قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في عوالم أحمد سعداوي الروائية.. رواية البلد الجميل أنموذجا (2)

حيدر عبدالرضاالسرد الإطاري بين شاهدية المؤلف ومبأر القرين المنفذ

الفصل الثاني ـ المبحث (2)

توطئة: يخلص الزمن السردي في رواية (البلد الجميل) أهم تمفصلات فكرة المنظور السيرذاتية المتحققة بموجب تقانة أساليب (المونتاج / التقطيع الزمني / تقاطعات الحلم / التمويه) غير أن زمن وحدات البداية الروائية نجدها تتركز ضمن استئثارية جنوح الفضاء الروائي نحو غاية الفعل الإيهامي الذي من خلاله نعثر على تعلقات احتمالية موظفة بفاعلية مدلولها السردي المعلن، إلا من جوانب ضمنية خاصة من مساحة الفعل المتني المنصوص في رواية المشاهد والمواقف الشخوصية . نقول جزما أن القسم الثاني الموسوم بـ (أنا وحلوم) من النص ما يحفزنا نحو مواكبة وقائع غير تراتيبية في شكلها الحبكوي وسيرتها الروائية المفترضة أو غير المفترضة من حياة كتابة مخطوطة المؤلف الشخصية . وعندما ندقق في مجال حادثة الشخصية حلمي في عتبة نهاية المدخل الروائي، نجد أن هناك ما يدعونا إلى متابعة الشخصية المركزية الموظفة في النص ذاته، والتي تجتمع فيها ومن حولها مجموعة مواقف ذاكراتية يكون مصدرها أولا الحرب وثانيا مترتباتها التي قادته بدورها إلى الوقوع مصابا في مشفى أمريكية وتحت عناية ثلة من لجان الأطباء وهيئة كبار موظفي الهجرة الدولية .و من كل هذا قد نستمد عودة الشخصية حلمي إلى دياره معافى لاعبا دور ثنائية (القرين = المؤلف) بالإضافة إلى مخطوطته التي تتقاطع وتنفتح فيها أفعال (المؤلف الجاد = المؤلف المشارك = ثنائية المؤلف) وصولا إلى انتاجية متخيلة وموحية من أصداء الاستعادة والاسترجاع، وأحيانا الاستباق كما الحال في مدخل أفعال مفتتح الرواية طورا.

ـ تمهيدات نصية المخطوطة وواقع حياة المؤلف المفترض

في نقطة ما من مؤشرات وحدات النص، نتعرف على حادثة وقوع المؤلف المفترض إلى حالة خاصة من عملية الدهس السيري، وذلك انطلاقا من مهام بحث المؤلف المفترض عن صديقته الفتاة التي لم يعثر عليها في حادث صعودهم إلى قمة الجبل بصحبة تلك الفتاة الغريبة الأطوار في حدوثات السرد . فيما تبقى مؤشرات المخطوطة التي قام الكاتب المفترض بكتابتها في الحديث عن مسرات عودته إلى مدينته وذويه وكيفية اضمحلال واقعة المدخل النصي إلى حالة هواجسية وجملة من التداعيات المبطنة بموجهات حياة هذا المؤلف من جهة إيهامية غير مبرهنة في أدوات علاقتها الوظيفية مع بعضها البعض . ولكن سعداوي عبر عن هذه الوحدات من مدخل روايته على أساس من القفزة الاستباقية المحفوفة بفضاءات الحلم والتطلعات التقانية، وحتى حلول القسم الموسوم بـ (أنا وحلوم) أخذ الروائي سعداوي يؤول المساحة الزمنية والمكانية من نصه من خلال اللعبة الفنية المتصلة بـ (سردية الإطار ـ شاهدية المؤلف ـ مخطوطة القرين المنفذ) وبهذا الحال تصبح أدوات الروائي لصيقة حقيقة متكونة من نواة طرفها الشاهد المؤلف وجملة أصوات ذاكراتية ـ سيرذاتية متتابعة حينا ومتقاطعة حينا في رقعة زمن المؤلف الجاد .

1ـ الموقع الفاصل من حيثيات الزمن السردي:

من خلال أنطباعاتنا عن وحدات ومفاصل المشاهد والمواقف الشخوصية في إطار هذا الفصل، لعلنا نعاين تكاثر سطوة القفزة الزمنية بالواقع نحو مواقع تحولية ناتجة وناشئة ما بين (شاهدية المؤلف = قرين الشخوص الذاتي) ولربما هي من وجه ما علاقة ثنائية متماهية مبعثها توحد المؤلفان في صورة اعتبارية قرينية ضمن شخصية السارد الذاتي ـ حلمي، الذي راح محكوما في ظل تراتيبية علاقة مماثلة من سيرة شواهد المؤلف وهو في موقعه الخفي والتنكري من استدراكات المقروء في موقع الخطاطة الحكائية من رواية القرين الشخوصي للمؤلف ذاته . وحين نقرأ أجزاء متوحدة ومفصولة من علاقات الأحداث السردية في الرواية المخطوطة،تصادفنا مواقع ووظائف شخوصية معلقة مغلقة ومنفتحة في مجرى فضاءات السرد . فهناك الشخصية الجدة قسمة وأولادها وأحفادها إلى جانب حكاية نذرها حين عودة حفيدها حلمي سالما من الحرب أو الأسر، فما عليها حينذاك سوى الإيفاء بوعد نذرها بالسير نحو نقطة مكانية معينة من القرية بثياب مزركشة تعود إلى مراحل عمرية صغيرة من زمن الفتيات الصغيرات، إلى جانب الآخر من حياة هذه الجدة المتشعبة بمأزومية صفات وملامح عقدة انتقال السحنات الشكلية المعبر عنها بالعامل الجيني ما بين الأجداد والأولاد والأحفاد أئتلافا وأختلافا: (لم ترث العائلة من ملامح كشاش البدنية أي شيء، ولدا كشاش غانم وسالم، وبناته الثلاث، سليمة وكريمة وتماضر، كلهم خرجوا سمر البشرة بشعور سود، مشابهين في ذلك أخوالهم وأعمامهم .. وبقي هذان الفريدان، كشاش وزوجته قسمة، يتلمسان أنفا هنا، وأذنا هناك، ولكن ما من أحد من أبنائهما أخذ عنهما كل شيء . / ص47 الرواية) .

2ـ مرآة المؤلف الضمني ونزاع حكاية المخطوطة الروائية:

تصادفنا في أوليات التصدير السردي من قسم وحدات (أنا وحلوم) البداية التي أعلن فيها المؤلف الضمني، الشروع في كتابة المخطوطة، وليس كتابة رواية المؤلف الحقيقي، لأن الفاعل الوجوبي هنا مرجحا إلى كفة المؤلف الضمني ـ السارد الذاتي، فيما نسجل مثل هذه الفقرات بالعائدة إلى كفاءة المؤلف الضمني: (علي أن أكتب: سأؤلف حكاية .. هكذا أشخبط في أعلى الصفحة الأولى، وأتوقف ثم أشرع في وصف شارع في مدينة شبه ريفية . ناس كثر يتجولون، لأن الوقت عصر .. وهناك من يتجه مع عائلته إلى موقف السيارات .. تمرق سيارة أجرة من أمام ـ جنبر ـ معدني للسجائر على الرصيف . / ص37 الرواية) . المؤلف الضمني ها هنا في طور مرحلة تفعيل السرد الإطاري إلى جانب تأسيس وحدة التشخيص الأدائية للمحور الذاتي: (بينما يجلس بطل قصتي في المقعد الخلفي . / ص37 الرواية) تظهر لنا علاقة المخطوطة بالمحدد المكاني والشخصية القرينة في حال مرآة المؤلف كمرسلة إلى فاعل منفذ بالكفاءة (الفاعل: أنا ـ فاعل قرين منفذ = فاعل منفذ + قدرة المرسل = شاهد الفعل = متقبل حالة الأداء) وعلى هذا النحو توافينا معرفة مؤول صورة الشخصية في بداية النص مع مواقف صعود الجبل برفقة نود إلى جانب الحوار مع شخصية تلك الفتاة الغريبة، على أنها إيهامات مصدرها الوعي الباطن المتذوق في شعور اللاوعي الشخوصي، كما أننا لا يمكننا نفي حالة المؤلف الضمني في مستهل الرواية، خاصة وأن دائرته كمرسلة موقعية وهمية، ترجحها فضاءات تدبير المؤلف الجاد الذي هو في النتيجة واصلة للتقارب ما بين حلول المؤلف الضمني والإجراء الشخوصي في هيئة السارد المشارك داخل الحالة الجامعة ما بين ثلاثية (المؤلف ـ المؤلف الضمني ـ السارد المشارك) كما ويبقى التزام المؤلف الجاد إتجاه المؤلف الضمني يعبر عن وظيفة التداخل ضمن حقيقة التفارق الحدثي المصطنع وأستواء اللحظة الجامعة بالأقطاب الأخرى من مواقف السرد الروائي .

ـ أفق مراوية مرآة النص ووسائل استيلاد ذاكرة المؤلف

تقدم مسارية الأحداث في واقع النص اعتمادا على ثلاثية (التبئير الصفر ـ التبئير الداخلي التبئير الخارجي):

1ـ التبئير الصفر بين اللاوعي الشخوصي ومسافة السرد:

توافينا طاقة التبئير الصفري أو اللاتبئير في شؤون منحى الحالات المزاوجة في رؤية السرد المتحيز إلى منطقة المشخصات الواردة في أحداث النص بطرائق نمطية أو فراغية، أو هي من المحذوف الحضوري في ملكيات الذات والمكان والزمن، وذلك تحديدا في وحدات القسم المدخلي من دلالات هذه الوحدات من الرواية: (ها هي عزيزتي نود بجواري، ولا أستطيع مخاطبتها، أنني أتحدث عنها الآن بصيغة الغائب / وتعوزني دائما الأدلة لأثبات أي شيء أمامها / أنظر إلى التلفزيون بكسل، ونعاس يداعب رأسي .. فأرفع المنظم وأخفض صوته لأنني تخيلت سماع شيء .. كأنه ضحك مجلجل أو صراخ يأتي من الشقة المجاورة .. الأمر في النهاية كما تقول صديقتي الفرنسية / أو أنت هو الحديث عن أي شيء . / ص12 ص13) وتبعا لهذا المنحى وظائف مشفرة ومتقاطعة العلاقة، كما أنها بالتالي عبارة عن تموضعات صفرية خاصة من مساحة غياب الواصلة الخطية من منظور الحدث وتبئير أحواله الأسلوبية .

2ـ التبئير الداخلي بين المونولوج المتحول والمسرود الإطار:

تباشر عاملية الأحداث وكيفياتها في مجال الحكي ذو التبئير الداخلي، بما يلاءم مواقع الشخصية المشاركة حيث يتم استعراض وتمثيل وعي الشخوصي المتعدد من خلال عين كاميرا الشخصية حلمي عبر مرويات هذه الوحدات الآتية: (نود لحلوم، وحلوم لنود .. قررت الجدة وهي تناغي شبيهتها ذات الفم المبلول، وتقبلت العائلة راضية قسمة الجدة / كبر حلوم وكبرت نودة كما كانوا يسمونها تحببا، ويرى الجميع في أفق حياتهم قدرا غريبا . / ص49) .

3ـ التبئير الخارجي بين مواقع السرد والمبأر الذاتي:

وعند النظر في جملة علاقات الأحداث المتصلة بالسارد المشارك توافينا رؤية الفاعل الذاتي كفضاء خارجي يسرد لنا علاقات المقاطع المسرودة ضمن ذاتية مبأر ممزوجة بحالة ذهنية من نوع التوحد في الرؤية بين الأنا الساردة والشخوص الأخرى عبر كاميرا جماعية ولكنها مرسومة من قبل الفاعل السردي أو القرين المنفذ لصيغة وصوت المؤلف: (أكتشف حلمي أيضا أن ـ حيوان ـ الجرو الذي جلبه أبوه منذ زمن بعيد، قد غدا كلبا ضخم العضدين ذا شعر متموج نحاسي اللون . / ص42 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

كنا نسعى في مبحث دراستنا الموسوم ب (السرد الإطاري بين شاهدية المؤلف وبؤرة القرين المنفذ) بما يتيح للراوي المشارك علاقة مستدرجة في انجاز علاقة دلالية تخييلية تجعل من المقروء كثافة إيحائية لا تتعلق بمن سرد الأحداث بأمتياز، بل بما وراء الفعل الروائي شاهدا ومؤلفا وظلا للقرين في صياغة علامات السرد الكائنة في شبكة اللعبة الروائية المراوية بين المطابقة الواقعة والأطروحة النصية المخطوطة في فضاءات المتخيل والواقعي من حكاية النص الروائي .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم