قراءات نقدية

المثاقفة بين حسام الخطيب ونجم عبد الله كاظم (1)

صالح الرزوققراءة في المنهج والمعاني

ربما كان الهم الأول لمشروع الدكتور نجم عبد الله كاظم هو تتبع مسارات وطرق المؤثرات الأجنبية وتجلياتها في الرواية الحديثة المكتوبة في العراق (1). وهذا يذكرني بمشروع مماثل للدكتور حسام الخطيب والذي تتبع به أشكال المؤثرات الفنية في الرواية المكتوبة بسوريا(2). وما يلاحظ على إطار مشروع الدكتور الخطيب هو نفسه ما يمكن ملاحظته على مشروع الدكتور كاظم.

الاثنان يحددان مساحة جغرافية للنص مع أن الجغرافيا تتداخل لحد بعيد مع الذهنية العربية المنتجة. ولا شك أن موضوعات الرواية السورية والعراقية واحدة ولذلك عدة أسباب.

أولا بحكم الجوار. وثانيا بحكم اللغة المشتركة. وثالثا، وهو الأهم، العلاقة المتشابهة بين هم التحرير وبناء الشخصية المستقلة الحديثة. وإذا كانت سايكس بيكو 1 قد وضعت العراق تحت مظلة إنكليزية وسوريا تحت مظلة فرنسية، تبقى الخطة هي هي، وغايتها تفكيك أي ارتباط بالماضي الإمبراطوري العثماني، وعزل المكونات في علب جيوبوليتيكية لا تختلف في حقيقتها أو جوهرها. وقد سقطت سياسة هذه العلب، ولا سيما بعد دخول سايكس بيكو 2 على الخط بزعامة أمريكا، وعودة الحرب الباردة بين الحضارات.

وإذا وضعنا بالذهن حقيقة أن الوعي في الرواية العربية هو وعي تعريبي وليس إدراكا عروبيا لجوهر القضية، لا يمكن بأية حال من الأحول عزل ظاهرة الرواية العربية عن مرجعياتها. وهذا ما يبرر تداخل العناصر التقليدية في المقاربة مع عناصر التحديث في الأساليب والموضوعات (كما تفضل الدكتور نجم في مقدمة كتابه: جماليات الرواية العراقية - ص10). إن هذه الخيارات التي يغلب عليها الغموض والحيرة والتردد، مع شيء غير قليل من الندم والتذمر، يعكس أيضا واقع الرواية في بلد المنشأ، ولا سيما التي ولدت بعد معاهدة سايكس بيكو. فهي أيضا رواية يخيم عليها القلق التراجيدي والخوف من الذات والعالم. وأعتقد أنها كانت مشغولة بفهم الأثر المدمر للحربين العالميتين وظاهرة نشوء الدكتاتوريات الاشتراكية ذات المضمون العسكري. لقد كانت الرواية الأوروبية (ومثلها الأمريكية) متورطة بحرب ذات حدين: ذاتي وهو موجه ضد واقع مضطرب ورأسمالي وقهري. وحد موضوعي الغاية منه تحرير ذاتية المبدع من رقابة الواجب المفروض لأسباب وطنية. وهكذا تكالب الاتجار بالوطنيات مع الاتجار بالتحرر من أعباء الحاضر المذنب والمخطئ لتبديل أخلاق العقل السردي وإغراقه في بحر من الرماد والإظلام. ولم يكن هناك ما هو أفضل من هذه الحالة الزجاجية والسائلة لتنبيه الرواية العربية من عدة عناصر ساكنة: اللعب باللغة (خطابها البلاغي)، واللعب بالوجدان (خطابها العربي المتأسلم)، وذلك لمصلحة رؤية تجريبية نظرت بها الرواية لنفسها ولواقعها المعاش من وراء جدار زجاجي شفاف كما فعل غالب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وفي مرحلة لاحقة عراب الرواية الفلسطينية في المنفى جبرا إبراهيم جبرا.

2268 حسام الخطيب ونجم عبد الله كاظم

وعليه إذا كان رأي الدكتور كاظم أن الرواية العربية تنحو لتصحيح مسارها بالانطلاق من إعادة النظر بالتقاليد (أو ببناء خبرات الحاضر على وعي مخيلة الماضي - بلغة مقننة حقن التقليد بالحداثة / ص 11)، فهذا أيضا مؤشر على مشكلتين.

الأولى هو ضرورة متابعة بوصلة الرواية التي لم تعد حكرا على الغرب (الغربي - أو نطاق حضارات الشمال).

الثانية هو وعي الحضارة الجريحة بذاتها. وتعبر عنه ما يسميه الدكتور كاظم رفض موجات الكتابة عديمة الهوية (ص12) والتي كانت عبءا على مسيرة الرواية في العراق (وبالضرورة في بقية بلدان الشرق الأوسط وآسيا).

وهذا يقودنا لنقطة ثانية لوح بها الدكتور كاظم في مستهل كتابه وهي زيادة مساحة الأعمال الواقعية (الاهتمام بأصول كتابة الرواية ورفد جذورها المستوردة بهم محلي كما هو حال “النخلة والجيران” لفرمان و"الرجع البعيد” للتكرلي على سبيل الذكر لا الحصر/ص13). طبعا دون إغفال هموم التجديد كما تعكسها طموحات رواية الأصوات (“خمسة أصوات” لفرمان/ ص 13). 

وبرأيي أن هذه الحالة السريرية هي جزء من الذات الشاملة للخيال الروائي. فهي تعبر عن استنفار الرواية ضد نفسها، ولا سيما على طول خطوط المواجهة بين غرب خشن وآخر ناعم. وإذا كانت لدينا استثناءات (يحددها الدكتور كاظم بعبد الرحمن الربيعي وإسماعيل فهد إسماعيل / ص 12 - بالمناسبة هو نصف عراقي - وموضعيا من أهم رموز الأدب الحديث في الكويت) هناك في الشمال استثناءات كذلك (بدأت مع بوتور في فرنسا وجون بارت في أمريكا وانتهت مع جوليان بارنز وويل سيلف في بريطانيا).

بتعبير آخر إن حالة التأهب (والثقوب البيض القليلة التي تخترقها) تدل على صيرورة المخيلة، أو تشابه حالة الوضع البشري، وبالتالي على التأزيم الموضوعي الذي يقودنا لتأزيم ذاتاني. ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة بأجلى صورها إن قارنت عملا لإميل حبيبي مع آخر ليائيل دايان أو عاموس عوز.

لدى الطرفين قانون إبادة أو قانون اتهام وتنظيف. وهذا يعني أن عقدة الرواية الأساسية أو حبكتها هي الصراع الوجودي بين مشاعر الخوف والندم (بلغة برديائيف في سياق كلامه عن شعرية دستويفسكي).

وقد عبر الشاعر الفلسطيني المرحوم محمود درويش عن هذه المعضلة بقصيدة (الظل) من مجموعته “لا تعتذر عما فعلت”(3)، وفيها يقول:

كنت أمشي، كان يمشي

كنت أجلس، كان يجلس

كنت أركض، كان يركض (ص83).

ثم يضيف بلغة ملحمية وقيامية قل مثيلها:

استدرت إلى الطريق الجانبية

فاستدار إلى الطريق الجانبية

قلت: أخدعه وأخرج من غروب مدينتي

فرأيته يمشي أمامي

في غروب مدينة أخرى (ص84).

إنه مثلما ينادي حبيبي في كل أعماله بضرورة تحرير طاقات الأرض وبالتالي الإنسان، أشتهي أن أجد عملا واحدا لدايان لا تنادي فيه بتحرير الطاقة البشرية وإسقاطها على مشكلة تحرير الأرض من نفسها.  وأوضح مثال على ذلك في (غبار). إنها رواية عن إطلاق الأرض من ضريحها أو عن يوم قيامة الأرض. وهو نفسه يوم تحرير المكبوت من وعيه الباطن. وإذا عدت بالذاكرة إلى الخلف قليلا ستجد نفس المشاهد القيامية لمشكلة النزوح (الخروج والتيه في فضاء المكان) عند إيثيل مانين في (الطريق إلى بئر سبع) ثم عند أهداف سويف في (خارطة الحب). وكلا العملين مكتوب بلغة إنكليزية. وهذا يضع التقاليد والحداثة على صفيح ساخن. إنه لا يساوي بين النقائض فقط ولكن أيضا يساوي بين أجزاء المخيلة.  وبودي أن أقول إن الفكرة الصهيونية دخلت في عدة دورات كالتالي: دين - أمة - دين الأمة. ويمكن أن تعتبر أن هذه الدورات المغلقة والضيقة هي مجرد انعكاس لما يجري في الجهة المقابلة بين العرب. فقد بدأت الصحوة القومية من تحت مظلة الدين، ثم تحولت لخطاب قومجي أو تحرري، ولكن سرعان ما انكفأت على نفسها وراء شعارات الدين مجددا. وهكذا تجد عند العرب أربع دوائر وليس ثلاثة فقط كالتالي: أمة الدين - الأمة - دولة الأمة - دين الأمة.  

وإذا كانت الرواية العربية مهمومة بالواقع العربي وتحدياته، فإن الرواية الأورو - أمريكية تمر بهذه المحنة. فهي مهمومة بتحديات آفاق المستقبل، ومشكلة استعمار الإنسان لنفسه، أو مشكلة تدويل النماذج. ويمكن دائما أن تضع (عرس الزين) للطيب صالح في كفة مقابلة لرواية (تورتيلا فلات - أو خميس عذب) لشتاينبك. كلا العقليتين مشغولتان بتوسيع نفوذ الطبيعة والغريزة على حساب العقل والمنطق، وبتحرير الجماد من سكونيته واستعمار الطبيعة غير العاقلة للطبيعة العاقلة (الإنسان). وكأن هذه الروايات هي ترجمة لمقولة عالم الاجتماع هابرماز في تداول الأدوار بين البنية التحتية والفوقية وبشكل موجات مرتدة.

لا يفوتني هنا التنويه إلى مشكلة الروايات الأوروبية المفتوحة. لقد كانت المخيلة الأوروبية مدينة لحملة توعية بالذات (الاستفادة من تكنيك الخيال القروسطي وما قبله مع كثير من عناصر الأسطورة والحكاية الشعبية - وتجد ذلك بقوة في كتابات البريطانية أنجيلا كارتر ومعظم أدباء اليابان من جيل الحداثة). وهو نفس ما تفعله الرواية العربية المتأوربة (حينما تعكس واقعها الفني وتجتهد لتسويقه بأشكال تراثية). وربما من أحدث الأمثلة على ذلك مشروع برهان الخطيب الذي يراهن على ظاهرة المقامة والإيقاع، أو مخيلة الصوت، أو لنقل الذاكرة الإحيائية. لقد حقن حساسياته الوجودية الدافئة، والتي انطلق على هدي زخمها في نهاية الستينيات (من خلال “ضباب في الظهيرة” ثم “شقة في شارع أبو نواس”) بوعي نهضة مضادة (تكون القيمة فيها للصوت وليس الفكرة) كما فعل في روايته (ليالي الأنس) ثم روايته (عابر قارات). وبالتأكيد سبقه إلى ذلك الرائد والمعلم جمال الغيطاني في أعماله المملوكية التي وازنت بين هدم الأشكال وبنائها، أو ربطها بالماضي وانفصالها عنه. وإذا احتفظ الغيطاني من اللغة المملوكية بأساليب الإنشاء والترسل، فقد تخلى بذكاء ولباقة عن أسلوب تقديم الشخصيات، واستعاض عن التفكير بالأحاسيس، أو وضع الرغبة مكان الإرادة. بمعنى آخر لقد استسلم لإيقاع الشخصية من داخلها، ولم يجرفه إيقاع الواقع المجرد والمشخصن. وهذا يفسر كلام الدكتور كاظم عن اشتراك الموضوعات في الإلغاء والاحتفاظ (ص 15).

 

صالح الرزوق

....................

هوامش:

1- جماليات الرواية العراقية. منشورات دار شهريار.224ص. البصرة. 2018. وكل أرقام الصفحات المذكورة تشير لهذا المصدر ما لم يتم ذكر غير ذلك..

2- سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة. منشورات رام الله. 194 ص. ط6. 2018.

3- لا تعتذر عما فعلت. منشورات رياض الريس. لندن. 169 ص. 2008.

 

 

في المثقف اليوم