قراءات نقدية

إبن سينا والنفس المُتصوّرة!!

صادق السامرائيهذه قراءة بعيون نفسية لقصيدة إبن سينا المشهورة عن النفس، ويبدو فيها وكأنه لا يعرف ماهية النفس، ويحاول أن يصل إلى ما يراه معرفة وإدراك للنفس بإقتراب فلسفي، ووفقا لمنظومة تفكيره المتأثرة بالفلسفة اليونانية القديمة.

كما أنه يستلهم من القرآن ما يعينه للوصول إلى وهْمِ معرفة النفس.

والكثيرون قد حمّلوا القصيدة أكبر من طاقتها وفحواها، وأخذوها إلى آفاق ومديات ما خطرت على بال كاتبها.

ومَن يتأملها بهدوء يرى أن إبن سينا يعبّر عن تخبطه وحيرته، وعدم ثقته بتصوراته بعد أن جعل النفس موضوعا فلسفيا لا غير.

والبعض يرى في القصيدة نوازع عرفانية وصوفية ورمزيات ودلالات وغيرها من الإسقاطات التأويلية، لكنها قصيدة بلغة عصرها ومفردات زمانها، ولا تتحمل التعليلات السفسطائية .

إنها إقتراب فلسفي من النفس والروح، وتحققَ خلط واضح بينهما.

وبسبب ما تم إضفاؤه عليها، تحولت إلى نص مقدس لا يُسمح بالنظر إليه والتفكر به ونقده، بل المطلوب الإمعان بتعظيمه وأخذه إلى آفاق علوية سامية.

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعززٍ وتمنــــــــعِ

جاءت من منبعها وحلت في بدن وكأنها وديعة مسالمة متمنعة متعززة، لكنها أرغِمَت على الحلول في بدن المخلوق.

وقد أضفت عليها الشروح توصيفات إلهية وحلقت بها في علياء الوجود، وما هي كذلك ولا هو كان يسعى بها بهذا الإتجاه، بقدر ما يحاول التعبير عن حيرته ودهشته بلغة فلسفية بحتة.

محجوبة عن كل مقلة عارفٍ

وهي التي سفرت ولم تتبرقع

ولا يمكن رؤيتها ومعرفتها، لكنها تظهر بالأفعال والسلوكيات البادية على المخلوق.

الذين أمعنوا بالتحليق في القصيدة يرسمون البيت بعبارات لا تمت بصلة إليه، ويذهبون به إلى مدارج الصوفية والإدراكية والعرفانية، وما يتكشف ولا يتكشف، وهذا محض هذيان وتسطير لكلمات لا تخبرنا عن فكرة أو معنى.

وصلت على كره إليك وربما

كرهت فراقك وهي ذات تفجع

يتصور إبن سينا أن النفس قد أُجْبِرَتْ على الحلول في المخلوق، وهذا في حدّ ذاته تأكيد على عدم فهمه للنفس، وشدة الصعوبة التي يواجهها في إستيعابها ووعيها.

ويقولون أنها كانت في صوامعها العلوية المقدسة فهبطت مكرهةً للحلول بالبدن، وكأن البدن قد تكون وإكتمل ثم جاءت إليه النفس، وما هي إلا رفيقته منذ تكوّن أول خلية ساعية لهندسة كيانه الخَلقي.

أنفت وما ألفت فلما واصلت

آيست مجاورة الخراب البلقع

ويرى أنها المكروهة التي تتأبى وتتقزز من الحلول في بدن من التراب المُخَلّق، ولكي يبرر بقاءها فيه يذهب إلى أنها كالآسير الذي تآلف مع آسره، وما عاد يرغب بمفارقته.

فالنفس لا تأنف ولا تألف وإنما هي جزء جوهري في ماهية الموجود الحي.

وأظنها نسيت عهودا بالحمى

ومنازلا بفراقها لم تقنع

وكأنه يقول بأنها توحلت وتدنست بالبدن وأمعنت بمساوئها، حتى نسيت ما كانت عليه من رفعة ونقاوة وطهارة وسمو.

وهذا تصور خيالي ومحاولة لإقناع نفسه بما يرى ويتصور عن النفس.

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها

عن ميم مركزها بذات الأجزع

ويستحضر رؤيته الفلسفية ويرسم صورتها التي لا وجود لها إلا في الخيال، ويحسب أنها تمازجت بتراب وجودها الأرضي المزدحم بمفردات وعناصر السوء والشرور.

وفي هذا تناقض، فهو يحسبها قد تناست وإستوطنت حالة أخرى سيئة وتعودت عليه، وكأنه يصف السلوك البشري وما يعتري الإنسان بتأثير الظروف المحيطة به، فيخلط ما بين الواقع والخيال.

علقت بها تاء الثقيل فأصبحت

بين المعالم والطلول الخُضّعِ

كلام فلسفي لا محل له من الإعراب، لكنه يجري وفقا لمنهج نظرته للنفس، وكأنه يثبت بأنه لم يدرك معنى النفس وطبقاتها التي أوضحها القرآن، وأكد عليها مرارا وتكرارا.

فهي لا ثقلت ولا تدنست، وإنما تنجم عن تصارع القوى الثلاثة الرئيسية الفاعلة في الأعماق البشرية.

وفي ما يذهب إليه محاولة لإدغام العلم بالفلسفة للتغطية على عجز المعرفة.

تبكي إذا ذمرت عهودا بالحمى

بمدامـــــــــــع تهمي ولما تقلع

هذا أشبه بالهراء على أن النفس تنوح وتذرف الدموع لأنها معتقلة في البدن، وكأن المخلوقات بأسرها عبارة عن معتقلات وزنازين عذاب وشقاء لهذه النفس التي يتصورها ويتوهم توصيفها

وتظل ساجعة على الدمن التي

درست بتكرار الرياح الأربع

تخيلات فلسفية ذات رمزية مجافية لطبيعتها، وكأن النفس تنوح وترثي حالها لأنها قد وقعت في مصيدة البدن الموبوء بالدونيات من الأفعال، وما هو إلا مادة أو مطية تسيّرها هذه النفس وتمتهنها وليس العكس كما يرى.

إذ عافها الشرك الكثيف وصدّها

قفص عن الأوج الفسيح المربع

يتجلى في هذا البيت إضطراب الفهم والحيرة التي تدفع إلى تصورات فلسفية للخداع والتضليل، فهو يتوهم بأن البدن فيه كل ما هو سيئ، وأن النفس الكريمة السامية العفيفة النقية الطاهرة قد تمحنت فيه وتعذبت، والعكس هو الصحيح.

وغدت مفارقـــــة لكل مخلف

عنها حليف الترب غير مشبع

ويتوهم أيضا بأن معركة محتدمة بين النفس والبدن، أو بين ما هو غير ترابي وترابي، وأن النفس ستنخلع وتعود إلى أصلها متحررة من قيد التراب الذي رزخت في أجيج ويلاته.

سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت

ما ليس يدرك بالعيون الهجـــــــــع

ويرى أنها جاهدت وقاومت ولا بد لها أن تنتصر وتنطلق إلى علياء مقامها البريئ، وفي هذا إسفاف في الخيال والتصور الفلسفي، الذي لا يستند على أي رصيد واقعي وعلمي ومعرفي، فهو يمعن بتصور أن عقولا نادرة ستبصرها وتعبّر عنها، وهذا محض وهم وهذيان!!

وغدت تغرد فوق ذروة شاهقٍ

والعلم يرفع كل من لـــم يرفع

وهنا إسقاطات صوفية لا علاقة لها بالنفس، حاول حشرها فيها لحيرته وعدم تأكده مما يبحث فيه، فالإختلاط يبدو واضحا فيما يشير إليه بأبياته التي وضعها في وعاء تصوره، وصنع منها خليطا غير متجانس.

فلأي شيئٍ أهبطت من شامـــــخٍ

عالٍ إلى قعر الحضيض الأوضع

وكإستنتاج لما تقدم يطرح هذا السؤال الذي لا محل له من الإعراب، ولا معنى فيه، فهو قد بنى ثيمة القصيدة على أن النفس في عرش بعيد، وقد هبطت إلى بدن مدنس بآثام التراب، والإفتراض الخاطئ ينتهي إلى إستنتاج خاطئ.

إن كان أهبطهــــــــا الإله لحكمةٍ

طويت عن الفطن اللبيب الأروع

وكتفاعل فلسفي مع الإفتراض الذي بنيت عليه القصيدة، فلا بد من القول بأن الإله قد أنزلها لحكمة تجهلها الألباب الفطينة.

فهبوطها إن كان ضربة لازب

لتكون سامعة بما لم تسمــــــع

ويرى أن هبوطها كان حتميا ويفسره على أن عليها أن تخوض تجربة فتتعلم ما لم تعلمه من قبل، أي أنها أرسلت للأبدان لتخوض تجربة وتستنبط منها معرفة.

وهو تفسير فلسفي وتعليل منطقي لغرص الإقناع وحسب.

وتعـــــود عالمة بكل حقيقة

في العالمين فحرفها لم يرفع

ويمضي في تبرير تأويلاته وإسنادها بالحجج المنطقية، لكي يصل إلى حالة الإقنناع الموهوم، ويرى أنها قد تضررت وما إستفادت كثيرا مما جرى لها، فما هي الحكمة من هبوطها المزعوم.

وهي التي قطع الزمان طريقها

حتى لقد غربت بعين المطلع

ويقرن النفس وفقا لتصوراته بالزمن ويرى أنها تتغير بموجب ذلك، وقد يحصل لها الكثير من التبدلات والإنطفاءات، لكنها تعود وتجمع قدراتها وتنطلق في مسارها من جديد، وهو تصور لا بأس فيه وكأنه يقول أن الطاقة لا تفنى ولا تأتي من العدم.

فكأنها برق تألق بالحمى

ثم انطوى فكأنه لم يلمعِ

ويريد تبرير عدم قدرته بمعرفتها والإمساك بسرها، لأنها كالبرق الذي تألق وغاب فجأة فما إستطاع تأمله بإمعان وإستكناه ما فيه.

ويبدو هذا البيت إعترافا واضحا بعجزه عن التوصل إلى ماهية النفس وحقيقتها، وكما تشير أبيات القصيدة السابقة!!

ويمكن القول أن القصيدة محاولة فكرية فلسفية ضمن منظومة عصرها، وما يهيمن على التفكير من مذاهب فلسفية يونانية قديمة تداخلت مع المعارف الدينية والأدبية، فأضفت عليها تعقيدا وغموضا وأوجدت مهربا من الجهل وعدم العلم بالشيئ.

فالفلسفة القديمة قد وفرت ما يلزم من الأدوات التضليلية للتحرر من الجهل بأي موضوع، وذلك بإدراجه في مسلة الفلسفة وسبلها العتماء، فيتوهم القارئ أن المتحدث بها يعرف لأنه لا يفهم ما يتكلم به، وهذا أحد أسباب إبتعاد الناس عن الفلسفة في مجتمعاتنا، التي صارت فيها الفلسفة عباءة يتغطى بها الذين يدّعون المعرفة.

فهل قدمتْ شيئا نافعا عن معرفة النفس؟

الجواب الموجع يكون بالنفي، بل هي أوهمت القارئ على أن النفس كما أراد تصورها، بأنها بعيدة عن الإدراك والتجلي وستبقى غامضة ودفينة، وهذا ما تدحضه نظريات وقوانين العلوم المعاصرة المتصلة بالنفس والسلوك وهي في تطور مضطرد.

كما أنها تقدم لنا مثلا على التمسك بما لا ينفع وتقديسه بعد وصله بالغيبية الفاعلة فينا،  والإنصفاد في متاهاتها الغثيانية التي لا تقدم ما هو عملي ونافع للناس.

فالنفس واضحة ساطعة متجسمة بالسلوك الفردي والجماعي، ولا علاقة لها بما جاء في القصيدة المعفرة بالغموض والرموز والتوهم بالإشارات الإدراكية!!

وفي الختام قد يقول قائل، مَن أنتَ لتتجرأ على إبن سينا وتتحدث عن قصيدته في النفس التي أذهلت العقول وطيَّرت الألباب، فالموضوع ليس كذلك، وإنما من واجبنا أن نقرأ بعلمية وموضوعية ووضوح مجرد من عواصف الإنفعالات والتصورات البهتانية.

وبحكم إختصاصي وتجربتي العملية، ربما أمتلك بعض الشجاعة لإعادة النظر فيما أراه يستحق النظر.

 

د. صادق السامرائي

20\7\2020

 

 

في المثقف اليوم