قراءات نقدية

قراءة في مجموعة (امرأة من كرزٍ وعسل) للشاعرة ذكرى لعيبي

حيدر عبدالرضاخصوصية الذات بين شعرية الاغتراب ومراهنة الحضور الشعري

توطئة: أن عملية تعيين محاور حالات الأشياء في دلالات مجموعة (امرأة من كرزٍ وعسل) للشاعرة الأديبة ذكرى لعيبي، تقتضيها نوازع خاصة، من الشد الاستقرائي الكامن في موضوعة وقصدية (شعرية الذات) وهذا الأمر بدوره ما جعلنا نقرأ عينات الانماذج الشعرية في تجربة المجموعة، على أنها جملة تشخيصات ذواتية نادرة في تمويل استعدادات المقاصد القولية إلى أقصى أطراف حدود الإشادة المائزة بنوعية وظيفة الدال الأنثوي في شواغل القصيدة، والذي راح من جهة ما يؤسطر ثيماته الاغترابية في مواضع خاصة من الوجود الآنوي المقترن بمسميات تتعلق ومواطن الأسمى من فقرات وجوده المتحقق أو اللامتحقق.

ـ أطروحة الأنموذج النصي ومقاربة رثاء الذات

أن المواقف الدوالية في مجموعة الشاعرة، يمكننا وضعها في خصوصية الذات عبر حالاتها المنجذبة إلى أحياز وجدانية من خاصية الانطباع القولي المتصل ومقاصد دلالة الأشياء العينية من الإزاحة والاستعارة الشعرية . فهي من خلال قصيدة (يكتبني قدري قصيدة) تتجاذبها موضوعة الشكل البوحي في مدار وظيفة دوال من المفقودية والانتزاع واغتراب جدية الاستقراء في حساسية الموضع والحالة البوحية:

صغيرةٌ أحلامي

بحجمِ لُعبة وقطعة حلوى

يكتُبني قدري قصيدةً

أو

حكايةً

أو

نجمةً ضائعةً تلحقُ

بركب بنات نعش

و أنت هناك

(تضرب في تخت الرملِ والمندل)

و تسأل:

أتُحبني ؟ . ص7/ص8

وبهذا المسعى ذاته من الشاعرة قد لا ينتهي بمواجهة هوية الأنا المتكلمة، وهي تطرح انفعالاتها البوحية عبر وعيها الانطباعي المكون من جملة دلالة (صغيرة أحلامي) وجملة (بحجم لعبة وقطعة حلوى) بل إنها تفرض لذاتها إمكانية تأثيرية خاصة من محددات الإيقاظ الزمني برمزية الحس التوصيفي التوقعي  (يكتبني قدري قصيدة) وبين ما يمكن أن تكون عليه فكرة التعدد والملازمة الاحتمالية بالمضاف القولي الممكن (أو حكاية .. أو نجمة ضائعة) إذ يبدو هذا التوصيف الأخير من جهة ما، بمثابة الإقرار في لحظة المزاولة التي لا تسعى الأنا الشاعرة نحو تجاوزها، بل أنها تستكملها في مسار معادلة دوال (الضياع ـ التيه ـ الاغتراب الذاتي) وصولا إلى دليل جملة (بركب بنات نعش) كعلاقة دلالية مجسدة بملامح البوح المستعار بروح الأمثولة الشعرية .. وفيما يتعلق بإجرائية إنبثاق ذلك الآخر من صلب دلالة الخطاب المرسل، تحفزنا الأداة الرسومية في مسار جمل (وأنت هناك ـ تضرب في تخت الرمل والمندل .. وتسأل: أتحبني ؟) يبدو أن الغرض من وراء هذه العملية (تخت ـ الرمل ـ المندل) هي لمعرفة الطالع أو طوالع النصيب من أفق غيب الاحتمال، ولكن السؤال والمساءلة ذاتها تحفظها كفاءة الفاعل الشعري، وبمقتضى مخصوصية مغايرة من دليل وعلامة القول في الجمل اللاحقة من القصيدة:

و أعُيد من خلفِ جدار

الخوفِ!

ذات السؤال:

أيحبُّني؟

و يخطفني التيه ليُعلمني

أني:

حبيبةُ الأرضِ والورد

يمامةُ عشق

تطير

بلا انتهاءْ ! . ص9

يبقى أن نفهم بأن موجهات الأنا الشاعرة، ما هي إلا نواة في صيغة دلالات تغدو أكثر انطلاقا من إحادية موضوعة عشقها الأسير أو الواهن، لذا نجدها تحقق انفتاحها في مواضع مرتبطة بدلالات وكنية (حبية الأرض) أو (يمامة عشق) أو إنها تحفز ذاتها في العدول بمواضعات خالصة من الفعل التكويني الممسرح في فضاء البوح (تطير .. بلا انتهاء) أما الحال في موضوعة قصيدة (يا غريبة) وقصيدة (لا تطيل الغياب)فالأمر من خلالهما راح يتعدى سياق البوح المحدد ليدخل بدوال صراعية مع الزمن والظرف وقيمة حالة الفقدان المركز في وظيفة مرثية الذات الشعرية:

ليتني أمسكُ

بجناح الوقتِ

أقتنصُ سنيني الواهنات

و أركنُها خلفَ الروح .ص13: قصيدة: لا تطيل الغياب

الشاعرة تسعى هنا إلى تسخير جل طاقاتها العمرية المهدورة في الماقبل والمابعد، في سبيل خلق تلك الكيفية المتمثلة بإبقاء سنواتها العمرية عبر جملة (أركنها خلف الروح) الروح هنا تتمسك بما تبقى من أحلام الشاعرة وسعاداتها المرهونة بنقلها القسري في دال (ليتني ـ أمسك) افتقارا إلى ذلك الواهن الزمني الذي لن يتكرر في رجوعاته مجددا عبر دال المراقبة (اقتنص):

أرتبُ أيامي الباقيات

يوماً، يوماً

أجدلُها مع ضفائرِ الزنبق

وأزينُها بشرائط ملونة

مثل فراشاتِ

حقولنا الجنوبية

وأرسمُ على كل يوم

حرفا من اسمك، /ص13

أن الصورة الزمنية المتبقية من حلم سنوات الشاعرة، أخذ ينفتح كأيقونة على ذاته وصولا إلى أفق صورية الأشياء ليمنحنا مقاربة القول كبديلا مصورا من طقوسية المعايشة الموصوفة في جملة (أرتب أيامي الباقيات) فيما تنفرد الأنا الشاعرة في احصاء جدول أيامها وساعاتها، بذلك التركيز الفرزي القاهر (يوما، يوما) ويتداخل الأنموذج الآنوي في معاينة أفق المعطى بقابلية الحلم (أجدلها مع ضفائر الزنبق .. وأزينها بشرائط ملونة) وتحيل الاداة الشعرية مستوى قولها إلى دلالات تماثلية خاصة من مساحة وظيفة المشبه والمشبه به، استنادا إلى تناوبية تداخل الفاعل بذاته عبر محاور العين المصورة (مثل فراشات .. حقولنا الجنوبية) وبعد أن تبلغ الدوال مبلغها المؤثر، تدركنا تواصلية الأنا مع جهة ذلك الآخر من الداخل في مضمر قلب الشاعرة (وأرسم على كل يوم .. حرفا من أسمك) ويوغل النداء الأخير في صوت القصيدة وكأنه المعطى الوجودي الأبدي القابع في رحم الغياب (ثم أناديك: لا تطل الغياب) .

ـ الذات الإشكالية بين دوامة الوجع الاغترابي وقلق العاطفة

تكشف لنا دلالات قصيدة (لست بشاعرة) عن حيوية إشكالية الذات في ظل مؤثرات شجون العاطفة الشعرية . فالشاعرة أرادت من وراء قصيدتها هذه، الاستحواذ على ذلك الراهن الاحوالي المتكون من ثنائية صراع (الخارج / الداخل) إذ يكشف لنا حال الدوال في صيغة متن النص، عن موجهات موجعة، ولكنها تزعم لذاتها في الوقت نفسه روح المكابرة والمغالبة والتصبر إزاء ذلك المدجج بثياب الفعل واليقين من جدوى امتثالها إليه آجلا أو عاجلا:

يا أميرُ ..

لستُ بشاعرةْ

أو

شهرازد تلك التي

تبُهجُها المغامرةْ

يمامةٌ من بلادِ الرافدينِ

أنا

تسمرّتْ في مشهدِ الحائرةْ

لستُ مفتونةً بنظرتِكَ

الآسرة . / ص14

تقودنا مقاطع النص ومنذ ثريا عنونتها (لست بشاعرة) نحو حالة متدبرة من الغواية المقصودة، التي من شأنها حسن التصرف بمواضع القبول أو الإدعاء أو المخادعة من جهة ذلك الآخر . فالذات الشاعرة ينتهي بها الحال إلى الإقرار بأستحواذية ذلك الآخر على حكاية قلبها، وهي في كل مراسم مقاطع قصيدتها، أنما تمارس حالة من إبقاء ذاتها في منطقة زعم اللاتوقع أو التشاغل بسفرها نحو دلالة (الحائرة) لتتضح لنا بأنها مأخوذة بألف شهرزاد، كونها مرتبطة بدلالة جمل (ولكنك القيد والآصرة .. أنت النشيج .. أنت الدمع .. وكنت النشيد .. وكنت الجموع) هكذا وجدنا أغلب قصائد مجموعة الشاعرة بأستثناء قصيدة (أنهم شهداء) وقصيدة (مالي سواك) وقصيدة (كلانا وطن) وقصيدة (توسد ضلعي يا وطن)  وقصيدة (سأعود يا وطن) وقصيدة (ذاكرتي حبلى بك) .

ـ تعليق القراءة:

لاشك أن مجموعة قصائد (امرأة من كرزٍ وعسل) من التجارب الشعرية النسوية المؤثرة في شرائط مصوراتها وفاعلية مداليلها وتضاعيف موضوعتها الشعرية الواثقة، بل أنها أنشودة من فضاءات العشق والحيرة والترقب والالتباس والحنين إلى مرابع ظلمات الوطن، وعلى النحو الذي تضع قارئها في أسمى علاقات الابعاد الاستعارية والمجازية الموفقة، وإضافة المزيد من التشوف والشغف إلى احتواء لغتها الشعرية بأشد لوازم جمالية اللفظ والملفوظ:

جاء الزنجُ

فأرسَوْا سفائنهم

قريب جيكور

عند بويب!

عند الشناشيل

و أرسلَ صاحبُ السيفِ والصولجان

بطاقةَ عهدٍ

تسلمها شاعرُ الماء،

حتى بكتْ

قصائدُه كنشيجِ المطر

" مطر

مطر

مطر

وفي العراق ضيم ! " / ص110 / قصيدة: الزنج .. ثانية

و أمام هذه المقاطع من المحاكاة والتداخل والتناص، تتوغل فينا القابلية الاستفهامية القرائية، بذلك القدر من فضاء السؤال والإدانة والشجب، إلى ما آل إليه حال البلاد، فيما تبقى دلالات القصيدة تشكل بذاتها بؤرة مركزة لالتقاط حجم حقيقة المعنى الكامن في كينونة قصيدة جدل الواقع والمتخيل، تتابعا نحو موجودات فاعلية مجسات الانفتاح لدى الذائقة الشعرية نحو أدق الدلالات الكشوفية الحاذقة . ومن هنا لا نملك سوى القول ختاما بأن تجربة مجموعة الشاعرة والقاصة ذكرى لعيبي، جاءتنا كانعطافة نوعية في توظيف موضوعة المنفى والعشق لذلك الآخر في مواطن الاغتراب والقلق عبر صيغة عاطفة الابتعاد عن الأوطان .. وهذه الثيمات بدورها ما راحت تشكل في مجموعة الشاعرة ذلك التوالد الكيفي الخاص والمختزل من مسار خصوصية الذات الشعرية بين حسية الاغتراب ومراهنة حضورها الشعري الثمين .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم