قراءات نقدية

دراسة في رواية (سيدات زحل) للكاتبة لطفية الدليمي (2)

حيدر عبدالرضامؤشرات الشخوص ومضمرات التبئير السردي

  الفصل الثاني ـ المبحث (3)

توطئة: تتباين وتتفاوت مضمرات التبئير في مسار وظائف دلالات رواية (سيدات زحل) من حيث الأهمية واللاأهمية في مواقع السرد، لذا نجد الأبعاد التبئيرية غالبا ما تحدث من خلال منظور الراوي المشارك في النص، فيما تظل هناك غائية تبئيرية مضمرة داخليا بهواجس الراوي بالشخصية أو بالحكاية بصفة مجملة، وبمقابل نواجه بين هذا وذاك، حالة تبئيرية تضم الراوي والشخصوص في المحكي معا . وانطلاقا من هذه الحدود نعاين آليات الفاعل وموضوع الفعل في علاقة محور التبئير، حيث يظل التبئير محكوما في حدود مؤشرات بنى شخوصية (داخلية / خارجية) من فاعل التبئير المصدر من قبل جهة الراوي المشارك في الرواية، وهذا الأمر ببساطة هو ما وجدناه مؤثرا في محكيات رواية (سيدات زحل) أي أن الفاعل المبئر بمعرفة الشخوص وفرض أصواتها في الحكي المسرود، كان مكرسا بموجب عائدية (الراوي المشارك) حيث تكون مجموعة الشخوص في الرواية استتباعا عضويا إلى صوت أو حركة أو حكي الراوي نفسه، لذا فأننا وجدنا أغلب صياغات العوامل الخارجية والداخلية من محاور عاملية الشخوص، تحكمها آليات الراوي المهيمن والمسيطر على جملة تبئيرات واقع المحاور الشخوصية في الراوية . 

ـ الراوي تشكيلا متعدد الأدوار .

تسعى الروائية لطفية الدليمي، إلى جعل ساردتها المشاركة ـ حياة البابلي ـ بمثابة الصورة المصغرة من مرجعية (أنا المؤلف) ومخططات المعادلة التأليفية في غضون لحظات واقع السرد الروائي . فحياة البابلي هي علاقة وعملية تواصلية لا تخلو من صورة لطفية الدليمي حيث تشعرنا الساردة المشاركة في أحداث النص، وكأنها حقيقة واردة من محتملات شخصية المؤلف ذاته خارج الرواية أو داخلها، وهذا الأمر بدوره ما أصبحنا نتداول نكهته ومنذ الفصول الأولى من زمن الرواية .

1ـ عاملية الراوي ومؤولات الشخوص في الرواية:

تحتضن الشخصية الروائية في مدار اشارات وعلامات خصائصها في الحكي، من قبل قراءة (الراوي المشارك / المؤلف الضمني) إقترانا بالفعل نفسه من محكيات حكاية الساردة المشاركة حياة البابلي . فيما تبقى الأدوار الشخوصية في المسرود المتبنى من قبل جهة الساردة، كحالة منسجمة عبر منظومة الفواعل المتحركة والمصورة من قبل حكاية المسرود الاشاري أو الإيحائي أو العرضي أو الحدثي، وعلى هذا الأساس تتحدد خلاصة الأدوار العاملية بمقترح النموذج المطروح بوظيفته الإنجازية وبموقعيته الفاعلة في المرسل إليه من كفاءة السرد والعرض الروائي، كما هو الحال الحاصل في (كراسة 5) من فقرات أحداث الرواية: (لا شيء حقيقي سوى الفجر الذي ينهمر بغتة على المدينة، يترع جسدي بالنور قبل الشروق فأراه معي، أرانا مختبئين من رصاص القتلة في غيضة نخل، يحيطني بذراعيه فتتلاشى رعشة الرعب التي شلت أطرافي، يقبل عنقي ويدي وعندما تفيض شهوته، يكبحها احتراما لألمي يهمس لي: ـ أهدأي، لن نموت الآن، أنا معك، تماسكي، سننجو وآخذك من هنا . / ص79: برسكا برنار ـ الكراسة 5: الرواية) تكون في هذا النوع من التبئير الداخلي، معرفة السارد المشارك، حيث بؤرة الذاكرة والإدراك الذي يقع خارج أفق معرفة الشخصية، ولكن حالة المبئر هنا هي الراوي الذي يحمل امتيازات محاور الرؤية والفكرة، وحتى مشاعر الشخصية في ذلك الاسترجاع الإيهامي من التخييل لدى الشخصية الراوية حياة البابلي، ويمكننا معاينة التبئير الخارجي، كحالة مقاربة إلى التبئير الداخلي الذي يجمع الشخصية بالشخصية الساردة: (منذ يومين وبرسكا برنار الصحفية الفرنسية تقيم عندنا، ليس عندي أو عند راوية أو منار بل في بيتنا، بيت النساء . / ص80)و تظهر نوازع هيمنة السارد الشخصية في فقرات ووحدات فصول الرواية، انطلاقا من طريقة وظيفة الوصف والإحاطة المتوخاة بالادوار الشخوصية الكامنة في محاور السرد (أماكن ـ أزمنة ـ ذكريات ـ أقدار ـ موت) وقريبا من هذا، نلاحظ كيفية نمو جملة العلاقات الشخوصية في النص، اعتمادا على موقعية الراوي المشارك نحو طريقة خاصة من آلية الخطاب المباشر من الراوي ذاته: (نسير في شارع دمشق، معهد الفنون الجميلة، المعهد مهجور، التماثيل حطمت وشوهت اللوحات الجدارية وعن يميننا متنزه الزوراء الذي أغلقوه قبل الحرب، أحترقت بعض أشجار اليوكالبتوس والصفصاف والأرجوان . / ص80 ص81) ولاشك أن الظلال الصورية للمكان غدت مكثفة برمزيتها إلى حالة من نذير الإيحاء بالرعب والقلق من إستكانة المكان المثير بموضوعة الموت والاختطاف . تكشف لنا حياة البابلي الساردة المشاركة، عن حادث اختطاف الصحفية الفرنسية برسكا: (لماذا لم يأخذونني معها ؟؟ أكانوا يرصدون تحركاتها منذ وصولها بغداد ؟؟ برسكا كانت هدفهم، فرنسا تدفع فدى كبيرة مقابل المخطوفين، انهارت قواي فجلست عند السور المهدم انتحب . / ص 82) الشخصية برسكا لم تدخل إلى صلب المسار النصي كما ينبغي، حتى تجد ظهورها معلقا على حال لسان موقع السارد أو الراوي المشارك ـ أي إنها شخصية تستدعي حضورها وغيابها بحركية مرتبطة بضمير حال الدور المتوخى لها من قبل مسرودية الراوي، وقد يكون ظهور هذه الشخصية محكوما بحادثة تعرض الشخصية الساردة حياة البابلي إلى عمليات خاصة تهدد حياتها بالموت القريب: (كانت رصاصة جديدة لامعة ترقد في قاع المظروف، نقطة دم جافة علة أسمي: إنذار بليغ بالموت . / ص83) هكذا تتم عملية تطويع أحوال ومصائر الشخوص في الرواية إلى اطروحة الراوي المشارك، وعلى أكثر من محمل من محامل الخطاب المباشر وغير المباشر .

ـ غرائبية الطيور التي تتناول أدمغة البشر .

1 ـ الشخصية حامد صديقا للطيور:

قد يطول مسار العنف في إيقاع دلالات شخوص الرواية، وإذا ما تفحصنا البنيات الشخوصية الواردة في الأنموذج الروائي، لوجدناها عبارة عن عناصر مقموعة في كل عهود الأنظمة السياسية الحاكمة في البلاد . فهذه الشخصية ـ حامد أبو الطيور ـ أنموذجا، هي في محاور مستوى المظلومية والقهرية التي تعرض لها بقطع أطراف من لسانه، وهو مدرس اللغة الأنكليزية، إذ جنى عليه القدر بقراءة بعض من مشاهد مسرحية ماكبث، وخاصة تلك المشاهد من الفصل الثالث التي يرد فيها مدلول الإدانة الواضحة إلى جهة جذور الطاغوت والطغيان: (طبيب معروف يقطع لسانه، هذا ما أشيع في حينه، أشتهر الطبيب برسم الطيور السود التي تلتهم أدمغة البشر وعيونهم، رسم في أحدى معارضه ثمار الشهوات وصنع منحوتات فخارية مستعيرا فاكهة الكمثرى للتعبير عن مؤخرات أنثوية وأثداء وأعضاء ذكرية رسم أجساد النساء التي تلتهمها ديدان الفاكهة وتسيل منها قطرات الرغبة السوداء، كان يرسم بشاعات ويحول الجمال إلى جيفة، بطن المرأة تحول بين يديه إلى كهف أسود تلتف فيه الأفاعي . / ص91) الفاعل الذاتي المتمثل بحياة البابلي، أخذ يمارس بالنيابة عن دورها كساردة روائية في تعليلات استرجاع أحداث الشخوص، فهي (المتكلم = الناظم الداخلي ـ الخارجي ـ المبئر) ولكنها في الآن نفسه تحتفظ لذاتها بتلك المسافة الفاصلة كفضاء للناظم الشخوصي، لتدرك من خلال وعيها بالشخصية العاملة، ذلك الدور المروى من حيز الحكاية، فالشخصية ترى من خلالها ومعها وبها، فمن خلال معرض ومنظور استعراض حكاية حامد أبو الطيور تصادفنا تجليات صيغة الخطاب من حاضر المبأر من مسرود الراوي / الناظم الخارجي . فالعلاقة ما بين (المبئر / المبأر) في هذه الفقرات لا تعتزم الوقوف عند الحدود الخارجية للمشهد، بل أنها وبفاعلية الفاعل في فعل تبئيره أخذت تقدم لنا الشخصية من خلال دواخلها، ومن خلال فاعلية التركيز على معرض حياته العاطفية والموقفية الغاية في المأساوية والنبل (هجرته خطيبته بعد واقعة بتر اللسان، وتزوجت ضابطا يعمل في حماية أحد الوزراء، رمت خاتم الخطبة والهدايا: ـ (أريد العيش مع رجل غير مشبوه، أنت شتمت الرئيس وأسأت للنظام، أهلي يرفضونك وأبي يشعر بالعار من فعلتك .. لم يقل شيئا ولم يراها بعد ذلك وكتم حامد طعنتها ولاذ بطيور ألفته وألفها . / ص93)

2ـ ظلال لبقايا صور وروائح أشباح الرجال:

و إجمالا يمكننا القول بأن منزل النساء أو شارع النساء راح يعبر عن انعدام وجود العلامات القرائية المعاينة لجنس الرجال بفعل آثار الحرب والدمار والفرار من بطش سلطة الطاغوت، بل أن الراوي المشارك، راح يبلغنا عن غياب الرجال ومحو العلاقات المتكافئة ما بين النساء وما تبقى من أطياف الرجال، ولم يقتصر وجود هذا الأمر على حالة الشخصية الساردة حياة البابلي، كونها مطلقة من الشخصية حازم الخصي في ظروف ملتبسة من فعل التدمير والمحو الرجولي الذي تعرض له عضويا، ويمكننا معرفة التفاصيل من معرض هذه الوحدات: (يحلو لنا أحيانا أن نسمي شارعنا شارع النساء، فقد أختفى تقريبا كل الرجال من حينا وما بقي في بيوتنا غير ظلالهم وصورهم وبعض روائحهم التي تتلاشى بمرور الوقت .. بقي حامد أبو الطيور وأبن عمه الملتحي الذي ظهر فجأة في بيت حامد ومعه صبي أشقر .. قيل أنه كان هاربا من الجيش منذ التسعينات وكان محكوما بالاعدام، وعاد الآن بعد أن حل الحاكم العسكري الأمريكي الجيش العراقي . / ص93) .

ـ تعليق القراءة:

من خلال هذه الوحدات السردية الأخيرة تتبين لنا تفاصيل ناتجة عن منظور دلالة وتقانة (الرؤية مع) كما يسميها بعض النقاد، فالناظم الخارجي / الراوي المشارك يرى ما لا تراه شخوص حكاية الرواية، وبما أن عملية الحكي في رواية (سيدات زحل) قد بدأت بهيمنة صوت الناظم الأوحد، فأن فعل القراءة والتلقي سوف يعاين تقديم الخطاب من خلالها مسرودا مبئرا، ضمن أفق وجهة نظر السارد المشارك، اقترانا بوعي المنظور المؤشر للشخوص في مضمر مفصلية وتمفصلات صوت وحالات رواية الصوت الأوحد .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم