دراسات وبحوث

حديث الولاية

مجدي ابراهيمالولاية في الأصل لله: "الله وليُّ الذين آمنوا".. "وهو يتولى الصالحين" .

الولاية لله تعالى، ولا ولاية لإنسان من نفسه أو لنفسه، الولاية شأنٌ إلهيّ موهوبٌ غير مكسوب، وهو في ذات اللحظة مشروط بالذين آمنوا. أمّا الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله فأولياؤهم الشيطان. الله وليُّ الذين آمنوا يواليهم بلطفه وعنايته ويرعاهم بكلائته ويرقّيهم دوماً بمراقي الإحسان. إذا كان الشيطان يُوَالي الذين كفروا، فالله عز وجل وليُّ الصالحين أعداء الشيطان، وأعداء النفس والهوى والدنيا، وأعداء القبح في كل صفاته المتجلية دوماً مع تجدِّد كل زمان.

الصالحون أولياء الله؛ لأن الله يتولاّهم، يعادوا من عاداه الله ويوالوا من والاه الله، وأظهر عدوّ للّه هو الباطل، وأقربُ وليُّ له هو الحق؛ واسمه سبحانه وتعالى الحق.

من صفات الولي : ألّا تأخذه في الله لومة لائم، فيكون بالحق ناطقاً، وبحق الله قائماً، فإنْ نَطَقَ نَطَقَ بالله، وأنْ سَكَتَ سَكَتَ بالله، وهو يحتمل الأذى بطيب نفس من كلِّ الخلق، أي يحتمل الرذالة وقلة الأدب من سفهاء الآدميين، لعلمه أن ما يجريه الهوى على ألسنتهم لا يجب الوقوف عنده، وأن مصيره إلى زوال إلاّ إنه على الدوام يصدع بالحق، فلن يكون للباطل إليه من سبيل.

للأولياء أسرارٌ التوحيد بالتعريف من حيث الإلهام والخواطر، ولكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا، وإنهم لا يحملون رسالة كالأنبياء إلى الخلق. ومعنى الولي؛ كما بَيّن القشيري في الرسالة، هو الذي يتولّى الحق سبحانه رعايته، أي يتولّى الحق سبحانه ولايته؛ وهو يتولّى الصالحين.

هذا معنى أوَّل؛ حتى إذا ما كان المعنى الأول من جهة الحق، فالمعنى الثاني من جهة الخلق؛ أي من جهة الإنسان المخلوق كونه وليَّاً لله.

من ذلك المعنى الثاني يتبيَّن أن الولي هو الذي يتولى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخلّلها عصيان، ولا يكون الولي وليّاً إلا بوجوب قيامه بحقوق الله تعالى على الاستقصاء والاستيفاء والمتابعة، ودوام حفظ الله تعالى إيّاه في السّراء والضرّاء. ومعنى إن عبادته تتوالى من غير أن يتخللها عصيان، إنه لا يصرُّ على صغيرة، وأنه ليتدارك ذنبه من فوره بالتوبة والإنابة، فما يتخلّل العبادة من عصيان هو في حد ذاته طاعة وعبادة إذا نُظر إليه من هذا الجانب؛ والولي من تَوَالت أفعاله على الموافقة.

شرط القشيري أن يكون الولي محفوظاً، تماماً كما أن من شرط النبيّ أن يكون معصوماً، فكلُّ من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرورٌ مخدوع. وكما أن الولي تابع للنبي، وأنه - صلوات الله عليه - له المعجزة؛ فإن للولي الكرامة، وكلتاهما (المعجزة والكرامة) تتمُّ بمشيئة الله وفضله. ويرى القشيري أن الكرامة في الأصل دلالة على صدق النبي الذي يتبعه الولي، ولهذا يقول في لطائف الإشارات :       "وكرامات الأولياء مُلحَقة بمعجزات الأنبياء".كيف يكون هذا؟

بالطبع، هذا أجدر بأن يكون كذلك وأولى؛ لأن صدق كرامة الولي تتأكد بمعجزة النَّبي لا من حيث هو نبيّ، ولكن من جهة إتباع الولي له، تأمل قوله تعالى في سورة غافر : " يُلقي الرُّوحَ من أمره على من يَشَاء"؛ تجد هذه الروح هى روح الرسالة، وروح النبوة، وروح الولاية، وروح المعرفة؛ فالأولياء أعلى درجة من العارفين، أو هم صفوتهم، ولكنهم مع ذلك هم أدْنَى درجة من الأنبياء.

فإذا ظهرت عليهم كرامات لا يتعلّقوا بها، ولا يطلبوها مطلقاً، ومن هذه الجهة هم أصدق مع الله؛ لأنهم أصدق مع رسالة النبي المتبوع :" قُل إنْ كنتم تحبُّونَ الله فاتّبعوني يُحْبِبْكُم الله".

وكلُّ ما ينقل عن الأولياء ويُسارع البعض إلى تكذيبه إمّا أن يكون :

(١) رمزاً يُحتاج إلى فكّه بعد فهمه في إطار فقه التجربة الصوفيّة.

(٢) أو مبالغة عن الكبار من صغار المريدين.

(٣) أو محض اختلاق من الأتباع لتقويه الهمم الضعيفة، وإن جاء في ثوب خيال.

خذ مثلاً الروايات التي سِيقت في رسالة القشيري عن البسطامي من أنه قيل له : ما أشدّ ما لقيت في سبيل الله؟ فقال : لا يُمكن وصفه، فقيل له : ما أهون ما لقيَت نفسك منك؟

قال : دعوتها إلى شئ فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة!

لك أن تتصور إنه منع نفسه من الماء سنة، ولا يزال يعيش بشحمه ولحمه بين أحياء!

وهنا لفتة تقتضي وقفة، ربما تكون مدخلاً للطعن في نظام السلوك الصوفي من حيث إنه يُخالف التشريع فيبدو في الظاهر ضد نصوص الحديث الصريحة. هذه اللفتة من الأهميّة بمكان للتَّفرقة الفارقة بين أمرين : الغُلوِّ من جهة، ثم طلب الكمال في العبادة من جهة ثانية.

نصوص الحديث قاطعة برفض الغلوّ :" لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشَدّدُ عليكم؛ فإنَّ قوماً شدَّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم؛ فتلك بقاياهم في الصوامع والدّيار، ثم تلا صلوات الله عليه :" ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم ".

وقال عليه السلام :" إيَّاكم والغلوُّ فإنّما هَلَكَ من كان قبلكم بالغلوِّ في الدّين" .

وقال :"هَلَكَ المُتَنَطّعون"؛ قالها ثلاثاً.

والمتنطعون هم : المُغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.

وإنّه؛ عليه السلام، دخل يوماً فوجد حبلاً ممدوداً في حجرة بين الساريتين فقال : ما هذا الحبل؟ قالوا : حبلُ لزينب فإذا فترت تعلقت به، فقال : لا .. حلُّوه ! ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد".

هذا الغلوُّ الذي نَهَي عنه رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - له مخاطره التي تخرج بمن يسلكه عن حدود الشرع ومقاصده السّمحة وتدخله في الحظيرة الخطرة : حظيرة الخروج عن الملة بمخالفة النصوص الشرعيّة والافضاء إلى غير المقصود من مقاصد العبادات والطاعات ممّا يشي بالتنفير منها، وورود صاحيها موارد التهلكة.

فالغلوُّ بالطاعة يُهدر حق ذوي الحقوق من مقاصد الشريعة. ومقاصد الشريعة كما نعلم مصالح قصديّة في خمسة؛ مصلحة الدّين، ومصلحة الحياة، ومصلحة العقل، ومصلحة النّسل، ومصلحة المال، تتأتى كلها في إطار فهم الضروريّات فالحاجيات فالتّحسينات، فحيثما تكون المصلحة فثمّ شرعُ الله.

والغلو بالمشقة على النفس في النوافل والزيادات في العبادات، وتكليف النفس فوق طاقتها، وتحمّلها ما لا تحتمل يؤدي إلى الفتور في العبادة ويحرم صاحبه شفاعة الحيبب صلوات الله عليه.

وفي الحديث :" صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي : سلطان غاشم ظالم، وغالي في الدّين يشهدُ عليهم ويبرأ منهم".

في المقابل قد يلتبس على بعض الناس أن في ذمِّ الغلو طريقاً إلى ترسيخ التكاسل في الطاعات خشية ارتكاب الغلو. وفي الحق أن هذا كله شيءُ وطلب الكمال في العبادة شيء آخر؛ فالغلوّ مرفوض بكل الوجوه، ولكن طلب الأكمل في العبادة مطلوب بكل الوجوه؛ فالشواهد تقول إنّ كل متنطع في الدين ينقطع ويفتر ولا يتمُّ طريقه، وليس المُراد منع طلب الأكمل في العبادة؛ لأنه أمرُ محمود بكل حال بل المراد منع الإفراط المؤدي إلى الملال والشعور بالفتور أو المبالغة في التّطوّع والزيادة ممَّا شأنه أن يُفضي إلى ترك الأفضل؛ كمن بات يُصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الفجر في الجماعة فأخرج الفرض عن وقته. يحرص الصوفية لا على الغلوُّ كونه مرفوضاً من النَّص الشرعي، ولكن على طلب الأكمل في العبادة؛ لأن الأساس الشرعي عُدَّة ظاهرة في سلوكهم ليس يفت فيه مقصد من مقاصد الشريعة.

نعود بعد هذه الوقفة إلى ما كنا بصدده :

فمن الرموز حادثة إبراهيم الخواص وتيهه في البادية، إذْ كثيراً ما يتحدّث الصوفيّة عن " التّيه" أو "تيه بني إسرائيل"، ويقصدون بذلك مرحلة ما قبل السلوك. وليس من شك في إن "الخواص" لم يقصد بالطريق : الجوع والعطش والهداية، تلك المعاني المقصودة عند العامة، ولكنه قصد منها الرمز رأساً، وهو أمر يقصده المتصوفة في خطاباتهم دوماً لأنه يسقط عنها الفهم العارض ليحيله إلى العمق.

وفي الرسالة قصةُ تؤيد هذا التأويل الذي ذهبنا إليه، يروي "الخواص" ذاته إنه عطش في بعض أسفاره حتى سقط من العطش ثم يضيف " .... فإذا أنا بماء رُشّ على وجهي ففتحت عيني فإذا أنا برجل حسن الوجه راكب دابة شهباء فسقاني الماء وقال : كن رديفي".

بأمثال هذه الواقعات يكون تأويل عبارات الصوفية في إطار تجاربهم الشهوديّة، فإن البديل للتجربة الصوفيّة هو القياس النظري، ولكن هل يصلح القياس النظري في الطريق؟

الإجابة بالقطع .. لا . إمّا أن يكون خبراً من الشهود والمعاينة بصور المقامات والأحوال، يعني خبر من تجربة مباشرة وشهود محقق بالفعل.

وإمّا أن يكون صاحب قياس في الطريق.

وطريق الله (كما يقول ابن عربي) لا يُدرك بالقياس فإنه تعالى " كل يوم هو في شأن "، وأن كل نفس في استعداد.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم