دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (13): إعجاز القرآن المحمدي- منطق البيان التاريخي الثقافي

mutham aljanabi2إن تحول "الكتاب" إلى "حق" يعني تمثل فكرة المقدس، أي الفكرة المجردة عن الاتهام بالزور والتزوير. وبلوغها مرتبط هو الآخر بمعاناة مماثلة لما أسميته بمراحل التحدي الكبرى للبصر والبصيرة من اجل الانتقال من الحلم إلى اليقظة، ومن الخيال المربض إلى الوحي الصادق. بمعنى بلوغ مرحلة الانتقال من الأسطورة إلى الحقيقة. فقد كانت المراحل الأولى الصيغة النفسية والفردية للمعاناة الظاهرة والباطنة التي واجهها محمد في خروجه على مألوف العرب. أما الانتقال من الأسطورة إلى الحقيقة فقد كان يتمثل "علوم الأوائل"، أي تاريخ الصراع المسبوك بالرؤية التوحيدية الجديدة. فقد كانت اتهاماتهم واضحة وجلية ومألوفة يقوم فحواها في أن كل ما يأتي به محمد ويقوله مجرد {أساطير الأولين اكتتبها. فهي تملى عليه بكرة وأصيلا}[1]. وقد صور القرآن هذه الحالة بعبارة {إذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين}[2]. وإذا أراد الرد عليهم بأمثال من التاريخ السالف، فإنهم كانوا يقولون له {إن هذا إلا أساطير الأولين}[3]. بل اندفعوا صوب النهاية الملازمة لهذه المواقف عندما قالوا له {لو نشاء لقلنا مثل الذي تقوله}.

لقد اجبر النبي محمد العرب الوثنية على التفكير و"الإبداع" بالشكل الذي يخرجهم عن مألوف ما تعودوه من صيغ الكتابة والتفكير. وشأن كل إجبار "متسام" اتخذ في بادئ الأمر صيغة الإمكان أو الاحتمال المعقول. وحالما تصبح الإمكانية واقعا مقبولا في التأمل والتفكر حينذاك يصبح الخروج على المألوف جزءا من العقل والإيمان. من هنا يمكن اعتبار استعدادهم على أن "يقولوا مثل ما يقوله" إقرارا ضمنيا بإمكانية وقبول الارتقاء عن تقليد الأسلاف، أي انه أجبرهم على الخروج من قيود العادة وأوهامها. وليس مصادفة أن يتوصل الفكر الإسلامي لاحقا للقول، بأن المعجزة هي "خرق العادة"، بمعنى الخروج عن المألوف. بمعنى الإبقاء على إمكانيتها بوصفها إبداعا ممكنا. بعبارة أخرى، ليست "المعجزة" ما هو مستحيل بالطبع، بل ما هو خارق للمألوف. وقد تمتعت هذه الفكرة بقدر هائل من الاستعداد للتغير والتجسد والبرهنة والتحقيق في مختلف الميادين. لكن الميدان الأكبر والأكثر جوهرية بالنسبة لمحمد كان يقوم في استبدال "الجاهلية" بالإسلام، والبرهنة على انه أمر ممكن بما في ذلك تحقيقه في مشروع كوني جديد.

أدت فكرة الإعجاز إلى تثبيت فكرة القرآن الجامع والشامل بوصفه "معجزة". وهي "معجزة" حقيقية في سلسلة الإبداع والحق والبدائل الكبرى. وإذا كان نموذجها المصغر يقوم في فكرة إعجاز القرآن، فإن نموذجها الثقافي الأكبر يقوم في تحول القرآن إلى "كتاب" حقق منطق المعاناة الظاهرة والباطنة لمحمد وأسلوبه في التعامل مع كل المبادئ العامة للوجود المادي والروحي للإنسان. إذ أن مجرد رفع القرآن إلى مصاف المعجزة الذاتية للإسلام يعني الإقرار بالقيمة الخارقة "للكتابة" و"القراءة"، بوصفها المقدمة الضرورية لكل إبداع ثقافي. فعندما يجري رفع القراءة إلى مصاف الوحي، والوحي إلى مصاف "القرآن"، والقرآن إلى مصاف "الكتاب"، فإن ذلك يعني من الناحية الروحية حدوث انقلاب هائل في تاريخ الثقافة. وذلك لما فيه من تحويل الكتاب والقراءة إلى عناصر جوهرية لمكونات الإيمان اليومي والأبدي، وبالتالي رفع شأنهما في حياة الفرد والجماعة، واللسان والبيان، والعلم والعمل. وقد بلغت هذه الذروة أوجها في تطابق الوحي والقرآن والكتاب في "معجزة" لا تتعدى كونها "كتابا"، أي روحا ومنطقا.

فقد كانت حقيقة الإعجاز الأولى للقرآن تقوم في نقل الروح والجسد العربيين من غريزة الجاهلية إلى عقل الثقافة. ويمكن رؤية الصيغة الفردية والشخصية الأولى لهذه الحقيقة في كيفية ونوعية الانتقال التاريخي والرمزي لمحمد من حالة الجهل بالله إلى الإسلام له. حيث واجه هذا الانتقال للمرة الأولى في غار البحث عن جواب كان يقلق عقله. وقد كان الجواب بسيطا للغاية، ألا وهو تعلم القراءة لا غير. كما كان في صدمته الأولى اقرب إلى مواجهة ذاته المتسامية بهيئة تحد لقراءة ما لا يعرفه. وهو الدرس الذي نواجهه للمرة الأولى أمام من ينطق لنا الحروف ويعلمنا قراءتها، باعتباره الأسلوب الذي يثير الهلع فينا مع أن مهمته تذليل الخوف من الجهل.

وسوف ترفع الثقافة الإسلامية هذه الفكرة إلى مصاف الحكمة عندما وضعتها في عبارة "الناس أعداء ما جهلوا". وقد وضع النبي محمد أسس هذه الحكمة في مجرى مواجهته جهل العرب الوثنيين، بحيث انزل نموذج ذهنيتهم إلى مستوى "الجاهلية"، ومن خلاله حاول إجبار العرب الوثنيين على تعلم قراءة "الآفاق والأنفس" بطريقة جديدة من خلال عبور غريزة الجسد الجاهلي إلى عقل الروح الإسلامي. ولم تكن محاولته هذه أسهل من غيرها. فقد صبت في نفس تيار تكامله الذاتي، أي في نفس تيار معاناته الكبرى. ومرت شأن كل معاناة كبرى في نفس دهاليز المواجهة المتنوعة من التمني والرغبة والعمل والتحدي والتصدي والإرهاق والانزعاج والتقهقر والشعور بالهزيمة والاقتراب من اليأس والقنوط. فإذا كانت مواجهته الأولى تقوم في نموذج {أفغير الله تأمروني أن اعبد أيها الجاهلون}[4]، فإنها تعرضت في مجرى اعتراضهم المتكرر والعنيد إلى حالة جعلته أحيانا يبحث عن نفق في الأرض ينزل إلى أعماقه عسى أن يحصل بأثره على ما يمكنّه إقناعهم، أو أن ينطلق إلى السماء من اجل أن يأتيهم بحجة تنهي شكوكهم. وهو تمنيات وأفعال اقرب ما تكون إلى غريزة النفس الجاهلية التي حاربها. من هنا صدمتها إياه حالما بلغ التحدي ذروته كما في قوله {وإن كبر عليك إعراضهم، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلمّا في السماء فتأتيهم بآية. ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}[5]. ويشير هذا الانتقاد إلى حالة الجزع المميزة للغريزة الجاهلية من جهة، وإلى تجاوزها المادي والمعنوي من جهة أخرى. وسوف تتجسد هذه الحالة بصورة نموذجية في أكثر الأحداث درامية، كما نراها في الآية القائلة:{إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، حمية الجاهلية، فانزل الله سكينة على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى}[6]. إننا نعثر في هذه الآية على وداع رمزي للجاهلية، يتضمن في الوقت نفسه نفيها الشامل، من خلال نفي حمية الدماء بسكينة الروح، والجاهلية بالتقوى. كما نعثر فيها أيضا على تمثل فعلي سوف يظهر لاحقا في تحويل الجاهلية إلى مرحلة ضرورية بالنسبة للوعي الديني والتاريخي والثقافي، عندما أدرجتها الثقافة الإسلامية في فلك الإيمان والعقل والمعرفة والتاريخ، أي عندما حولتها إلى معيار الإدراك اللغوي الدقيق والحقيقي لمعان القرآن، وجعلت من نتاجها الأدبي نموذجا "كلاسيكيا" للمقارنة والاقتداء، بحيث جعلت من فضائلها الكبرى فضائل الإسلام نفسه. ولم يكن بإمكان هذا التحول أن يحدث إلا بعد تذليل الجاهلية بوصفها نموذجا وأسلوبا في التربية والفكر والسلوك والنفسية والقيم.

 وقد فسح هذا التذليل المجال أمام العقل وإمكانياته غير المحدودة من تأويل وتبرير وتأسيس وتأريخ سوف تظهر ملامحه اللاحقة مع أول انتقال فعلي إلى عالم الدولة والثقافة السياسية. لكن بدايته تلازمت مع انتصار الإسلام، الذي رفع فكرة الخلاف والمعرفة والعلم إلى مستوى جديد لا علاقة له بالنماذج الضيقة المميزة لما ندعوه بالجاهلية. وهو تلازم ارتبط أساسا بتذليل مثلث الأضلاع الكبرى للجاهلية في كل من الهوى والجهل والظن. من هنا تلازم معارضة الهوى بفكرة الوحي، كما حصلت على أشكالها المتنوعة في التدليل على أن محمد لا ينطق عن الهوى، وانه وحي يوحى. وإنهم لا يستجيبون لأنهم {يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى}[7]. ومعارضة الجهل بالعلم، كما حصلت على أشكالها المتنوعة في مواقف عدة مثل القول بأن الله يرفع {الذين آمنوا منكم درجات والذين أوتوا العلم درجات}، وانه لا {يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. بل نراه يرفع مستوى تدليل وشهادة العلماء إلى مستوى الدراية الإلهية كما في قوله {شهد الله وأولوا العلم}، انطلاقا أو استنادا إلى أن أكثر من {يخشى الله من عباده العلماء}. وأخيرا معارضة الظن بفكرة اليقين الصادق، كما حصلت على أشكالها المتنوعة في مواقف عدة مثل قوله {إن تتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس}، وأنه {ما لهم من علم إن يتبعون إلا الظن}، وأن أكثرهم ما يتبع إلا ظنا، بينما {الظن لا يغني عن الحق شيئا}[8]. بل أن حصيلة مواقفهم من الحياة والموت، مثل قولهم {إن هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} هي مجرد ظنون لا أساس لها، أو كما يقول القرآن {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون}[9].

لقد أدت الحصيلة المتراكمة في معارضة الهوى بالوحي، والجهل بالعلم، والظن باليقين الصادق إلى تأسيس مبادئ علمية وعملية كبرى لعل أهمها هو انه ليس كل علم يؤدي إلى معرفة، وأن العلم الذي يؤدي إلى معرفة هو الذي يصنع يقينا، وأن المقصود باليقين هنا هو اليقين الصادق، أي عين اليقين. وشكلت هذه المبادئ أساس المنهج النظري والعملي لحقيقة المعرفة والإيمان، كما نعثر عليها لاحقا في مفاهيم ومبادئ كبرى مثل طلب العلم فريضة، وفكرة طلب العلم كما هو، وما ترتب عليه من مبادئ وقيم عملية عديدة كانت تتمثل الأفكار القرآنية العامة مثل الدعوة الدائمة للتأمل والتفكر والتعقل والتبصر في الأمور وعواقبها، والدعوة للحكمة والموعظة الحسنة، والجدل بأفضل الطرق وأحسنها. وحصلت هذه المبادئ والقيم على استمرارها العملي والجزئي والمتسامي أيضا في الأحاديث الصحيحة والموضوعة مثل (العلماء ورثة الأنبياء)، و(يستغفر للعالم ما في السماوات والأرض)، و(الحكمة تزيد الشريف شرفا وترفع الملوك)، و(اقرب الناس من النبوة أهل العلم والجهاد)، و(لموت قبيلة أيسر من موت عالم)، و(يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء)، و(يشفع يوم القيامة ثلاثة:الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء)، و(ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين)، و(خير دينكم أيسره، وخير العبادة الفقه)، و(فضل المؤمن العالم على المؤمن العامي بسبعين درجة) وغيرها.

أما الحصيلة الفكرية والثقافية لكل ذلك فقد كانت تصب في تأسيس مرجعية المعرفة والعلم وضرورتها بالنسبة لإيجاد النسبة المعقولة والمقبولة للثابت والعابر، والمطلق والنسبي في كل شيء، إضافة إلى ربط التفكر والتعقل والتأمل بمنظومة فكرية شاملة. أما من الناحية التاريخية فقد كان ذلك يعني تأسيس شروط تكامل المعرفة في الإنسان ورفعه إلى مصاف القوة الذاتية المفكرة، كما ستتجسد لاحقا في فكرة "علوم الدين" و"علماء الدين" و"الفقهاء"، أي العارفين وليس "رجال دين". ولم يكن مقصود الثقافة بالعارفين سوى المثقفين وليس الأجراء والمرتزقة منهم في ميدان العمل النظري والعلمي.

وقبل أن تصل الثقافة الإسلامية إلى واقع التمايز الجدي والفعال بين رجل العلم ورجل الدولة وقيمته بالنسبة للإبداع الحر والمتنوع، كان ينبغي لها أن تخوض غمار الإشكاليات الصعبة والمرهقة في ميدان بناء الدولة والسلطة والعقائد والعقل والنظم الفكرية.

***

 

ميثم الجنابي

......................

[1] القرآن: سورة الفرقان، الآية 5.

[2] القرآن: سورة النحل، الآية 24.

[3] القرآن: سورة الأنفال، الآية .31

[4] القرآن: سورة الزمر، الآية 64.

[5] القرآن: سورة الأنعام، الآية 35.

[6] القرآن: سورة الفتح، الآية 26.

[7] القرآن: سورة القصص، الآية 50.

[8] القرآن: سورة يونس، الآية 36.

[9] القرآن: سورة الجاثية، الآية 24.

 

في المثقف اليوم