قراءات نقدية

رابعة النساء بين دفوف البيضاني

ساطع راجيتتعدد المحاور والمراكز السردية في رواية (دفوف رابعة العدوية) للكاتب عبدالستار البيضاني، ورغم ان الخط السردي البدئي بسيط وهو عن علاقة عشق بين رجل (الراوي) وقبس عازفة السنطور التي تحاول الافلات من العلاقة الجسدية فتدفع البطل للتعرف على سيرة المتصوفة رابعة العدوية ليتحول البحث الى محاولة للتقديم على الدراسات العليا، وهو مسعى ينتهي بالفشل في مقابل الحصول على تجربة ذاتية عميقة عن التصوف والموسيقى، وتقدم الرواية مدونة تاريخية عن الحياة العراقية في التسعينيات وآثار الحروب والحصار عليها.

ورغم أهمية الزمن في هذه الرواية إلا ان القارئ يواجه إربكا كبيرا في تسلسل الاحداث، فقد توقف الزمن مع لحظة اللقاء الجسدي بين البطل وقبس في السطر الأخير من الرواية والفترة الفاصلة بين هذا اللقاء وزمن السرد تبقى مجهولة تماما للقارئ، فالعلاقة متواصلة لمدة ثلاثة عقود لكن القارئ لا يطلع إلا على بضعة أشهر منها ليبقى التساؤل عن السنوات المفقودة ملحا، وبينما يخبرنا البطل/الراوي انه تلقى رسالة على الايميل (ص9) وهو ما يعني ان زمن السرد يجري بعد عام 2003 إلا إن زمن الحدث يجري أواسط التسعينيات، لكن الراوي يقول انه إلتقى بالشخصية المحورية (قبس) التي تلقى منها الايميل قبل ثلاثة أيام في مطعم (اي في القرن الحالي) لكن هذا اللقاء تتم استعادته أكثر من مرة في الرواية بمسار الاحداث التي وقعت في التسعينيات.

رواية البيضاني هذه، محورها النساء، هي رواية خيبات تنتهي بسردية تنعم البطل باللذة الجسدية التي تمنحها واحدة من النساء (الشخصية المحورية قبس) كما بدأت بتنعم البطل بهذه اللذة، عبر نساء واهبات مسيطرات يخضع لهن البطل الذي لا يقدم على شيء (حتى الدراسة) إلا بتوجيه من إمرأة، وكل معرفته تتحكم بها النساء، لكن اللافت إن الراوي/البطل يتجاهل ذكر زوجته إلا في مرات معدودة أقل من أصابع اليد ودون ذكر إسمها، كما لايتحدث أبدا عن أطفاله رغم شكواه المستمرة من ضيق بيته ومشاكله الاقتصادية لكنه يظهر كأنه الوحيد الذي يعاني ولا تشاركه الزوجة والاطفال، ليقدم لنا الروائي شخصية كسولة أنانية تعتمد على الجميع في حل مشاكلها، فالبطلة قبس هي من تهيء له الاهتمام بشخصية رابعة لتؤخر رغبته فيها، واستاذه يدعوه لإكمال دراسته ويسهل له ذلك، وصديقه (علي حسين علي) يساعده ماديا وفي الحصول على مصادر دراسته وهو من يقترح عليه كتابة الرواية بدلا من رسالة الماجستير، وصديقه الصحفي طارق يعرفه على البصرة مجددا التي سبق للبطل ان كان جنديا فيها ويسهل له اجراءات اثبات الرعوية، ووالده يسكنه في بيته ويتعهد بالانفاق عليه خلال الدراسة، ويفشل في الشيء الوحيد الذي لا يمكن لغيره القيام به وهو امتحان اللغة لتنهار خطته التي يراوغ لمنع القارئ من اكتشافها فبينما يظهر منشغلا  بالمعارف الصوفية وتحديدا بشخصية رابعة لكنه يسعى لارضاء رغبات إمرأة (قبس) التي يريد إبهارها للحصول على جسدها، ولا تؤثر كل المعرفة الصوفية التي حصل عليها في تغيير هدفه، وحتى أزمته النفسية بعد الفشل في الامتحان تنتهي بالحصول على جسد قبس التي قدمت له نفسها فهو لا يريد الاقتحام كما يقول في ص6.

يقدم عبدالستار البيضاني، في روايته، شخصية المهزوم الازدواجي الانتهازي، الذي يعتقد إن العالم يدور حوله وحول ملذاته رغم ما يبديه من انشغالات (الهوية عبر اجراءات الرعوية، الدراسة، التصوف، الموسيقى..) وحتى ما يسجله من مآس إجتماعية بلوعة من يعاني يعبرها دون انشغال بالمواجهة، فهدفه واحد واضح.

ويفضح البيضاني إزدواجية الشخصية الرئيسة التي تقوم بدور الراوي أيضا بالمساحات التي يتيحها هذا الرواي لظهور الشخصيات في النص، فهو اعتزازا بالاصل العشائري يمنح مساحة كبيرة لشخصية عبيد الخربطلي ويكشف تأثيره الكبير في قناعاته وتوجهاته ويخضع لرغبة تقصي أماكن لهو جده لإثبات فحولته التي يركز عليها عبيد الخربطلي، لكن المساحات الاكبر في النص يمنحها الراوي لثلاثة نساء بينما أصغر مساحة في النص تكون من حصة إمرأة رابعة هي زوجته التي لا يظهر إسمها في الرواية أبدا مثلما لن يعرف القارئ أبدا إسم البطل.

حركة البطل في الرواية تتجه نحو إمرأة (هدف) هي قبس عازفة السنطور الثرية، عبر واسطة هي إمرأة أيضا (رابعة العدوية) الشاعرة والمغنية والمتصوفة، لكن العلاقة بين قبس ورابعة لا تنعقد إلا عبر ممر (إمرأة أيضا) هي رسلية العازفة والمغنية في فرقة الخشابة التي يعتبرها الراوي هي نقطة الاتصال بين قبس ورابعة، بينما تبقى المرأة الرابعة (الزوجة) في منطقة الصمت، وكل واحدة من هؤلاء النسوة، لديها موقع في حركة السرد الروائي ويمثلها مستوى صوتي، كموسيقى وكمساحة في النص، ولها موقع في بناء الرواية يمكن توصيفه كالآتي:   

المرأة الاولى= الجسد= قبس= السنطور

المرأة الثانية= الروح= رابعة العدوية= الدف

المرأة الثالثة = الواسطة = رسلية = الدف

المرأة الرابعة = المهمل= الزوجة= الصمت

وهذا (المهمل) هو الواقع الذي يعجز البطل عن التعامل معه إلا بفضل الآخرين، ويجسده حالة الانكسار والعزلة في البيت بعد الفشل في إمتحان اللغة، ولا يخرج من هذه الحالة إلا بمبادرة من (قبس) لتنتهي الرواية بمشهد غوايتها للبطل واستسلامها له، وهو مشهد مستنسخ من بعض حكايات ألف ليلة ما يدفع القارئ الى الظن بإنه من تخيلات البطل وليس حقيقيا، ليكون احتيالا نفسيا للخروج من الازمة، ليرجع القارئ الى السطر الاول في الصفحة الاولى من الرواية التي يصف فيها البطل حالته (كل شيء جرى في غفلة مني!) ويقول لاحقا (إن تشخيص الداء هو نصف الدواء) لكنه يرفض اشغال الاخرين بحالته (معتقل في رأس إمرأة وتحديدا في حجرة عينها) ص5، ويؤكد البطل الراوي ان هذه الحالة لم تحدث أبدا لا في التاريخ ولا في مصنفات الفنون والآداب (ص6)، ويعرّف الحالة المعاكسة إي سكن كائن ما في رأس الانسان باعتبارها مسا، لكن أي مريض هذا الذي يصف حالته ويبحث عن علاجه بكل هذا الصبر عدا المريض النفسي أو الممسوس كما يسميه البطل؟!.

مرض البطل هو محاولة الهروب من الواقع الذي يتمركز في صورة زوجته المنسية والمهملة سرديا، المقموعة بعدم اعلان إسمها ولا السماح لها الا بالتحدث في مواقف مذلة، إبلاغه بوجود امرأة تنتظره خارج المنزل (ص186) فيظهر استسلامها بائسا عكس استسلامه هو لمعشوقته قبس، او حديث زوجته عن (النذر للخضر من أجل نجاحه) ص 186 لتكون الروحانية هنا دليل سذاجة وتخلف عكس روحانية المعشوقة (قبس) التي تعني العمق والسمو، رغم إن البطل الراوي لا يهتم بالروحانيات فعلا إلا من أجل الوصول الى جسد قبس وكل الاوصاف التي يطلع عليها القارئ للنساء هي أوصاف حسية شهوية.

وإذا كان الاختلال في زمن السرد والاحداث الذي أشرت إليه سابقا هو اختلال مقصود فإن القارئ يكون أمام بطل هو مريض نفسي فقد شعوره بالواقع نتيجة فشله في التعامل معه والسيطرة عليه فإنتقم منه بتجاهله كما فعل نصيا مع زوجته لإعلاء ذاته التي لا يجد مبررا لكشف إسمها.

إن نهاية الرواية في مشهد بدء العلاقة الجسدية يشير الى الدافعية الجنسية للراوي في تشييد نصه (الرواية المقترحة كبديل عن رسالة الماجستير) داخل الرواية المكتوبة فعلا، ليطالع القارئ نصين سرديين، الاول هو رواية دفوف رابعة العدوية والثاني هو ما يحكيه الراوي.

رواية "دفوف رابعة" (أفضل اختصارها كقارئ)، هي مرثية للإنسان والمدينة والنظام الاجتماعي وتسعى لتحديد نقطة بدئية لإختلال التوازن وتشوش الوعي وتضارب الاهداف وتناقض المسارات في المجتمع حيث الابطال الحقيقيون، مجهولون بلا أسماء، البطل وزوجته، وهم اما في حالة تشوش ذهني واضطراب يومي أو يلتزمون الصمت. 

***   

ساطع راجي

 

في المثقف اليوم