قراءات نقدية

قراءة في مجموعة: غرقى في سراب للشاعر عباس السلامي

حيدر عبدالرضاأفق العلاقة الدلالية بين إحاطة الدال وإزاحة المدلول القصدي

توطئة: يسعى الشاعر الأستاذ عباس السلامي من خلال مجموعته الشعرية (غرقى في سراب) إلى نقل وتبيين ثمة علاقات دلالية ذات خصائص سببية مؤثرة، يستدعى من خلالها ذلك الإرتباط العضوي المحفوف بمسميات الأفعال والاقترانات الأحوالية الخاصة ووظيفية (إحاطة الدال) صعودا إلى مقاطع متمحورة في روابط مضمرة في الجوهر والمكونات الخارجية والداخلية من مسار علائقية ملفوظات تذكرنا بخلفية (النص التوالدي) وامتداداته التكثيفية، والشاعر يسعى من جهة غاية في الأهمية إلى ملامسة أعمق الصفات من تلميحات العلامات والاشارات والمقاصد في عوالم نصه المليء بمفارقات مواضع تتخطى مواطن غرقها وهوانها بوسائط من الغفلة وعنفوان غياهب مصيرها المدلولي المزاح في خطاب وصورة وحدات رؤية النص المقطعية .

ـ البنية الشعرية بين مفترق الذات وتجاوز الذات

تطلعنا عتبة الإهداء، بما يمثل مقاطع من الوحدات الشعرية، التي هي بمثابة ذلك التصدير المختزل في تكوين الوحدة الكلية من مراحل تنصيصات دوال وعلاقات المحتوى النصي، فمثلا نقرأ هذه العتبة الواردة من قيمة تصديرية الإهداء (إلى من يصرون على الغرق ! .. إليهم بلا جدوى) هكذا وجدنا عتبة الإهداء تشكل بذاتها مفترقا وتجاوزا عن الذات الشعرية الخاصة بالشاعر، والأمر هنا مفصولا عن آنوية الذات الواصفة وأحوالها، إيصالا بدلالة ملفوظ الآخر من مبنى النص . وتبقى أهمية مبررات دلالة جملة (يصرون على الغرق) وجملة (بلا جدوى) بمثابة العلامتين المسيطرتين في مؤشرات دال (القشة) وبالمعنى الذي لا يقدم إلى دلالة (الغرق) سوى تلك الوسائطية الهلامية من النجاة والوصول إلى بر الأمان . فالشاعر السلامي كان يسعى إلى معاينة داله القصدي في حدود صناعة الوهم بالإمكان والأمل واللاأمل والحقيقة واللاحقيقة . وتبعا إلى درجات التلميح والإيجاز، تدفعنا دوال النص إلى جهات قصدية غير محددة في أدنى مستوى من تشكلاتها الدلالية، فيما تنقلنا حالات الرؤية إلى مساحة تراتبية خاصة من نسق مقابلات البدائل الممكنة في ظل وقائع الظرف النصي:

مِنْ على اليابسة ..

تحملُ القشةُ المغفَّلينَ

لتُفْرِغَهُم غرقى في عرض البحر

و تعود ثانية إلى اليابسة

هكذا

في مشهدٍ يتكرر ...

1856 عباس السلاميالذات الشعرية تصف لنا لوحة حياتية، يكون مصدرها عادة ذلك التوظيف الملامس إلى بؤرة أحوال الخطيئة من قبل الآخر المتواصل في استجاباته لمزايا وأهوال مزالق الآمال الكاذبة في الحياة والمرحلة العمرية . والشاعر من وراء جمل دواله القصدية، ربما كان يصبو إلى مسميات أدهى من مجال تحليلنا النقدي هذا، ولكن مواضع الإشارات العلاماتية في النص، أخذت تؤكد لنا جملة معطيات خاصة في فهم المعنى المتاح في جمل النص الأولى، بدءا من عتبة الإهداء وحتى رسومية هذه الجملة من علاقة الملفوظ (هكذا في مشهد يتكرر ..) ففي هذه الجملة تحديدا نشعر بحقيقة مأزق المشهد الحياتي لدى الآخر، خصوصا من خلال أولئك الذين هم في موضع الصورة من الغفلة والخطيئة، بيد أن كل واحد منهم كان يسعى في دال (اليابسة)إلى بث وظائف سلوكية مريبة وآثمة على حد تقديرنا المفترض في مؤولات النص، فيما ينتقل إذا أدركه الموت مثقلا بأحمال ذنوبه داخل عصارة أمواج ذلك البحر الذي هو صورة محتملة للموت القيامي أو هو لربما يعنى بواقعة البرزخ الدنيوي لدى ذلك الآخر . أما دلالة (القشة) فهي الأخرى بمثابة الخصيصة التي تقوم بنقل أصحاب الغفلة وحدهم إلى قرار الموت (لتفرغهم غرقى في عرض البحر) ويبدو أن الشاعر من جهة أخرى كان يحتفظ بالمستوى الخاص من كمون وتخفي المعنى المراد منه في محمول النص الظاهر، لذا فإننا سوف نتعامل مع تحولات المعنى والمقاصد اللامحددة لدى الشاعر، في حدود نقطة مفترضة ومشتركة من وجهة نظرنا الرابطة وأبعاد قراءتنا الاحتمالية للنص، وصولا إلى فهم معنى النص بحثا في تداولية معناه المطروح في علاقة الملمح والمرمز في المعروض النصي:

مَنْ يُبْحِر

وهو يعتلي مركب الوعي

لا حاجةَ لهُ بالقشّ .

قد تكون معادلة ثنائية (الغرق + القشة) بمثابة البنية اللاتبصرية لدى معاملات الآخر، أي أولئك الذين بلا مقدمات من الحكمة والرشد والبصيرة، لذا نجدهم يفترضون السفر في بحر الحياة فوق قشة واهنة، فإنهم يلاقون في الآن نفسه ذلك المصير المحتوم بالغرق والتيه والمجهول في أعماق بحر الحياة، وعلى هذا النحو تتوالى الأطر المعرفية لدى الشاعر، موضحا سبيل النجاة من الغرق (من يبحر .. وهو يعتلي مركب الوعي .. لا حاجة له بالقش) .

ـ رمزية البدائل الشعرية وخطاب دليل الطوفان

تشكل لغة الشاعر السلامي في وحدات مجموعة (غرقى في سراب) كطاقة متعددة البدائل المتحولة في لغة الممارسة الدلالية، فالشاعر يستمد بدائله الاستعارية ضمن مداليل ومصنفات وقائع حقيقية من عين الواقع، ومن خلال موجهات لغة البدائل لدى الشاعر، نعاين حيز الاستخدامات الإيحائية المتاحة في دليل النص لإقامة علائق في مواطن ومداخل صورة المعنى، أي أنها كما يقول إلياس لحود (لغة الممكن وليست لغة القائم، المعروف، العادي، المتعارف عليه .. لغة القصيدة الجديدة يجب أن تكون من علاقات مغايرة ومختلفة في الطرح الدلالي والأسلوبي . / لغة القصيدة الجديدة: مجلة المعرفة ـ العدد 242) وبهذا المعنى المراد، وجدنا وفهمنا مغزى مقاطع ووحدات (غرقى في سراب)، أي بمعنى ما أن السلطة الرمزية في أداة خطاب قصيدة الشاعر، كأنها بمثابة مغامرة تيه الآخر ممن لا يحسن ارتقاء السفر فوق الأمواج الحياتية العاتية، إنها مخاطرة العبور إلى أعماق بحار المعارف في مراكب واثقة . وهكذا نجد شعرية المسرود لدى السلامي، تنقلنا نحو ملحمة وصفها الآسر وفي حدود من أيقونة التراكيب التفاعلية في علاقة بوح الذات الواصفة:

على متن القشّة

يتعالى دعاء الغرقى ! !

**

عبثاً

تحاول القشّة

أنْ تمحُوَ أسماءَ الغرقى

المنقوشة على الماء ! .

و تسعى إشكالية ابتهالات الغرقى من على ظهر القشة، إلى الوساطة نحو السماء، طلبا للنجاة والوصول إلى ضفة الأمان، ولكنها بلا جدوى أدخلت الآخر في لجة الأعماق ليستوعب قرار الغرق وسكرات موت الغفلة، فيما تعاود وسائطية هشاشة القشة، نحو الاتصال بحلمها المتوثب نحو النجاة للآخر، ولكن طوفان الموت كان أعتى من أن تبدد تلك القشة الهالكة يقين موته المتواتر في قصدير لجة الماء .

ـ غواية القشة في مدن الآخر الظلامية

وفي المقاطع اللاحقة من المجموعة، تشغل الصورة الحسية لدى الشاعر ـ عناصر إضافية من التأثير وتنفيذ فواعل العلاقة المتصلة ما بين الوعي ومساحة المضاعفة الشعرية في الدلالة المقصدية، وحدود ذلك التغاير والاختلاف من جهة الضوء إلى جهة الظلام:

في مدن الضوء،

يضجُّ البحر بالنوارس والسفن

أمّا في مدن الظلام، نرى البحرَ

يطفحُ بالقش والغرقى

**

آه !

يا لَخيبة الغرقى

ظلّوا في اللجّة بانتظار

قشّةٍ لا تجيء .

أن إستراتيجية الدال القصدي في مبنى جمل الشاعر اللاحقة، أخذت تؤسس لذاتها مجالات تشكيلية خاصة، فجملة (في مدن الضوء) بمثابة الانموذج المحتذى به من قبل تصدير وعلاقة جملة (يضج البحر بالنوارس والسفن) وهذا الأمر ما جعل طاقة المقاربة الشعرية الواصفة وكأنها كفاءة دلالية منفتحة للأنا إزاء إعلامية الجزء الآخر من الموصوف المقطعي (أما في مدن الظلام، نرى البحر، يطفح بالقش والغرقى) أي بهذا الشكل المنشطر إلى نصفين، تتألف جملة تلميحات الدال المضيء بالعودة إلى مساحة آنوية الشاعر مجددا، فيما يبقى الجزء الآخر من الدال المظلم ـ مخصوصا في مقام ذلك الآخر والآخرون من احياز (مدن الظلام) . والملاحظ أن الجمل التابعة في المقطع الأخير، هي أيضا ما يشكل نقطة علائقية خاصة تضم ذاتها بروابط شعرية البدائل والأختيار من ثريا وحدات المجموعة .

 تعليق القراءة:

حاولنا في دراسة مقالنا هذا، توضيح العلاقات المبحثية التي من شأنها تناول صفات التعمق للشاعر السلامي في مجموعته المقطعية (غرقى في سراب) والتي من خلال وحداتها المطروحة فهمنا ماهية العلاقة المنشطرة ما بين ثنائية (الضوء / الظلام) وثنائية (القشة الواهنة / المركب الواثق) فالشاعر أراد من وراء دلالات وحداته الشعرية، بيان من أراد السفر والمرور بقارب النجاة من عرض البحر، المتمثل في صورة الحياة أو النجاح في مسعى الحياة، فما عليه سوى الصعود بقارب البصيرة وإرادة الوعي والحلم . أما ذلك الآخر والآخرون  ممن يغرقون في مدن ظلامة تيه البصيرة والمعرفة، فمقامهم الهلاك على ظهر قشة اللاوعي ثم بالتالي الغرق في قاع ظلام بحر الحياة . هكذا وجدنا مسار المعنى القصدي المحتمل من جهتنا في ثريا نصوص الشاعر السلامي، كاستعدادات متلافية للغرق في سراب الآمال الكاذبة والمطامح الناقصة لدى ذلك الآخر ممن استهواه البقاء في (ظلوا وراء القشة فظلوا) وعلى هذا النحو من المعنى أصبحت وحدات ومقاطع شعرية إحاطة الدال وإزاحة المدلول مما تسلح به الشاعر في سفره البصير نحو جزر قصيدة الضوء وتنوعاتها المستحدثة والأثيرة في مدار الذائقة القرائية المبصرة والبصيرة، بعيدا عن غرقى قصيدة الهشاشة والظلام وأرباب شعرية الغرق والسراب .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم