قراءات نقدية

احمد الكناني: التوظيف الصوفي للشعر القصصي

احمد الكنانيالقصة الشعرية عريقة بعراقة الشعر ذاته، وما الملاحم الا نوع من أنواع الشعر القصصي، يوظف الشاعر فيها خياله الشعري لنسج قصصاً واساطير تمجيداً ببطولات قومه متناسياً شخصه كشاعر له حالاته الإنسانية والعاطفية الذاتية .

الشاعر العربي كغيره من شعراء الأمم الأخرى تغنّى ببطولات قومه، وكما اسمع هوميروس التاريخ بملحمته الالياذة والفردوسي بشاهنامته كذلك عمرو بن كلثوم والحارث وعنترة بمعلقاتهم

نعم هي قليلة  لخصوصيات الامة العربية وثقافتها القائمة على الرواية الشفاهية وعدم اعتمادهم التدوين كما حضيت به الأمم الأخرى . هذا في فترة ما قبل ظهور الإسلام.

واستمر الحال في الفترات المتعاقبة الأموية والعباسية، اذ كان يحكي الشعر حالاتهم الخاصة  وتجاربهم في العشق، والقصص جاءت على هذا النحو . نعم ضاقت الدائرة عند الفرزدق و جرير لكنها ظلت عذبة اغنت الأصناف الأخرى من الشعر واثرت المديح والهجاء

هناك من انكر القصة الشعرية اصلاً، و فرّق بين القصص الشعري والشعر القصصي، والمنكرون للقصة الشعرية أرادوها منحصرة في النثر خاصة؛ لقدرته على استيعاب مقوّمات القصة ومطاوعته لها بخلاف القيود الشعرية من الوزن والقافية ومقاومتها للغة القصة المتقوّمة بالوصف والتحليل .

ولهذا تعتبر القصة الشعرية فناً راقياً يجمع بين حلاوة القصة وجزالة النظم الشعري .

لكنها في الشعر الصوفي تعني شيئا اخر يتصل بالمعاني الصوفية المتسامية التي يريد الصوفي ايصالها لإهلها، فالقصة الشعرية في المثنوي مثلاً تحمل رسالة معبّرة عن التجربة الثرية التي أهدانا إياها جلال الدين الرومي في بعدها المعنوي والأخلاقي، وكذلك الحال مع السيمرغ لفريد الدين العطار المشهورة بمنطق الطير .

الا ان القصص الشعرية في المثنوي لا يمكن استنتاج قاعدة جامعة لها لاِختلافها بالمضامين والرسائل المراد ايصالها، فهي بحاجة الى دراسة مستقلة والى تفكيك رموزها والتركيز على الرسالة المتضمنة لها، لكن الرومي وظف القصة افضل توظيف في كل القصص التي أوردها في المثنوي وحاول من خلالها إيصال معان صوفية خالصة لولا القصة لما كان لوقعها من اثر، كما في قصة موسى و فرعون وكيف وظف الحوارية بينهما لابراز عقيدته الصوفية في الحب بدلاً من الاعجاز والخشية، وبها انقلبت موازين الربح والخسارة على ما سياتي بيانه .

الملك والجارية

اول سرد قصصي يواجهنا في المثنوي هو قصة الملك والجارية، ويصفها مولانا بأنها تنتقد وضعنا:

بشنوید ای دوستان این داستان

خود حقیقت نقد حال ماست آن

 

استمعوا أيها الأحباب لهذه القصة

فهي بحق تنتقد حالنا …

هذه القصة في غاياتها

تصقل الأفكار في آياتها

لو كشفنا ذاتنا في الحالتين

لسعدنا أبداً في النشأتين

يتحدث عن قصة الملك الذي اجتمعت لديه نعمة الدنيا والدين معا، وفي رحلة صيد الظباء في الصحراء مع صحبه والمقرّبين اليه انقلبت الآية فأمسى هو الفريسة والضبي هو الصياد .

في رحلة الصيد هذه اعجب بجارية ايّ إعجاب، لتبدا قصة البحث عن مالكها ليدفع لها بمبلغ طائل وليحظى بعشرتها:

شد غلام آن کنیزک پادشاه

اصبح عبدا والجارية هي الملكة

 

ملك في سالف العصار كان

أمل الأمة في ذاك الزمان

راح والأحباب يصطاد الظبا

يقطع البيدَ سهولاً وربى

فرماه الحب سهما فهوى

خائراً يشكو تباريح الهوى

اذ رأت عيناه في ذاك المجال

ظبية تصطاد آساد الرجال

أمة تستعبد الحّر الكريم

فغدا السلطان في هّم عظيم

لكن الأقدار سارت على خلاف ما يشتهي الملك، اذ مرضت الجارية وساءت حالها .

لعبةُ الأقدار فـــــــي دنيا البشر

لم تزل تجري عليهم في صور

ربّ حاف لم يجد ما بنعله

وحمار لم يجد مـــا يحمله

ربّ كوز لم يجد ماء ومــــــــا

لم يجد كوزاً لكي يروي الظمأ

استدعى تردي حالتها قدوم الأطباء لعلاجها، وبعد ان يأسوا من حالتها التجأ الملك الى العبادة والتضرع حتى ابتلّ موضوع سجوده من كثرة بكاءه، فغشيه النعاس، فسمع في منامه هاتفاً يخبره بقدوم طبيباً حاذقاً سينقذه فيما هو فيه من همّ .

فالتقى بطبيب قدم له النصح بما يجب فعله لشفاء الجارية، وبسؤاله للجارية ومن اي البلاد هي قادمة يعرف الطبيب بحنكته انها تعشق شابا سمرقندياً .

يجُلب الشاب السمرقندي ويعطيه دواءاً ليمرض هو الآخر وتشتد حالته ليخرج حبه من قلبها لتعود خالية الفؤاد للملك .

القصة طويلة وفيها من الحِكم الشئ الوفير، والرسالة التي أراد مولانا ايصالها لقارئيه ليست قصة حب الملك للجارية وما رافقها من احداث، وإنما هو اللقاء الذي صوره مولانا بأجمل تصوير بين الملك والطبيب الحاذق .

لاعتبارات عديدة يمكن جعل لقاء الملك بالطبيب هي الرسالة المتوخاة من هذه القصة، اذ جعل مولانا القصة تعبر عن نقد لحالته الخاصة، ولا وجود لشئ فيها شبيه بحالته سوى اللقاء الذي غير مجرى حياته …اعني لقاءه بشمس التبريزي

انتصار فرعون على موسى …

قصة أخرى يسردها الرومي في المثنوي هي قصة موسى حيث استلهم من خلالها الصراع بين موسى وفرعون في النص التوراتي القرآني وأجاد في طرح معتقداته الصوفية في إطار تلك القصة .

حوارية موسى وفرعون تبتدء عند إلقاء موسى لعصاه فأذا هي حية تسعى، وتختتم بهزيمة فرعون ورهطه وإقرارهم بالهزيمة والإيمان برب موسى .

كل المعطيات تشير الى غلبة موسى بالمعجزة التي منحها إياه الرب اذ جعل من عصاه التي يتوكأ عليها ثعبان تلقف ما يأفكون، والمنازلة الكبرى بين السحرة وموسى انتهت بأذعان السحرة وإيمانهم برب موسى وأتت على ما خطط له الفرعون من الوقيعة بموسى وأخيه وبني إسرائيل قاطبة:

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ .

لكن الرومي له رائ آخر …

الانتصار كان لفرعون !!

كيف ؟

الحوار يبدأه فرعون كقبول بالهزيمة وإذعان بأنتصار موسى فيصوره الرومي في بيتين جميلين يخاطب فرعون موسى في هذين البيتين: بأن اثبات النبوة والقدرة بمعجزة الافعى هي في الواقع إلقاء للرعب في قلوب الخلق:

” در دل خلقان هراس انداختی ” .

تخويف المصريين في الحقيقة ليس نصراً، إنما النصر هو ما فعله الفراعنة وما أثبتوه في مصر:

” عاقبت در مصر ما رسوا شدند ”

ما فعله الفراعنة في مصر يعتبر اشد وطأة من فعل المعجزات .

والسؤال المهم في هذا الموضوع هو:

ما الذي فعله الفراعنة في مصر واعتبره الفرعون نصرا على موسى ؟

والجواب هو ما ذكره جلال الدين الرومي في القسم السادس من المثنوي:

موجب ايمان نباشد معجزات

بوي جنسيت کند جذب صفات

 

معجزات از بهر قهر دشمنست

بوي جنسيت پي دل بردنست

و المعنى: ان موجبات الإيمان ليس الإتيان بالمعجزات وإثبات القدرة على فعل خوارق الطبيعة، وإنما إثبات النبوءات يتأتى عن طريق جذب الصفات وكاريزما الشخصية الجذابة واختطاف القلوب كما يسميها الرومي، ويعتقد فرعون بحسب حوارية الرومي انه مَلَكَ قلوب المصريين وموسى أرعبهم، وهي المعادلة الرابحة في إثبات الذات في مثل هكذا صراعات.

سر هذه الحوارية يكمن في فهم جدوى معجزات الأنبياء، ولعل الرائد في تسليط الضوء عليها هو ابن خلدون في المقدمة اذ يعتقد ان المعجزات هي حاصل قوة نفوس الأنبياء بالمستوى الذي يجعلهم يتصرفون بمجريات الطبيعة بقدرات خارقة، وتنسب هذه المقولة الى الحكماء أيضاً.

ثم ان معجزة النبي هي في جعل افئدة الناس تهوي اليه بقوة شخصيته وقدرته على توحيد القبائل والمحيطين به على ما يفهم من كلام ابن خلدون، تلك ميزة هي قمة الإعجاز، وأكثر وقعاً مما يروى من خوارق ومعجزات منسوبة الى النبي .

وللحقيقة أقول ان خوارق الطبيعة والإعجاز البلاغي لم تجذب بلالا ولا عمار ولا سلمان الى الإيمان اذ لا تعنيهم خوارق البلاغة كثيراً، وإنما هي القيم السامية من المساواة والعدل وقوة شخصية النبي هنّ من اجتذبن كبار الصحابة، وزعت فيهم المثُل العليا .

جلال الدين الرومي ابدع في ترسيخ هذا المعنى في حواريته الفرعونية الموسوية وأسس لمعنى المعجزة بمعناها العرفاني القائم على الحب الذي هو اصل الإيمان لا الخوف والرهبة الآتية من خوارق الطبيعة .

العطار النيسابوري و منطق الطير

يقول جلال الدين الرومي:

هفت شهر عشق را عطار گشت

ما هنوز اندر خم يك كوچه ايم

وتعني: لقد اجتاز العطار مدن الحب أو العشق السبع.. بينما لا أزال أنا في الزاوية من زوايا الزقاق

حقاً هو الحال كما وصفه مولانا ام هو التواضع الذي يعلو صفات جلال الدين ؟!

لم ار اعظم من هذا الرجل تواضعاً وتقديراً للكبار ممن سبقوه

تبتدأ قصة " منطق الطير" بالترحيب بثلاثة عشر طائرا ينعقد بهم مجلساً للتشاور وانتخاب الهدهد قائدا و مرشداً ؛ لخصوصية هذا الطائر و مكانته في الكتاب و دوره الرمزي بين سليمان وبلقيس كرسول وهاد للبحث عن " السيمرغ ":

مرحبا اي به سرحد سبأ سير تو خوش

با سليمان منطق الطير تو خوش

 

ديوار در بند و زندان باز دار

تا سليمان وار باشي راز دار

 

مرحبا يا من سيرك الى سبأ حسن يسير

ومنطق الطير مع سليمان سلس جميل

 

احبس الشيطان في القيد والسجن

لتصبح كسليمان صاحب ســــــر

في نهاية هجرة الطيور والبحث عن طائر العنقاء لم يجدوا سوى انفسهم و ذواتهم، وهو الهدف من رحلة الصوفي والبحث عن الذات.

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم