قراءات نقدية

هشام بن الشاوي: الرواية العربية والتراث.. "ملحمة الحرافيش" أنموذجًا

هشام بن الشاوييعرف هيغل الرواية بأنها "ملحمة برجوازية حديثة، تعبر عن الصراع بين شعر القلب، ونثر العلاقات الاجتماعية"، وهذا يعني أنها تجمع بين القديم والجديد، فهي فن حديث تزامن نشوؤه ونشوء الطبقة البورجوازية في الغرب، ولكن هذا الفن لم ينشأ من فراغ، وإنما تمتد جذوره إلى الماضي، حتى نصل إلى الملحمة التي اعتبرها النقاد الأب الحقيقي للرواية[1].

كانت الملحمة تهتم بصراع الإنسان مع الآلهة، وعلاقته بالغيبي والمقدس، لذا كانت شخصياتها دينية، في حين هجرت الرواية الرؤية الدينية، والتصقت بحياة الإنسان بوصفه كائنا يعيش في مجتمع إنساني[2]. وقد عرفت الآداب الأوروبية القديمة الملاحم... أما الأدب العربي القديم فلم يعرف الملاحم، بل عرف السير الشعبية في القرون الوسطى[3]، التي استحضرت أبطال العرب القدامى، كسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة عنترة، وسيرة بني هلال، وسيرة ذات الهمة[4].

تتميز السيرة بضخامة متنها، وينقسم متن السيرة الشعبية إلى أجزاء، وكل جزء يحمل عنوانا، ويشكل وحدة حكائية، تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة البطل في السيرة، وتتألف الوحدة الحكائية من سلسلة الأفعال المتعاقبة التي يقوم بها بطل السيرة لإشباع حاجة ما، مادية أو معنوية، وتستدعي رحيلا عن المكان الذي يقيم فيه، والذهاب إلى مكان خصومه، والدخول معهم في مواجهة، وعودته ضافرا إلى مكانه، وقد أشبع الحاجة التي دفعته للرحيل[5]. و تتميز السيرة أيضا بتعدد شخصياتها، واتساع المكان والزمان فيها، حيث يقتضي انتقال البطل من مكان إلى آخر، سعيا وراء إنجاز المهمة المكلف بها، اتساع رقعة الأحداث من جهة، وتعدد الشخصيات التي يلتقي بها البطل أثناء رحلته من جهة أخرى، كما يؤدي قيام السيرة بعرض حياة البطل من ولادته إلى وفاته إلى امتداد الزمن.

إن رواية نجيب محفوظ "ملحمة الحرافيش" تتشابه والشكل العام للسيرة، من حيث ضخامة متنها، وكثرة شخصياتها، وتعدد أمكنتها، وامتداد زمنها، وأقسامها إلى عدد من الأجزاء، يحمل كل جزء عنوانا[6].

قدمت رواية "ملحمة الحرافيش " جانبا من الحياة في مصر إبان العصر المملوكي الذي استحضرته الرواية من خلال الإشارة إلى ما شاع فيه، من وسائط النقل... بالإضافة إلى رصد عادات الناس وتقاليدهم، كالصراع الذي كان يجري بين الأبطال الأشداء لاختيار أقواهم، ليكون "فتوة" الحارة، وللمواجهات التي كانت تحدث بين رجالات الحارات. ورصدت رواية "ملحمة الحرافيش " ماكان شائعا في العصر المملوكي من أناشيد دينية، كانت ترتل في التكايا التي انتشرت في ذلك العصر[7].

لقد نوه العديد من النقاد والمبدعين بهذه "الملحمة" المحفوظية، من بينهم علاء الديب، الذي كتب :"لأول مرة أشعر أنني أمام بناء فرعوني خالص في الأدب، بناء يستحضر عظمة المعابد، ونقوش الجدران، ويستحضر كذلك روح العدل والتوازن، بل والتحدي المباشر لفكرة الزمن وجوهره. إنها أكمل وانضج ما قدم فكر نجيب محفوظ وفنه".

واعترف عزت القمحاوي من خبرات قراءاته المتكررة بأنه يستطيع القول إن رواية "الحرافيش" : "تمنحني جديدا في كل قراءة؛ مؤمنا بأنها ذروة هرم نجيب محفوظ الإبداعي، فيها خلاصة أسئلته حول الحياة والعدم، الدين والسلطة، العدل والظلم. هذه ذاتها أسئلة "أولاد حارتنا" وعديد من رواياته، لكن برهافة أكثر، وحيث يبدو عالم الرواية مكتفيا بذاته دون الإحالة إلى تاريخ أو واقع خارجه؛ ما يجعل "الحرافيش" الأنموذج الأكثر كمالا في العطاء المحفوظي"[8].

إن شخصية عاشور الناجي في الجزء الأول من رواية "ملحمة الحرافيش" تتقاطع وشخصية بطل السيرة الشعبية في جوانب عديدة، فهو مركز اهتمام السرد، لا في الحكاية الأولى التي تنتهي بموته و اختفائه فحسب، بل في سائر الحكايات الأخرى من الراوية أيضا، حيث يستحضر على أنه رمز البطل/الفتوة الذي حكم بالعدل، ووقف إلى جانب الحرافيش والضعفاء من الناس، والمثال الأعلى لاستخدام القوة في سبيل الحق والخير، لا الشر والشيطان. وهو بذلك يشبه أبطال السير العربية[9]...

وتتفق رواية "ملحمة الحرافيش " والسيرة الشعبية في ضرورة وجود بطل فردي، يقود إلى تحقيق النصر، وتصحيح الإساءات، ولكنها تختلف عنها في طبيعة رؤية البطل الفردي، فإذا كانت السيرة الشعبية قد رفعت البطل الفردي إلى درجة التقديس، وجعلته القائد الملهم، فإن رواية "ملحمة الحرافيش" - على الرغم من تركيزها على وجود بطل فردي- وجهت اهتمامها إلى الجماهير، مؤكدة أن الفرد لن يستطيع فعل شيء إذا لم تتحرك الجماهير لتدافع عن مصالحها وحقوقها[10]، كما قد قدم نجيب محفوظ التصوف بشكل فلسفي من خلال شخصية عاشور الناجي الذي يعلم ما يجري في الحارة، ليس من خلال التكية وغنائها الذي لا ينقطع ولكن بوصفه الناجي أو المختار[11].

وإذا كانت "الثلاثية" تتناول قطاعا عرضيا في حياة الأجيال بكل ملامحها وقضاياها الاجتماعية والسياسية والفكرية، فإن "ملحمة الحرافيش " تتناول قطاعا طوليا في حياة الأجيال التي تعرض لها، تركز على قضية واحدة، تعالجها بدقة وحرفية عالية، ولا تغيب هذه الفكرة عن ذهن المؤلف على مدى الصفحات لحظة واحدة[12]، من خلال سرد يتمتع بالانسجام بين اللغة والشخصية والمكان والزمان، وبنية روائية شديدة البساطة، إذا ما قورنت بالعمارة المركبة للثلاثية.. عمارة الحرافيش بناء بسيط، أقرب إلى متوالية قصصية، كل حكاية تبدأ وتنتهي، حيث يساهم هذا الشكل البسيط في تحقيق رؤية الرواية، بتماثله مع موج البحر. لا يتوقف الموج ولا يستدير إلى الوراء، لكنه يندفع في تقدم متتابع يبتلعه الشاطئ، موجة بعد موجة. لا جديد ولا نهاية، بل حركة دائمة[13].

ويتراوح مستوى التعبير بين المستوى اللغوي المباشر، إلى التعبير الشعري الدرامي، مرورا بالحوار اللاحواري، والتعبير بالصورة النابضة والقفل بالحكمة الإنسانية[14]. هذه التنويعات الأسلوبية ترصع لغة سردية سهلة منسجمة مع عالمها[15]...

 

هشام بن الشاوي - المغرب

.........................

الهوامش:

[1] "الأدب والأنواع الأدبية "، مجموعة من المؤلفين، تر: طاهر حجار، دار طلاس، ط1، دمشق 1985، ص.153

[2] م. س، ص. 150

[3] "الأدب المقارن"، د. محمد غنيمي هلال، دار العودة، بيروت، د.ت، ط.5،ص. 159

[4] "توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة"، د. محمد رياض وتار، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2002، ص. 85

[5] "السردية العربية"، د. عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 1992، ص. 150

[6] د. محمد رياض وتار، م. س. ص. 86

[7] د. محمد رياض وتار، م. س، ص. 87

"زيارة جديدة للحرافيش"، عزت القمحاوي، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 6 دجنبر 2020 [8]

[9] د. وتار، م. س. ص 89

[10] م، س، ص 93

[11] د، صلاح السروي، نقلا عن : "تجليات التصوف في النص الأدبي "، تح: صبحي موسى، مجلة "الفيصل"، الرياض، ع. 513-514، أغسطس 2019

[12] "رحلة البحث عن المدينة الفاضلة "، د. محمد سيد أحمد متولي، موقع "مركز نماء للبحوث والدراسات". انظر الرابط :

https://www.nama-center.com/Articles/Details/40846

[13] عزت القمحاوي، م. س

[14] "قراءة في ملحمة الحرافيش"، د. صلاح فضل، مجلة "العربي"، الكويت، ع . 252، نونبر 1979

[15] عزت القمحاوي، م. س

 

 

في المثقف اليوم