قراءات نقدية
سهام سواعدي: التّراث وتجلّياته الفنّية في شعر يحيی السماوي (3)
التّـناص الديني
يظل الدين على مرّ الأزمان ينبوعًا يستنطق حسّ الأدباء والكتّاب، فيلجؤون الیه مقتبسين، أو مسترشدين بنصوصه، فيضفي بذلك مسحة روحانية على أدبهم نثرًا كان أو شعرًا أو على كتاباتهم المختلفة، فالقرآن الكريم والسُّنة النبوية، مصدران يستمدّ منهما الشعراء نماذج وموضوعات، وصورًا أدبية، وقيمًا إنسانية، يستهدي بها كل مقبل على الشعر لصقل شخصيته وحسه معًا. وقد شکّل القرآن الكريم والحديث النبوي أهم المصادر التي أقبل علیها الشعراء في تشكيل صورهم الفنّية، فاقتبسوا كلماتهما، واستلهموا عباراتهما، وتمثّلوا بنظمهما، واستوحوا قصصهما، واستضاؤوا بعبرهما، فهما دائمًا وأبدًا منهل عبق، ونبع صاف، ونبراس هاد، ومع اختلاف الشعراء في ملكاتهم وتباينهم في أسالیبهم وطرائقهم تنوّعت التأثيرات القرآنية والحديث في أشعارهم .
يعد التناص الديني وخاصّة التناص من القرآن الكريم، الأكثر شيوعا في قصائد الشعراء، حيث عمد الشعراء إلى القرآن الكريم لتوصيل دلالاتهم للقارئ وتكثيفها من خلال انتقائهم للآيات التي تناسب طبيعة القصيدة والمتوافقة والجو النفسي للشاعر.
و اللجوء إلى القرآن أو الكتب السماوية الأخرى، يفجر لدى الشاعر طاقات دلالیة وإبداعية جديدة، الأمر الذي يعزز لديه بناء الرؤى الشعرية، فالتفاعل مع هذه الكتب المقدسة بإقتباس نصوصها يمنح الشاعر بناء نصه الجديد، وهذا النوع من التناص ليس مجرد إقتباس للنص القرآني أو لتزيين القصيدة به، فهدف الشاعر هنا هو استيعاب النصّ وتطويعه (محمد الزواهرة، 2003، ص83).
و استخدام القرآن الكريم يشكّل الملمح الأشد بروزاً في الشعر العربي المعاصر فهو منهل خصب لجميع أنواع التفاعلات النّصية . فقد شكّل التراث الديني في كل العصور وعند كل الأمم مصدراً سخياً وينبوعاً لا ينضب من مصادر الإلهام الشعري، الذي يستمد منه الشعراء النماذج والموضوعات والصور الأدبية. (البنداري، 2009، 246)
و قد شكّل التراث الديني مرجعية دلالیة لها حضورها القوي والفعّال في القصيدة العربية المعاصرة، لخصوصيته، وتميزه وقدرته على النهوض بإنفعالات المبدع وتجاربه، والتأثير مع الوجدان الجمعي؛ لأن المعطيات الدينيّة تشبع الإنسان وترضي رغبته في المعرفة، بما قدمت من تصورات لنشأة الكون، وتفسير سحري لظواهره المتنوعة.
تعددت مظاهر التناص الديني في شعر السماوي حتی بات رافداً رئيساً في ديوانه الشعري وذلک بسبب تشبع روح الشاعر بالنفس الديني من جانب ورغبته في شحن قصائده بالموروث القرآني المترسخ في جذور المتلقين ويلاحظ أنّ التناص الديني في شعره اقتصر علی القرآن ولم يعکس الأحاديث او الکتب السماوية الأخری الا نادراً.
وظّف السماوي التناص القرآني لأهداف سنذکر البعض منها في النماذج التالیة:
توظيف التناص القرآني تيمّنا بالقصص القرآنية:
من أبرز نماذج التناص القرآني ما نراه في حديث الشاعر المتمثل في وقوعه بين سندان العشق ومطرقة آلامه وتباريحه المضنية:
الهوی من دُبُرٍ قدَّ سفيني والدجی من قُبُلٍ قدَّ شِراعي
فأصطفاکِ اللهُ لي طوقَ نجاة (السماوي،2012، 20)
یتناص الشاعر في مقطعه الشعري هذا مع آيتين من سورة يوسف إذ يقول تعالی ( وشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ أنّ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ . وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ )(يوسف، 26و27) .
و يلاحظ هنا أنّ «قدّ السفينة من دُبُر وقدّ الشراع من قُبُل » إنما يوحي بتفاقم أوضاع الشاعر في مأساته الغرامية حتی اصطفى الله الحبيبة کي تنقذه من مأزقه کما یتناص في بيته (فأصطفاک الله لي طوق نجاة) مع قوله تعالی (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ أنّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمين) (آل عمران، 42)
وقد وردت الصورة نفسها أيضا في موضع آخر عندما أراد الشاعر أن يصف معاناته في احدی الليالی الدامسة:
أيقظي الفانوس فالليلُ ضريرٌ
والضحى من قُبُلٍ قدّ بساتيني
و قدّتْ خيمتي من دُبُرٍ ريحُ شجوني (السماوي، 2019، 90)
يخاطب الشاعر هنا حبيبته بقوله: «أيتها الحبيبة أضيئي المصباح فإنّ الليل دامس لا أکاد أری فيه وکذلک حال الضحی فقد قدّ من قُبل بساتين حياتي ورياح الشجون قدّت من دبر خيمتي»؛ ويلاحظ أنّ الشاعر في نصّه الشعري یتناص مع الآية القرآنية «وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ أنّ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ . وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ »(يوسف، 26) والجمع بين الحالتين أي القدّ من دبر ومن قُبل معا إنما يوحي شدة مأساة الشاعر حتی أنّ شجون الحياة لم تبق علیه بقية فقد أحاطت به من کل جانب ومزّقته کل ممزق.
و يبرز التناص في حديث الشاعر عن حبيبته التي قضت علی کل حبّ سواها فيناديها أن تجهز علی کل حب آخر منافس في ذات الشاعر:
حطّمي في کعبتي عزّاي يا قديسةَ الفأسِ ولاتي
و اشفعي لي يومَ لا ينفعُ
ثغري غيرُ ثغرکْ
و سريري غيرُ خِدرکْ
و ضلوعي غيرُ صدرکْ
و شراعي غيرُ بحرکْ
و رحيقي غيرُ عطرکْ
و ذراعي غيرُ خصرکْ
و سطوري غيرُ حبرکْ
و مساراتي إذا لم تتخذ منک صراطا طرقاتي البشرية (السماوي، 2013، 24)
في هذا النصّ الشعري نری الشاعر یتناص مع بعض آيات سورة النجم والصافات إذ يقول تعالی: (أَ فَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ والْعُزَّى ومَنَوةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى(النجم،19و 20) و{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَراغَ علیهِمْ ضَرْبًا بِالیمِينِ (الصافات، 91-93) لکن الملاحظ هنا أنّ الشاعر حوّر کثیراً في الآيات إذ جعل العزی واللات هما الأصنام التي تم تهشيمها کما أنّ الشاعر في عقده الموازنة بين ابراهیم وحبيبته لم يشِر الی إسم ابراهیم صراحة بل ذکر حبيبته بعبارة«قديسة الفأس» لذا فإن التناص من النوع الکلي. کما أنّ هناک تناصًّا آخر في قول الشاعر «و اشفعي لي يوم لا ينفع ثغري غيرُ ثغرک» وهو یتناص مع آيتين من سورة الشعراء « ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ »(الشعراء، 87و88) لکن الشاعر هنا حوّرها وجعل من حبيبته نبيا مشفعا وصوّر فمها نافعا خلافا للآية التي تؤکد علی عدم جدوی المال والبنين لذا فإن التناص من النوع الکلي. کما أنّ بيته الأخير (و مساراتي اذا لم تتخذ منک صراطا طرقاتي البشرية) یتناص مع الآية ( وإِذْ قالَ إِبْراهیمُ لِأَبيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أنّي أَراكَ وقَوْمَكَ في ضَلالٍ مُبينٍ) (الانعام، 74)
من تجلّيات التناص القرآني ما يتجلی في حديث الشاعر عن ضرورة الصبر والتأني في ظل تدهور الواقع العراقي وأمله بتحسّن الأوضاع مهما طغت وطالت:
هيِّئي للطَلقِ صبرا
إنّ بعد العسرِ يسرا
ماؤنا ينبئ عن هدهدِ بشرى (السماوي، 2013، 141 )
يخاطب الشاعر الأمة العراقية علیک أن تصبري فهذا هو الطلق وأنّ الصبر علیه سيفرز مولودا جديدا ويتمخض عن نتيجة حديثة فإنّ العسر يتبعه الیسر وهدهد البشرى لابد أنّ ياتي بالنبأ السار ؛ ويلاحظ هنا أنّ السماوي یتناص مع الآية القرآنية « فَأنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «6» (سورة الشرح، 5و6) وأنّ توظيف هذه الآية نظرا لمصدرها القرآني فضلا عن دعم فکرة الصبر إنّما تمنح المتلقي المزيد من الثقة والإيمان بجدوی الصبر وانکشاف الغمة .
توظيف التناص القرآني لبيان اختلاجاته النفسية:
کما نجد أنّ الشاعر يستخدم التناص الديني في حديثه عن بعض تجاربه التي لم ينجح فيها کما يقول:
لم يَخُنْ فارسَه المضمارُ والسرجُ
ولا خانت شراعي الريحُ والموجُ
بريء من دمي الاخوةُ والذئب
أنا کنتُ عدوي
قُدتُ للبئرِ بنفسي قَدَمي (السماوي، 2013، 31)
شرح الشاعر أنّ سبب اخفاقه ليس الإخوة ولا الذئب بل هو الذي سار الی البئر والقی بنفسه في متاهاته وهذا المقطع یتناص مع قصة يوسف التي تتلخص في إلقائه في البئر علی يد إخوته حسدا وغيرة وادعاء أکله من قبل الذئب وقد سردها القرآن بکامل تفاصيلها في سورة يوسف؛ الا أنّ الشاعر هنا يحوّر القصة تماما فيوسف الذي فتک به أخوته وألقوه في غياهب الجب کما في الرواية القرآنية إذ تقول (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وأَلْقُوهُ في غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أنّ ...)،الا أنّ يوسف/ الشاعر يظهر في مقطع الشاعر علی هیئة شخص يلقي بنفسه في البئر دون أن يتدخل في ذلک أخوته او يتعرض لهجوم الذئب وهکذا فإن النصّ متحور تماما لذا فإن التناص من النوع الکلي.
رسم مأساة الشعب العراقي ومغبة الإحتلال:
و من أبرز تجلّيات التناص القرآني ما نراه في حديث الشاعر عن مغبة احتلال العراق علی يد القوات الغربية وما يصيب أهلها علی يد الغزاة مستخدما آلیة التناص في رسم المأساة:
فأنّ الدارَ حين تُذلُّ
يصبح ماؤها جمرا
و بَيدرُ حقلِها تِبنا
وعزة اهلِها ذُلّا
و يغدو حرُّا عبدا
وخيرُ خيولِها بغلا (السماوي، 2013، 81 )
يتحدث الشاعر هنا عن العواقب الوخيمة التي سيُمنى بها العراق بعد الإحتلال الغربي لأرضه وشعبه فیتناص مع حکاية قوم بلقيس وتحذيرهم إياها من مغبة دخول الأجانب الی مملکتها کما في قوله تعالی:« قَالَتْ أنّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ »(النمل، 34)؛فکما أنّ الآية تحذر من دخول الملوک الی مملکة بلقيس خشية إذلال أهلها وشعبها وتدنيس أرضها فإن الشاعر العراقي يحذر قومه من تداعيات الإحتلال الغربي للعراق وما يفضي الیه من دمار العراق وهوان وذل للشعب العراقي وأهله الأحرار کما أنّ البيت يتضمن إيحاءات قصة الجنتين في قوله تعالی (فَعَسىَ رَبّي أنّ يُؤْتِين خَيراً مِّن جَنَّتِكَ ويُرْسِلَ علیهْا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفّيهِ عَلى مَا أَنفَقَ فيهَا وهِىَ خَاوِيَةٌ عَلىَ عُرُوشِها ويَقُولُ يَالیتَني لَمْ أُشرْكْ بِرَبّي أَحَداً ولَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ومَا كاَنَ مُنتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الحْقّ هُوَ خَيرٌ ثَوَابًا وخَيرٌ عُقْباً) (الکهف، 40-45) ويظهر التّناص من خلال وصف الدار العراقية بأنها أصبحت ذليلة بعد عزّ ومستعبدة بعد حرية وغار ماؤها واصبحت زروعها هشيماً وهذا ما يلمح أيضا في قصة صاحب الجنة الذي کفر بنعمته، فأذلّه الله وسلب نعمته وجعل ماء جنته غوراً وأرسل علیها حسباناً من السماء فأحرقها واصبح يقلّب کفيه حسرة وندماً.
و في حديث الشاعر عن عصره المتردي يصوره بعيداً عن کل مظاهر الدين والعطف والرحمة والمعجزات الربّانيّة عائماً في لجج الفساد والجور والعسف:
عصرُنا عصرُ أباطيلَ وزيفٍ
ليس عصرَ المعجزاتْ
ختمَ اللهُ الرسالاتِ
فلا المجذوم يشفيه دعاءٌ
لا خُطی تمشي علی الموج
و بطنُ الحوتِ لا يصبح طوقا لنجاةْ
الهدی متهمٌ فيه بتألیب القناديل علی الظلمة
والفأسُ علی عزّی ولاتْ (السماوي، 2013، 133)
يؤکد الشاعر هنا أن عصرنا الحديث عصر الأباطيل بعيداً عن کل مظاهر الدين والمعجزات السماوية والايمان الربّاني حتی لم يعد يعبأ به أهل الارض ولم يعد يجدينا الدعاء ولا نؤمن بالسير علی الماء ولا النجاة من بطن الحوت. فعصرنا قُلب عکسا وباتت تحکمه قوی العسف والظلام وتحکمت فيه الآلهة بمصير الشعوب. ويلاحظ هنا أنّ الشاعر في هذا المقطع الشعري يتناص مع معجزات عيسی (ع ) في قوله تعالی«وَ رَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أنّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهیئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فيهِ فيكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ» (آل عمران، 46) وحديث الرسول عن عيسی (ع) «أنّ عيسَى بنَ مَريمَ كانَ يَمشي علَى الماءِ، ولَو زادَ يَقينا لَمَشى في الهَواءِ» ومعجزة يونس (ع) في قوله «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْ لا أنّه كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »(الصافات، 144) وهذه الآية والحديث توحيان بسمو الإيمان الذي کان يتمتع به اولئک الرسل وانعدام هذه المعجزات وعدم الإيمان بها علی رغم جلالتها يوحي بتدهور العصر الراهن الذي تألبت فيه الآلهة البشرية علی الشعوب وتحکمت في رقاب الناس کما تحکمت في رقابهم اللات والعزی في سابق العصور. وهکذا فإنّ الشاعر صوّر من خلال آلیة التناص ضمن هذه الآيات، الحرکة العکسية للعصر الراهن فبعد أن تقلّب الهدی الرباني علی ظلام الکفر والجور نری العصر الراهن يخضع لهیمنة القوی الکافرة والفاسدة حتی تجتثّ منه کل مظاهر الإيمان والرحمة والعطف.
لبيان حبه وشغفه بالحبيبة/ الوطن:
و من أبهی تجلّيات التناص القرآني في شعر السماوي ما يظهر في وصف نفسه لحبيبته إذ يستعير فيها حکاية مريم عند جلوسها تحت النخلة:
نخلتي مثقلةُ الأعذاقِ
هيّأت لكِ المائدةَ الحلمَ
فهيّا
لا تَهُزيها
فإني سأمدّ العذقَ مني
فکُلي من رُطبي لَثما جنيّا (السماوي، 2013، ص98)
يصور الشاعر في هذه الأبيات نفسه علی هیئة نخلة معطاء مثقلة الأعذاق والشاعر بهذه الصورة یتناص مع الآية القرآنية المتعلقة بالسيدة مريم (ع) إذ تقول «وَ هُزِّي الیكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ علیكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً» ومما يلاحظ أنّ توظيف الشاعر لهذا التصوير القرآني تحوّر بعض الشيء إذ أنّ نخلة الشاعر خلافا لنخلة مريم لا تريد هزّا بل هي تهتزّ طربا لتنال الحبيبة کما أنّها تمدّ عذقها دون جهد وإنّ ثمرها لثم وتقبيل بدل الرطب الجني کما ورد في الآية القرآنية وهذا التحوير يجعل التناص من نوع التناص الحواري او النفي الکلي ويلاحظ أنّ التحوير جاء بهدف الکشف عن مدی الحب الذي يکتهنه قلب الشاعر تجاه حبيبته حتی أنّه أکرمها اکثر من النعمة التي تلقتها السيدة مريم (ع).
و عندما يريد السماوي أن يرسم بهاء وسمو حبه فإنه يستعير حکاية وادي طوی کما وردت في القرآن في لقاء موسی بربه جلّ وعلی، إذ يقول الشاعر:
طلعَ العشقُ علینا
فاخلعي ثوبَكِ والنعلَ
فلا عينُ ترانا في طوی العشقِ
سوی العشب،الفراشات، الخزامی والهزارْ (السماوي، 2013، 102)
هنا نجد الشاعر في وصف جلالة حبه يستعير الصورة القرآنية في حکاية لقاء موسی بربه کما وردت في آية «أنّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعلیكَ أنّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً»(طه، 12) والشاعر يحوّر بعض الشيء في الآية فهو يصور عشقه علی هیئة تجلّي الله جل وتعالی عمّا يصف ويطلب من حبيبته فضلا عن خلع النعال خلع الثوب والشاعر بهذا التناص القرآني والصورة الفنية يهدف الی بيان جلالة حبه حتی يجعله في مصاف الآلهة.
و من جمالیات التناص القرآني ما نشاهده في وصف الشاعر لوحدة الحب التي تجمعه بحبيبته فيصورها بهیئة الوحدة الصوفية التي تنصهر فيها کل الفروق والتنوعات:
أنا أنتِ، أنتِ أنا
حروفٌ لم تَزل
في طورِ سينِ (السماوي، 2013، 110)
يصرّح الشاعر بأنه ليس سوی حبيبته وأن حبيبته ليست سواه وهما حروف نابعة من طور سيناء وهذه الصورة تناصّ خفي مع قوله تعالی: «و شجرةٌ تخرجُ مِن طور سَيناء» والمراد أبجدية محبة جديدة قيد التکوين.
و في حديث الشعر عن حبّه فيصور نفسه عارجا نحو موطنه کما أسری بالرسول (ص) الی الجنة:
قال صوفائيلُ أو شبّه ليْ
اسراؤک الليلةَ
فأدخل آمنا فردوسَک الموعودَ
أسرى بيْ
فمعراجي سريرٌ
و مرايا نخلةِ الله البراقْ (السماوي، 2013، 130)
و يلاحظ هنا أنّ الشاعر یتناص مع أحداث سورة الإسراء في القرآن الکريم الا أنّه يحوّر في حکاية الإسراء بما يتناسب مع المعنی الذي يرومه فنری أنّ الملک هو صوفائيل ودلالة هذا الإسم توحي بصوفية ونقاء واخلاص حبه لوطنه او حبيبته. کما أنّ الإسراء تم عبر نخلة الله بدل البراق وذلک يمنح النخلة دلالة فريدة تتمثل في سمو مکانتها في قلب الشاعر. کما أنّ الإسراء في شعر السماوي يتم الی أرض العراق وموطن الحبيبة مما يمنح العراق مکانة سامية تبلغ مصاف الفردوس الأعلی.
و من نماذج التناص القرآني أيضا ما يصوّره الشاعر من صفاء الحب الذي يربطه بعشيقته والمکانة التي حازتها في قلبه:
کانت تسميني نبيَّ التين والزيتونِ
أفقَ جَناحِها
و أنا أسميها البشيرةَ بالقُرُنفلِ
و الملاکَ المرسَلةْ
أتلو فابدأ باسمِها الآياتِ قبل البسملةْ (السماوي، 2013، 151)
و الشاعر هنا من خلال هذه الصورة وما يؤکده من تقديمها علی البسلمة انما يوحي بسمو مکانة حبيبته في قلبه حتی قدّم ذکرها علی ذکر البسملة مما أکسبها الرفعة والقداسة بذلک.
و من تجلّيات التناص الديني استيحاء حادثة الإسراء ومرکب الرسول (ص) البراق حين عروجه الی السماء بهدف التعبير عن شوقه تجاه العراق ومکانته السامیة في نظره:
يا نخلةَ الله، الشراعَ، الموجةَ، الريحَ، الفَنارَ، المبتغی
و البوصلةْ
خطوي طليقٌ غيرَ أنّ دوربَنا في الغربتين مکبّلةْ !
مَن ليْ بمعجزةِ البُراقِ الان يَسري بيْ الیک (السماوي، 2013، 155)
يخاطب الشاعر هنا أرض العراق بقوله :« يا أرض العراق انتِ دافعي وهدفي ومبتغاي علی الرغم من حريتي في بلاد الغربة الا أنّ الطريق الیک محجور علی اهلک فليتني أسري الیک کما أسری الرسول الی الفردوس». ويلاحظ هنا أنّ الشاعر في قوله «من لي بمعجزة البراق» یتناص مع حادثة الإسراء النبوي والهدف من ذلک هو بيان جلالة موطن الشاعر في قلبه ومساواته بالفردوس والتعبير عن شغفه تجاه وطنه العزيز.
و نشاهد الشاعر في قصيدة «ضفاف» يرسم فيها جنة عشقه علی هیئة الفردوس:
ألقی عليَّ
تحيةَ العشقِ الخرافة هدهدُ البشری
وقال يخصّکَ الزمنُ الجديدُ بجنةٍ
من فوقها تجري من الأفراح اقمارٌ
ويجري تحتها نهرٌ من القُبلات والأزهار والأطيار (السماوي، 2019، 8)
يصرح الشاعر أنّ الهدهد بشّره ببزوغ جنة جديدة تحوم من فوقها أقمار الفرح وتجري من تحتها انهار القبلات والأزهار والطيور وهذه الصورة تتناصّ مع العديد من الآيات القرآنية التي تصف الجنة ومن ضمنها«لَٰكِنِ الذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»(الزمر، 20). الا أنّ الشاعر في رسم فردوسه يستبدل عبارة «تجري من فوقها الأفراح» بعبارة «غرف من فوقها غرف» و«يجري من تحتها القبلات» بعبارة «تجري من تحتها الانهار» ليضفي علی جنته إهاب الحب والغرام وبناءً علی هذا التحوير الجزئي فإن التناص من النوع الإمتصاصي او النفي الجزئي.
فضلا عن القران نجد السماوي نموذجا یتناص فيه مع الإنجيل ومن أبرزها الأبيات التالیة التي يصور فيها عظمته وجلالته في عالم العشق وامتلاکه ناصية الغرام:
للهِ ما للهِ
لکنْ ما لقيصرَ مِن عروشٍ ليْ
و للعشقِ الولاية (السماوي، 2019، 22)
يؤکد الشاعر هنا أنّ العبادة لله أما ما کان لقيصر من عروش الحب فأنه لي. والشاعر في هذه الصورة یتناص مع قول عيسی (ع) في الإنجيل «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ» (إنجيل مرقس 12: 17) الا أنّ الشاعر يحوّر في المعنی بما يتناسب مع المعنی الذي يرمي الیه فيصور نفسه علی هیئة قيصر الملک الذي اکتنز مملکات الأرض الا أنّ ممتلکات الشاعر هنا هي عروش العشق والغرام وبذلک فإن التناص من النوع التناص الإمتصاصي.
و استعان الشاعر بآلیة التناص القرآني والروائي عندما أراد أن يصور مملکة رب العشق" اينانا" فصورها علی هیئة رب يعبده الشاعر:
أقسَمَتْ بالعشقِ إينانا
سَتُلقي بيْ من الجنةِ إن خُنتُ المرايا
وتمردتُ علی الوردة والنحلة والعصفورِ
و الکوخ الذي يستر
عَريِ الفقراءْ
و أنا أقسمتُ أن أجعلَ ليْ من خدرِها غارَ حراءْ (السماوي، 2019، 38)
يصرح الشاعر في هذه الأبيات «إنّ اينانا أقسمت أنّها ستخرجه من الفردوس حالما يخونها ويتمرد علی الجمال والفقر وأما هو فقد أقسم علی أنّ يتعبّدها في محراب خدرها» . ويلاحظ أنّ الشاعر في هذه الصورة یتناص مع العديد من الأحداث الإسلامية من ضمنها إخراج الشيطان من الجنة لقاء تمرده علی الله تعالی کما في قوله «قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْمومًا مَدْحُورًا»(الأعراف، 18) وکذلک حکاية تعبد الرسول لربه في غار حراء والشاعر بهذا التناص يهدف الی بيان مکانة حبيبته حتی جعلها في مصاف الآلهة وصور الخروج عن نهج عشقها بالشيطنة والصدوف عن الصراط المستقيم کما يلاحظ أيضا إنه حوّر في هذه التناصات بما يتناسب مع الصورة التي يرمي الیها کما في استبداله حکاية عصيان السجود بالتمرد علی الورود استبدال غار حراء بخدر الحبيبة وبذلک جاء تناصه من النوع الإمتصاصي.
وفي قصيدة أخری نری اينانا تلعب دور السيدة حواء في هبوط آدم الی الأرض حسب المعتقد المسيحي والیهودي1
قبل أن تهبطَ من فردوسها الضوئي اينانا اليّ
هبطت بي نحو قاع العالم السفلي شامات کثیراًت تقاطرن عليّ (السماوي، 2019، 43)
کما أنّ الشاعر يوظف التناص القرآني والديني في أحد لقاءاته الغرامية فيتعسّر بعض الصور القرآنية في سبيل رسم صوره الفنية:
وضَعَت أمامي قهوةً ترکيةً واستدرکت هل مِن مزيدٍ ؟
قلتُ قطعةَ سکرٍ او قُبلةً
ضحکتْ وکادَتْ أنْ تمدَّ فماً اليّ
و أردفَت شفتاي ام مُقلي الکحيلةْ ؟
قلتُ الصلاةُ الشفعُ أثوبُ من صلاةِ الوتر(السماوي، 2019، 64)
يصور الشاعر في هذه الأبيات ما دار بينه وبين النادلة بقوله: «اتتني النادلة ووضعت أمامي قهوة ترکية النکهة وسألتني هل هناک طلب آخر فأجبتها بنعم وطلبت قطعة سکرة وقبلة من وجنتها النضرة فابتسمت ومدّت يدها نحوي ووتساءلت : هل من شفتيّ او مقلتي الکحيلة أيضا ؟ فأجبتها : « أنّ صلاة الشفع لأكثر ثوابا من الوتر»؛ ويلاحظ هنا أنّ الشاعر في حديثه الغرامي الذي دار بينه ونادلة المقهی یتناص مع الآية القرآنية «وَ الشَّفعِ والوَتر)(الفجر، 3) وقد حوّر الشاعر في دلالة النصّ فعنی بالشفع شفاه الحبيبة ورام بالوتر عيون الحبيبة وبذلک فإن التناص من النوع الإمتصاصي.
و من أبهی تجلّيات التناص القرآني ما يوظفه الشاعر في حواره الغرامي مع حبيبته وما يبديه من عظيم الحب تجاهها:
ما دُمتِ عازمةً علی وأد المنى فلتُجهِزي قبلَ الفراق علیّا
أشهدتُ ربي لن أقولَ قتلتني يومَ الحسابِ غداةَ أبعثُ حيّا
و نثرتِ کافورا عليَّ وشــــيّعَتْ عينـــاک صبًّا في هـــواه تقيّــا
و أنَبتِ عني شربةً مِن زمــــــزمٍ وبسطتِ کفاً بالدعاء عشيّا
و سَعيتِ ليْ ما بين مروةَ والصفا سبعاً وزُرتِ عن القتيلِ نبيّا
معذورةٌ إنْ تقتلي متأبداً في الغربتيـن عن العراق شـــقـــيّا
أبَــتِ المسرةُ أن تُضاحِکَ مُقلــةً مني وقد بلغ الوئامُ عتيّـــــا
فَرَشَت لکِ الأحداقُ عشبَ حقولِها أمّا الفوادُ فقد أتاک حفيا
(السماوي، 2008،البکاء علی کتف الوطن، 120)
يخاطب الشاعر حبيبته في هذا المقطع قائلاً: «إن کنت يا حبيبتي قد عزمتِ علی تحطيم أحلامي فعلیک أن تجهزي عليَّ قبل فراقک إياي لأنّي بعد فراقک أموت کمدا ولا تخشي في ذلک لومة لائم فإني أشهد الله إنّني لا أفشي سر قتلک إياي حتی يوم النشور وشرعت تکفنين وتنثرين على فتاک العاشق التقي الکافور فلا إثم علیک أن تقتلي ذاک الفتي الشقي الذي نُفي من وطن العراق فتجرع آلام الغربة والفراق وقد خارت عظامه وبلغ من الکبر عتيا بعد مغادرته بلاده الا أن فؤاده ما زال حفيا بوطنه ينتعش بذکری الوطن و" الحبيبة»؛ ويلاحظ هنا أنّ الشاعر وظّف العديد من النصوص الغائبة في مقطعه الشعري فنراه يتناص مع آيات عديدة کما في البيت الثاني في قوله «غداة أبعث حيا» وهو يتناص فيها مع حکاية عيسی في سورة مريم إذ يقول (ع) « وسَلامٌ علیهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا « 15 مریم» والهدف من هذا التناص هو أنّ الشاعر يريد أن يخلع علی نفسه من سمات السّمو ما يجعله في مصاف النبي عيسی(ع). کما أنّ قوله «في هواه تقيّا» یتناص مع حکاية النبي يحيی في آية « وحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وكَانَ تَقِيًّا» «13 مریم» والهدف من ذلک هو أن يصور سمو تقواه حتی أنّه يبلغ في ذلک النبي يحيی (ع). کما أنّ الشاعر في قوله «وقد بلغ الوئام عتيّا» یتناص مع حکاية زکريا في الآية « وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا » والهدف من ذلک هو بيان يأسه من تحسُّن الأمر ورجوع المسرة. وفي الأخير نری الشاعر في قوله « أما الفواد فقد أتاک حفيا » فیتناص مع حکاية ابراهیم عن ربه « قَالَ سَلَامٌ علیكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ أنّه كَانَ بِي حَفياً » «47 مریم» وهذا التناص يهدف إلی بيان مدی حفاوة الشاعر بحبيبته.
" يتبع "
د . سهام ذاكر سواعدي
......................
(*) عنوان البحث الذي حازت به الباحثة شهادة الدكتوراه في جامعة لرستان الإيرانية .
تري التوراة والانجيل أنّ حواء هی السبب في إخراج أبينا آدم من الجنة؛ لأنها هی التی أغرته بالأكل من الشجرة الممنوعة، فكانت بذلك سببًا في حرمانه من الجنة.(محاميد، 2020، 9)