قراءات نقدية

جمال قيسي: خطى متوجسة في الضباب.. قراءة في رواية: خطى في الضباب لذكرى لعيبي

مهما كان الالم رقيقًا واقصد هنا وصفه بترفق، يبقى يمارس وظيفته، في النهاية هو منظومة من الأوجاع الجسدية او النفسية، حتى لانبتعد كثيرًا،،ساقني الفضول الى قراءة رواية خطى في الضباب للقاصة ذكرى لعيبي، وقد عزفتها كاتبة قصة وشاعرة وناقدة احيانًا، اقول ساقني الفضول لانها مجايلة لي،،على الاقل في الاحداث الجسام التي مر بها العراق، انهيت الرواية في جلسة واحدة ليس لانها قصيرة، بل بسبب اسلوبها الشفاف والجاذب

 بصراحة انا عندي نقطة أتوقف فيها عن قراءة اي عمل او استمر،أتوقف عندما اشعر ان الكاتب، قد توقف او انقطع في إيصال الفكرة، انا اتكلم هنا كقارئ واعتقد ان جميعنا لديه هذا الامر، وهذا ما أكده بنفسنت في تعريفه للخطاب " الملفوظ منظورًا إليه من وجهة آليات وعملية أشتغاله في التواصل "اقول ان ذكرى لعيبي في هذا النص توارت بجهد منظم خلف شخصياتها ومارست تنظيم النص بكل حرفية سواء في القوس العاطفي وهنا نقصد به نمو الشخصية السردية بالإيجاب او السلب،او في طرح رؤيتها في جانب الميتاسرد (ما وراء السرد)، لكنها منذ العتبة الاولى، اي العنوان (خطى في الضباب) اوحت لنا طبيعة النتائج التي سيفضي اليه خطابها السردي،منها اولا، ان الحب المنتج مرتبط بمرحلة الشباب لانه يشكل حلقة مكتملة مع انها حاولت ان توغل في ايداع هذه النتيجة في الضباب لكن شخصية اليازية كشفت لنا هذه النتيجة،ثانيًا ان العلاقات في العالم الافتراضي تخفف من القيود الاخلاقية في جانب الإلزام، مع توفر مساحة فردية لا تطالها الاعراف والقيود على العموم سنعود على هذه النتائج كمحمولات للخطاب السردي (خطى في الضباب) لقد حاولت ذكرى لعيبي الاقتراب من الحدود الخطرة

،لكنه اقتراب حذر ومتحفظ،،ربما فقط في الحلم الذي راود أميرة احدى ابطال الرواية،وهي في رحلتها الى باريس حيث استطاعت ان تظهر رغباتها المقموعة الى منطقة التمثل،وكذلك لامست بحذر قضية زواج المتعة في جانب انعكاسه على المرأة هو غطاء شرعي للرجل لكنه عبء على المرأة التي هي في المحصلة تندحر الى مخلوق ثانوي وفق المنظومة الاجتماعية والدينية لان المجتمع والدين عندنا ذكوري أبوي رعوي،ما يلفت الانتباه بشدة في (خطى في الضباب) هو صوت المرأة ولانريد هنا الجانب الفني والذي سنتطرق اليه في ملاحظتنا للجانب الفني السردي، انما هنا أردت ان ابين أن خطاب ذكرى لعيبي هو اول خطاب يفصح عن مشاعر المرأة العراقية،،بصدق،،ببساطة لايستطيع الروائي الرجل التعبير بصدق عن صوت المرأة الداخلي وكذلك لاتستطيع المرأة عن تعبر بصدق عن صوت الرجل، مهما امتلكا القدرة الفنية، نلاحظ في رواية (ذهب مع الريح) استطاعت مارغريت ميتشيل ان تجعل شخصية (سكارليت اوهارا) صوت حقيقي للمرأة بكل صدق حتى أنك تستطيع ان تتفهم آلية اشتغال تفكيرها، وكذلك فعلت إيزابيل الليندي في منزل الارواح حيث مكنتنا من الولوج الى عقلية بطلة الرواية كلارا، بينما ذهبت كل مساعي هاروكي ماراكومي ادراج الريح حينما حاول استنطاق عقل المرأة في الغابة النرويجية، ولو نلاحظ حتى اُسلوب ڤرجينيا وولف المركب والوامض وهومايسمى بتيار الوعي،استطاعت رغم كل تعقيد الأسلوب ان توضح لنا ومضات السيدة دلاوي،،لقد سقت هذه الأمثلة واعتبرت ان ذكرى لعيبي في عملها الإشكالي خطى في الضباب هو اول عمل حقيقي يتناول آلية تفكير المرأة العراقية التي عانت الامرين خلال الحيّز الزمني المأزوم،،حيّز الحروب وإسقاطاته على المرأة العراقية مع اني كنت اتمنى عليها ان تتخطى حذرها وتوغل في سعيها لكشف معاناة المرأة العراقية إبان هذا القطع الزمني اللعين، فالعاطفة التي تمتاز بها المرأة عن الرجل،،عندما تتشابك مع الأبعاد الاجتماعية والدينية والسياسية،،وما تمثله من سرديات تخطاها الزمن،اقول هذه العاطفة في تشابكها ستفضي الى ضياع المجتمع، وبنفس الوقت هو هدر لكرامة وحقوق المرأة،،هذا الامر سيظل يلاحقها حتى في الغربة والتي تضيف قيد آخر،،ربما يقضي على ما تبقى من إنسانيتها،،

في الجانب الفني، اشتغلت ذكرى لعيبي بأسلوب رواية الأصوات المتعددة وهو اُسلوب يدل على احترافية متقدمة،،لكن الرواية كانت بحاجة الى صوت ثالث عدا صوت أميرة وصوت شامة، ومع تداخل الصوتين في بعض الأحيان، الا انها فصلت بينهما بالإيغال في تفاصيل حياة كل منهما، انا كقارئ كنت بحاجة الى قسم اخر يتمم الحكاية، ليس بالضرورة نهاية مصير كل من البطلات سواء أميرة او شامة او حتى فاطمة واليازية، لقد اوحت لنا ذكرى لعيبي بفصل مخفي وهو فصل الضباب، لابأس بذلك لكن النهايات المفتوحة يجب ان يساهم القارئ في نهايتها وحتى يفعل ذلك لابد من نقطة ينطلق منها، ربما نحن نسميها نقطة ديكارت، طيب سأتكلم. أخيرًا عن خطورة المحمول الأهم في خطاب (خطى في الضباب)، يذهب رولان بارت في كتابه المهم (درجة الصفر في الكتابة) ؛ " أن الشكل ليس حلية ولا مجموعة قواعد، بل تشخيصًا لأحاسيس ملتصقة بتجاويف الذات وبأعماق الموضوع وعلى الكاتب أن يواجه العالم والاشياء وأن يختار عزلته أو حضوره مع الآخرين "اذ تخطينا وفق هذه المقولة الجانب الفني في خطاب ذكرى لعيبي ماذا سنواجه ؟ هل اختارت العزلة ام الحضور ؟ الحقيقة هي اختارت موقف موارب بين العزلة والحضور، وارجو الانتباه لما سيأتي لنقدر خطورة المحمول الذي أشرنا اليه، اذا استطعنا تشخيص منظومة الشخصيات في النص سنكتشف نسقين الاول متمثل بالرجال (احمد،سامي، مؤيد،حاج جاسم،ابو خالد، الزوج الثاني) اما النسق الثاني متمثل بالنساء (أميرة،شامة،فاطمة، اليازية، المرأة العجوز)، هذين النسقين رغم انتمائهم الى منظومة واحدة الا انهما متناقضين، وفي اماكن تعالقهما يحدثان الضرر أشبه بالتيار السالب والموجب للكهرباء عند تماسهما، النسق الاول متعدٍ على الثاني ومنتهك لحقوقه وفق ما جاء في الخطاب مهما تفاوتت درجات التعالق او الشخصيات في تقاطعها، ما اريد ان أوضحه وقد اشرت اليه سابقًا في مقالات عدة ومواضع مختلفة، ان المرأة العراقية هي بنية تاريخية مصمتة تبلورت بحكم شبكة السرديات الكبرى والصغرى منها الدينية والعشائرية والاجتماعية والسياسية، انعكست عليها ظلال كل هذه المحددات بالاضافة الى سلسلة الحروب التي زادت من صلادة هذه البنية، فالمرأة العراقية بحكم غياب الرجل عن البيت بحكم الحرب،،تحولت المرأة مهما كان تموقعها الى الصف الأمامي في مواجهة متطلبات الحياة، لذلك كان عليها ان تمارس واجبات الرجل والمرأة في آن واحد، وكل هذا على حساب أنوثتها،،او بمعنى ادق وظيفتها البايلوجية اذًا هناك هدر كبير لتاريخ المشاعر، هناك وجه آخر لهذا الامر، الرجل العراقي ينظر الى ممارسة المرأة في افق متحرر لعواطفها او مشاعرها مهما كان تمثلها، خارج نطاق المنظومة (الدينية - الاجتماعية) على انها خروج سافر على المقدس وبالتالي يمارس رد فعل جائر يتفاوت بين الهجر صعودًا ربما حتى القتل حسب التموقع الثقافي والمعطيات الظرفية، في حين ان المرأة نظرتها تختلف بالكلية عن هذا الامر، اذ انها تمارس وظيفتها الام لا اكثر ولا اقل وقد اختزلت ذكرى لعيبي هذه القضية بجملة في غاية الحكمة والبلاغة وبصراحة انا شخصيًا احتجت الى سنين طويلة وقرائات متراكمة حتى توصلت الى هذه النتيجة بينما أوردتها ذكرى لعيبي بكل سلاسة وبصياغة ادبية رائعة اذ اختزلت بها طبيعة وظيفة المرأة وما يتراتب عليها من وعي لنرى ما ذكرته في ص٧١ " إن بهجة أرضاء غريزة لدى المرأة توازي بهجة ولادة طفل جديد في عالم اشرف على الهدم "

في الختام أقول ان (خطى في الضباب) نص بمحمولات خطيرة .

 

جمال قيسي / بغداد

 

في المثقف اليوم