دراسات وبحوث

الخلل المفاهيمي في لغة النص: - القلب.. الفؤاد.. العقل.. الروح .. مثالاً

في لغة النص هناك ثمة خلل مفهومي نجده واضحاً، وأكثر ما يكون ذلك في التعريفات التي نلتقي بها وفي المفردات التي يغلب عليها الطابع العرفي في الإستعمال، والخلل المقصود: هو في تحميل الألفاظ معاني ليست لها، كقولهم إن القلب هو العقل أو هو مكاناً للعقل!، مع إن العقل في اللسان العربي يدل على – الثبات والإستقرار واليقين – في العادة .

ونفس الخلل نواجهه في لغة المتكلمين في قولهم عن - العقل والروح، ولأن هذه المفردات مثيرة للجدل ومثيرة للفضول، لذلك لا أجد من يحدد طبيعة العقل والروح الواحدة .

إن مقولة: القلب هو العقل أو إنه مركز العقل -، هي مقولة شائعة ومَّردها لبعض نصوص تبدو في ظاهرها كذلك أو هكذا فُهمت، كما في قوله تعالى: - نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين - الشعراء 194، وظاهر النص يبدو فيه وكأن المتلقي الأول للوحي هو القلب، مع إن الوحي يُخاطب في الإنسان روحه فهي المستهدفة، أعني إن أساس العلاقة بين الوحي والإنسان لازمها - الوعي والثبات والإيمان وعدم القلق -، وهذه ليست من صفات القلب والذي: هو عبارة عن تحويل للشيء وتقلبه، أي صرفه من وجه إلى أخر .

والقلب هو مضخة للدم، وسُمي كذلك من التقلب وعدم الثبات والإستقرار، [وصفة التقلب هي صفة سلب]، ولا يجوز إطلاق هذه الصفة على العقل ولا أن تكون لازمة من لوازمه وخواصه، ولهذا وصف الله المنافقين بأنهم متقلبين وغير ثابتين على دين ومبدأ، قال: - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - البقرة:10، وهكذا قال عنهم: - خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - البقرة:7، ولفظ ختم لا يتعلق بالتكوين بل بطبيعة العمل وكيفيته المؤدية للإضطراب وعدم الرؤية الطبيعية، و ذلك يكون مع تعطيل أدوات المعرفة المعتمدة، قال تعالى: - أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ - الحج:44، وهذا تأكيد مضاف على أهمية حصول الإنسان على الإدراك الواعي الثابت المستقر الغير قلق، وأما دلالة قولهم: - قلب عاقل أو قلب يعقل –، فهي دلالة للتثبت من الأشياء وفهمها فهماً دقيقاً، ولا يتم ذلك من دون إستقرار نفسي وروحي، إذ بذلك يتم التدبر والوعي - .

وأما العقل: فهو الإمساك والمنع وذلك بحسب جذره اللغوي، وقد أختلف في صفته بين أسم و فعل، وأصله من عقال الناقة ذلك الحبل الذي يربط به ذراعها .

وقيل: وبه يمكن التمييز بين الحسُن و القبح، وهو جوهر غير مفارق للمادة وبهذا الإعتبار يكون بمعنى الروح، والروح تتشكل من ثنائية الخلق والأمر،قال تعالى: – يسألونك عن الروح، قل: الروح من أمر ربي – الإسراء 85 أي إنها من عالم الأمر الذي هو عالم مادي، مرتبط بالخلق والأمر في الفعل والطبيعة .

وقد ورد تعريفها في - كتابنا إشكالية الخطاب في القراءة التاريخية لوقعة كربلاء، بأنها: - دم القلب -، وبما إن الدم مادة فكذلك تكون الروح مادة، وذلك بإعتبار طبيعتها الموافقة لما ورد في 85 من الإسراء و 54 من الأعراف على بعض تفصيل، والروح في الطبيعة: هي كل فاعل ومتحرك ومؤثر في جسم الكائن الحي، وبذلك تكون كل العمليات التي تحدث هي ضمن عالم الروح، وكل الوسائل في جسم الكائن الحي هي أدوات في خدمة الروح، وهذا الكلام يتعلق بالوظيفة الطبيعية التي تؤديها أدوات الروح في الجسم، والتي تتصل بعلاقة طبيعية مع ما هو محسوس وغير محسوس، من أحلام ورغبات وطموحات وآمال وشهوات:

إن من الواجب رفض قولهم: في تسمية القلب بأسم العقل وبالعكس، لأن هذه التسميات مجازية لا يصح تعميمها في المجال البحثي والعلمي، وذلك لأن القلب والعقل هي أدوات للروح ليس إلاَّ، وقولنا: هذا بإعتبار كون الروح هي الفاعل الأول والرئيسي في حياة الكائن الحي، والتفريق بين الأداة ومن يتحكم بها لازم وواجب، وأما التعبير عن الأفعال والأفكار بأنها عاقلة أو غير عاقلة، فهو تعبير مجازي عرفي ساد بفضل كثرة الإستعمال للفظ، و العقل: من حيث هو وسيلة إدراك مفترضة، جُعلت لتؤدي وظيفة معينة ما في هذا الشأن أو ذاك، يقودنا ذلك الإفتراض لجعل العقل هو المتحكم بعملية الإيمان، وهذا بإعتبار قدرته المفترضة على فهم المعاني [والمقصود بذلك هو قدرة الروح على تحريك أدواتها]، ولهذا نقول: إن الصحيح بمن يتحكم بعملية الإدراك هي الروح، والإشارة للعقل في هذا السياق تأتي من جهة الإعتبار وليس من جهة الإرتباط بالفهم، الذي يحصل عبر التحقيق من خلال جملة الأدوات، وما يُطلق عليه - بالتعقل – هو أسم فعل، صفته تكون في إدراك المعاني: - صفة وعي -، حينما تعمل كل الأدوات بشكل يؤدي الغرض المطلوب، ومادمنا نبحث عن هوية الروح وطبيعتها وماهيتها، وهل هي مادة أو لا ؟ .

نقول: - إن الروح هي الفاعل الذي يُحرك كل شيء في جسم الكائن الحي -، وكل كائن حي هو عاقل بالضرورة، والفصل ممنوع هنا: فكل ما يحصل للكائن الحي يكون بأثر الروح وتأثيرها، وهذا القول: يتعلق بالوظيفة الطبيعية التي تؤديها أدوات الروح لدى الكائن الحي .

ولايذهبن بنا الخيال إلى غير ذلك المعنى، حتى حينما يقول الله لنا في صيغة الفعل - تعقلون أو يعقلون -، فهو يقول الفعل بصيغة الفعل اللازم الذي لا يتعدى المعنى الذي ذهبنا إليه في: إن معنى العقل هو الروح، وكل الأدوات المستخدمة في الحس والشعور والفهم والإدراك - التعقل – هي وسائل لخدمة الروح أو إنها تؤدي الغرض الذي تريده الروح منها،

قال تعالى: - كذلك يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون - البقرة: 242، ولفظة – تعقلون – تدل على التثبت واليقين، والتثبت لازمه إستخدام لوسائل المعرفة الصحيحة لكي نحصل على حالة العقل، إذن فنحن - نعقل الآيات - بإستخدامنا لوسائل المعرفة الصحيحة، وإن من يُحرك هذه الأدوات هي الروح، ولذلك لكي تدرك المعنى وتتعقله -،

قال تعالى: - صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ - البقرة: 171، وهذا النص جاء بأدوات التعقل المحسوسة التي لا تعمل بشكل جيد، مما يؤدي إلى عدم الفهم والإدراك الصحيح، وجملة - فهم لا يعقلون -، جملة سببيه تنسب – عدم التعقل - لتعطل أدوات الفهم عن أداء واجبها .

قال تعالى: - ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ... - الأعراف: 179، والفقه لفظة بمعنى الفهم، وقيل هو العلم بالمُراد، والتفريق بين العلم والفهم لازم من لوازم المعرفة الصحيحة، و الفقه اصطلاحاً: هو العلم بالأحكام الشرعية، المستنبطة من الدليل الشرعي الوحيد وهو - كتاب الله المجيد -، وأما كلمة – لا يفقهون – فتعني - لا يفهمون -، ولكن لماذا لا يفهمون ؟ أو ماهو الشيء الذي لا يفهمونه ؟، وقد علل - عدم الفهم - بقوله: لأن قلوبهم قلقة وغير مستقرة، وأما الشيء الذي لا يفهمونه فهو الحق وآياته، وهذا بسبب قلقهم وعدم ثباتهم لذلك فهم لا يستطيعون الفهم – الفقه - بشكل صحيح، وصفة التقلب وعدم الإستقرار في المطلق لا تساعد على الفهم والتعقل، وهذا الوصف ظاهره مجازي ولكنه حقيقي، والمجاز فيه هو تقريب المعنى للذهن من خلال الأدوات المعروفة، وقد أكثر الكتاب المجيد من هذا الوصف، وفي التقابل المنطقي يكون: - الثبات والإستقرار - سبب على العلم والفهم والإدراك ودليل عليه .

وأما الفؤاد: فهو من: - فد بمعنى فائدة - وأما معنى أفئدة فهو فوائد، قال تعالى: - ما نثبت به فؤادك - هود 120، أي إن الذي نوحيه إليك - فائدته - تعطيك الثبات واليقين، وهذا رد منا على ما ذهب إليه أبن منظور بقوله: إن القَلْبَ أَخَصُّ من الفؤَاد في الاستعمال، لأنه في ذلك يكون قد حسب الفؤاد جهازاً أو اداةً من الأدوات والأجهزة وهذا ليس صحيحاً، بل الفؤاد هو الشيء المجرد الذي نحصل عليه من خلال أفعالنا أو هو نتيجة فعل نحسه ونشعر به .

قال تعالى: - ولتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بالْآخِرَةِ - الأنعام 113، ولو حذفنا لفظ – أفئدة – من النص يكون عندنا قوله: - ولتصغي إليه الذين لا يؤمنون بالآخرة - أي إن الذين لا يؤمنون بالآخرة لو أنتبهوا إليه وأصغوا - وهذه إستعارة مجازية – قال: لحصلوا على فوائد كثيرة، إذ إنه بالإصغاء - يحصلون على فوائد كثيرة -، ويكون لفظ – أفئدة – بمعنى [فوائد] في صيغة الجمع، وكأن الإشارة تذهب إلى القول إن من لا يؤمن بالآخرة لا يحصل على فائدة من عمله، ونفس الشيء نقوله في النص التالي قوله: - وكلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بهِ فُؤَادَكَ - ١٢٠ هود -

أي إن الذي نقصه عليك من أنباء الرسل هو بمثابة اليقين الذي تحصل عليه، وحصول اليقين هو - الفائدة - المرجوة من بعثة الرسل والرسالات، وفي نفس السياق يكون عليه الحال في قوله تعالى: - فاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم، وارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ - ٣٧ ابراهيم، هذه دعوة لتحريك الناس بإتجاه الرسل، وبإتجاه المكان الذي يكون أمناً وجمعاً للناس، وفي ذلك تكون - الفائدة - من هذا التجمع وهذا اللقاء في هذا المقام،

وقال تعالى: - كذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا - ٣٢ الفرقان -، والكلام هنا عن الكتاب المجيد الذي به تحصل - الفائدة - للمرء من خلال الثبات واليقين ودفع القلق والإضطراب، والترتيل لغة: هو الترتيب أو هو الصف بنسق دقيق، وفي هذا الترتيب يتم البناء والقوة، والكلام فيه عن موضوعاته المُرتبة بشكل يتحصل منها الفائدة والثقة واليقين .

وخلاصة الكلام فيما تقدم نقول: إن ما يُطلق عليه في لسان العرف - بالعقل - هو التعبير الدقيق عن معنى الروح، والتي هي المحرك والفاعل الرئيسي، وإن كل الأدوات في جسم الكائن الحي إنما تتحرك بفعل منها أو بسببها ولأجلها، ولا يختلف الأمر بين مفهومنا عن التفكير وبين مفهومنا للغريزة والشهوة، فكل ذلك يكون بفعل الروح، وليس بفعل القلب أو العقل، لأن هذه أدوات أو عناصر فعل في خدمتها، والروح: هي النفخة التي تهب للحياة معناها و بدونها لا يكون لها معنى، وأما العقل: فهو توصيف لحال وطبيعة الفعل وليس هو جوهر مستقل بذاته كما يظن بعض الفلاسفة، أعني أن ليس هناك ثمة شيء أسمه - عقل مستقل -، وما يُقال عنه في هذا الصدد، فهو يعني - الروح - التي هي الجوهر المادي المستقل والفاعل والذي يحرك كل شيء، أعني كل كائن حي، وأما دعوى إن الإنسان هو فقط من له عقل، فهذه دعوى عقيمة إذ إن جميع الحيوانات لها ذلك، والعقل ليس جهة إختصاص بقدر مايكون جهة وصف وتوصيف للفعل، وفي ذلك يشترك الجميع بذلك، وحسب الغايات والمصالح التي تكبر تارةً وتقل أخرى، ولا ينصرف الكلام عن الحيوان هاهنا، فالشهوة والغريزة كما الخوف وغيره من الصفات هي صفات للروح، ولهذا أقول إن الذي يحرك الكائن الحي هو الروح، والتي يطلق عليها تجوزاً - بالعقل - كما هو القلب والفؤاد والسمع والبصر وكل الجوارح، والتي هي وسائل في خدمة الروح وعملها، والخلل في النهاية خلل مفاهيمي غطت عليه إستعمالات العرب العرفية، فكان الخلط وكان الترادف وكان للفظ أكثر من معنى، وفيه ضاعت الحقيقة واندثرت ...

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

 

في المثقف اليوم