص وهو يعني الأرض اللينة، وفيها نهر العاصي الذي يخالف في اتجاهاته الأنهار الأخرى، ولذلك جاءت تسميته بالعاصي، ويبدي الشاعر ولهه بالحسية في النص عبر إشراك الحواس في تحقيق سطوة الإغواء على المتلقي  يقول:

أقلّب وجهي في البساتين

لا أراك

أي الفواكه أنت؟

يبدو افتتان الشاعر بالظاهري عبر سؤال ينفتح على عوالم الإدهاش بسؤاله الذي بقي بلا إجابة ؛ فالفواكه مثيرات للنفس البشرية، وهي ترتبط بفعل حسي اشتهائي، وبقاء هذا الاستتار لنوع الفاكهة يثير لدى المتلقي فضول الاكتشاف عن طبيعة تلك الفاكهة والنوع الذي يحدد مذاقها:

أتيتك لا همَّ عندي

عدْتُ وعندي ملء الأرضِ حزناً

غير أنَّ هذه الفاكهة سرعان ما تصدم المتلقّي بتحوّلها من باعثة على الاشتهاء، وإثارة الرغبات إلى مصدر همٍّ، وحزن

رشفتِ كأس القهوة

قلت ِما أمرها

اختلط رضابك بالثمالة

لعقتها فكانت كالعسل

ورغم ذلك فإنَّ الشاعر لا يغادر دائرة الاشتهاء الحسيّ إلا في إطار الموقف، إذ سرعان ما يعود إلى نطاق الحالة الحسية عبر حاسة التذوق بما تثيره تلك الحاسة من تأكيد على رغبة الشاعر في بلوغ ذروة النشوة، وغاية المتعة فالقهوة ترتشف من كأس، وليس من فنجان كما هو متواضع على تقديمها في العُرف الاجتماعي، والكأس في دلالتها المعجمية تعني حالة الامتلاء، وإلا فهي الكوب، وهو ما يُفيد بدلالة الرغبة الجامحة في الوصول إلى مراد الشاعر الذي عبَّرت عنه ظهورات الأفعال: اختلط، لعقت، كانت، وما تعنيه من حالة اندماج وتلذّذ وتماه .

ونخلص مما سبق إلى القول بأنَّ الشاعر سردار مُحمَّد سعيد ينشغل في طروحاته بالمرأة بوصفها كائناً وجودياً غير منعزل عن الواقع بما يحمله من مكابدات وإرهاصات هموم وأحزان، ولذلك فليس من الغريب أن تتبدّى مقولة الأنوثة في النص الشعري الواحد بمظهري الفرح والحزن، في انعكاس يتمثّل متناقضات الحياة بوجهيها المشرق الجميل، والمظلم القبيح.

 

د. وليد العرفي

......................

للاطلاع على نصوص الشاعر في صحيفة المثقف

سردار محمد سعيد

 

في المثقف اليوم