دراسات وبحوث

سفيان الثوري.. مثقف الاجتهاد الحر والالتزام العملي (4)

ميثم الجنابيحقيقة المعرفة وغايتها: تحتل ماهية المعرفة وحقيقتها في شخصية سفيان الثوري وافكاره النظرية والعملية أهمية كبرى. ولا غرابة في الأمر، إذ أن المعرفة الحقيقة هي معرفة الحق، ومعرفة الحق هي الزام والتزام لا حدود لهما في الظاهر والباطن، والعقل والوجدان، والهواجس والحدس، باختصار في كل مسام الوجود والوجد والإدراك. وتتمظهر في سلوك الشخصية الفكرية الكبرى وسلوكها الفردي اشكال ومستويات مختلفة بالارتباط مع ادراكه للأولويات وأهميتها في تراتب المواقف والمعنى التاريخي.

وقد احتل الحديث (النبوي) المرتبة الأولى بالنسبة للمعنى (العلمي) والمواقف الشخصية. فقد كان الحديث الصيغة العملية للقرآن ونموذج العمل الحياتي للنبي محمد. وليس مصادفة أن يتحوّل في مجرى التطور الثقافي للخلافة إلى أحد المصادر الجوهرية لوعي الذات العلمي والعملي، وبالتالي أحد أصول الإسلام، أي أحد أصول الأنا الثقافية ومرآتها العملية. والمقصود بذلك في آراء سفيان الثوري هو الحديث الصادق. من هنا تشديده على قيمة الاسناد واهميته بالنسبة لتحديد الصادق من الكاذب لما له من اثر جوهري بالنسبة للموقف من القضايا التي يواجها ومعالم روحه الباطن. وقال بهذا الصدد "الإسناد سلاح المؤمن. فمن لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟!". وأن يقول بهذا الصدد أيضا "تعلموا الآثار. فمن قال برأيه فقل رأي مثل رأيك". ولم يقصد هو بذلك سوى إن المعرفة الحقة والصادقة تفترض استنادها إلى آثار من سبقنا. وهي الصيغة التي تستجيب لحقيقة المعرفة العلمية بوصفها تراكما لتجارب الاسلاف وتجديدا لها استنادا إلى المعرفة الدقيقة والنقد الايجابي. من هنا تحديد قيمته العالية ومهمته الرفيعة بالنسبة للمعرفة والسلوك على السواء، أو قيمته كأسلوب ومنهج للمسلم. بحيث نراه يرفع مهمته إلى مستوى الصيغة الموازية لمهمة الملائكة في سماء العقيدة الدينية، كما في قوله "الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض". بل نراه يتعدى هذه الرؤية الى الحالة التي يتحول فيها الحديث إلى صوت الصدق الكامن فيه. من قوله "لو هم رجل أن يكذب في الحديث وهو في جوف بيته لأظهر الله عليه". وهذا بدوره ليس الا الرؤية القائمة على اساس أن الحديث الصادق يكشف عن صدق المرء نفسه، وبالتالي فإن الكذب فيه هو فضيحة للمرء، انطلاقا من أن الصدق لا يقبل الكذب وكلاهما ينتميان الى عوالم مختلفة تجعل كل ما في الانسان مختلف على قدر ما فيه موقفه من صدق او كذب. وهذا بدوره يرتبط بالقيمة الذاتية للحديث نفسه حالما يكن صادقا بذاته ولأجل قضية وحلول صادقة. من هنا قوله عن الحديث: "ما يَعْدِله شيء لمن أراد به الله". لهذا اجاب على سؤال

- إلى متى تطلب الحديث؟!

- وأي خير أنا فيه خير من الحديث فأصير اليه؟ ان الحديث خير علوم الدنيا!

ولم يقل خير علوم الدين. بمعنى إن مهمته هي جزء من الخير، والخير جزء منه حالما يكون مرتبطا بالرؤية الصادقة والهادفة إلى ما يناسبها من مواقف. من هنا قوله "ما عملٌ أفضل من الحديث إذا صحَّت النية". لهذا طالب الآباء بأن يجبروا أولادهم على تعلم الحديث. وذلك لأنه "ليس شيء أنفع للناس من الحديث" كما يقول سفيان الثوري. لهذا كان يختتم درسه لمن اراد معرفة الحديث بعبارة: "ذا خير لك من ولاية عسقلان وصور". لكنه وجد فيه في الوقت نفسه "قوة خطرة" يمكنها ان تحرق المرء أو تقيه منها. وضمن هذا السياق يمكن فهم العبارة التي قالها: "ما اخاف على شيء أن يدلني النار الا الحديث". من هنا قوله الختم بهذا الصدد: "ركعتان اصليهما أرجى عندي من الحديث".

لم يكن مقصود سفيان الثوري عن تفضيل ركعتين من الصلاة على الحديث، سوى البحث عن اليقين. فالحديث وإشكالاته التاريخية والفكرية والسياسية والمذهبية جعلته كما يقال في مهب الريح العاتية للفرق وخلافاتها، والقوى المتصارعة وأهوائها ومصالحها. بينما مهمة الحديث الجوهرية تقوم في الحديث مع النفس، أي تربيتها بمعايير الحق. لهذا نسمعه يقول "كان الرجل إذا أراد كتابة الحديث، تأدب وعبد قبل ذلك عشرين سنة". فالحديث بالنسبة لسفيان الثوري علم. وللعلم، أيا كان، أصوله وقواعده وآدابه. وقد وضع سفيان الثوري هذه الأصول والقواعد والآداب في موقفه من العلم والمعرفة. وانطلق بذلك من فكرة عامة أقرب ما تكون إلى نصيحة منهجية وضعها بعبارة تقول: "زينوا العلم بأنفسكم لا تزينوا بالعلم". بمعنى أولوية الأنا العالمة والعاملة بقواعد العلم وآدابه. وذلك لأن العلم، كما يقول سفيان الثوري، "إنما يطلب ليتقي الله به. فلولا ذلك لكان كسائر الاشياء". وليس الله هنا سوى الحق. الأمر الذي يحدد الأبعاد الأصلية للعلم بوصفه أسلوب التربية العميقة لما اسماه الثوري بالخشية لله. ووضع ذلك في عبارة تقول: "ليس طلب العلم من فلان عن فلان، بل إنما طلب العلم الخشية لله". وفيها نعثر على ما قاله ابو يزيد البسطامي عن طلب الحقيقة من الحي الذي لا يموت عندما كان يسأل "من قال ذلك" فيقولون له "فلان" عن "فلان" عن "فلان" وما الى ذلك. عندها قال كلمته الشهيرة "انتم تأخذون علمكم من ميت عن ميت، بينما نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت". وليس المقصود بذلك سوى جوهرية التجربة الفردية ومذاق معاناتها في البحث عن مصدر الحق والحقيقة. وقد سبق لسفيان الثوري وإن وضع هذ الفكرة ضمن سياق وتقاليد الفقه والحديث والعلوم الإسلامية الأخرى. فقد شدد على ما يمكن دعوته بالمعاناة الشخصية الحرة في البحث عن الحقيقة. اذ لا تعني الخشية هنا سوى القانون الأخلاقي الصارم للنفس أمام النفس، بوصفه منطقا باطنيا وحدسيا للحق والحقيقة، والحق المطلق بوصفه فكرة ومبدأ ومنهجا للرؤية والعمل. لهذا اعتبر انه "لا عمل أفضل بعد الفرائض من طلب العلم". من هنا قوله "لانزال نتعلم العلم ما وجد من يعلمنا". وأن يطالب الاخرين بالتعلم والاستزادة الدائمة من العلم كما في قوله: "تعلموا هذا العلم، واكظموا، وافرغوا عليه ولا تخلطوه بضحك فتجمد القلوب". وذلك لأن الغاية من طلب العلم تقوم في "حفظه والعمل به ونشره". ووضع هذه النتيجة في بعض الثنائيات الحادة المتعلقة بقيمة وأهمية العلم والعلماء، كما في قوله "الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء. فاذا فسد العلماء فمن يشفي الداء؟". وأن يعتبر "العالم طبيب الدين، والدرهم داء الدين". واستقى هذه الأفكار او توصل اليها بأثر تجربته الشخصية. فقد قال عن نفسه بانه طلب العلم في بداية امره، ولم تكن عنده آنذاك نية، ثم "رزقه الله النية".

ووضع هذه التجربة المتعلقة بالموقف من العلم والمعرفة وطلبها ونشرها في عبارة مقتضبة تقول "ما أعلم شيئا أفضل من طلب العلم بنية". بمعنى أن يكون طلب العلم للعلم ذاته وعبره لنشر الحق والحقيقة والدفاع عنهما، أي تجرده عن كل ما لا علاقة له بحقيقة العلم وماهية المعرفة وضرورتهما. الأمر الذي يجعل منهما مبردا يسّن به الروح والجسد. بمعنى إن العلم الصادق والعمل بموجبه عادة ما يجعل حياة المثقف الكبير ورجل العلم معاناة دائمة. من هنا قول سفيان الثوري "من ازداد علما ازداد وجعا". واستمد هذه الحقيقة من تجربته الشخصية التي وضعها في عبارة تقول "لو لم اعلم لكان اقل لحزني"، و"وددت أن انجو من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي". ولم يعن ذلك سوى أن الإرادة العاقلة وإدراكها لمهمتها أمام الله، أي أمام مرآة العالم الباطني للنفس من أجل تأمل حقيقة ما في ملامحه من صدق وجمال أو كذب وقبح. اذ ليس للإنسان سرّ مع نفسه. من هنا جوهرية فكرة النية الصادقة في طلب العلم والعمل بما فيه وبما يؤدي اليه من قواعد وآداب. أدى هذا به الى بلورة الموقف الفكري والعملي العميق القائل: "ان العلم عندنا الرخص عن الثقة. فأما التشديد فكل انسان يحسنه".

ولا يعني "الرخص عن الثقة" في العلم سوى اختيار أفضل السبل وأكثرها واقعية وإنسانية للحلول، على عكس الأحكام الجازمة القطعية المباشرة. فالأولى نتاج التأمل العقلي والوجدان الصادق في معناة البحث عن حلول ترضي النفس والله، إي المجتمع والحق. أما الثاني فهو إما تحريم وإما تجريم متسرع أو قبول بما هو موجود دون تفحص ودراية لما في أعماقه من إمكانيات يصعب التكهن بها. من هنا فإن "الرخصة عن الثقة" هي نتاج الرؤية العلمية الدقيقة التي تأخذ بقدر واحد تجارب الأسلاف الذاتية والواقع والمستقبل. ولا يمكن بلوغ ذلك دون بلوغ حالة ومستوى الاجتهاد الحر.

تعادل حقيقة ومضمون "الاجتهاد الحر" فيما يخص سفيان الثوري معنى الاجتهاد العقلي، والوجدان الصادق، والضمير الاجتماعي. اذ اننا نعثر في شخصيته وانتاجها العلمي على إحدى الصيغ الأولية الرفيعة لإرساء أسس مرجعية الاجتهاد الحر بوصفها مهمة شخصية وحقيقة فردية ومصيرا معرفيا. ففي مجرى تجربته الشخصية وانعكاسه في المواقف والاحكام نعثر ، على سبيل المثال، الحكم القال، بان الانسان "الى العلم احوج منه الى الخبز واللحم". وهي العملية التي تؤدي بالمرء السائر في دروب العلم إلى إدراك الحقيقة القائلة، بأنه "ما بسطت الدنيا على أحد الا إغترارا، وما زويت عنه إلا اختبارا". بمعنى إن السعة والراحة والدعة وما شابه ذلك من رفاهة العيش ليس الا غرورا سريع الزوال، وبالمقابل ليست متاعب الحياة ومشقتها وما يعاني المرء منه في دروب العلم (وأحيانا غيره أيضا) سوى اختبارا للإرادة والعقل والضمير. الامر الذي يجعل رجل العلم او المثقف الكبير في امتحان دائم للبرهنة اولا وقبل كل شيء امام نفسه من اجل تثبيتها على اقدام اليقين او ما اسماه ايضا بالرخصة في الثقة. من هنا قوله "رضى الناس غاية لا تدرك، وطلب الدنيا غاية لا تدرك"، أي كل ما يترتب عليه بالضرورة ادراك اولوية الانا الباحثة عن الحق والحقيقة. من هنا قوله، "اذا عرفت نفسك فلا يضرك ما قيل فيك". فهي المهمة الاولية او المقدمة الجوهرية للاجتهاد الحر. وقد عالجها سفيان الثوري بالشكل الذي وصفه في احدى عباراته القائلة: "ما عالجت شيئا اشد عليّ من نفسي". لهذا قيل عنه مرة : كان من شدة تفكّره يبول الدم(!). طبعا لا علاقة للتفكر الشديد بمظاهر الافرازات الجسدية، لكنها تحمل معنى التصوير المثير عما يمكن دعوته "بالعقاب" المناسب للتفكّر الشديد، أو أن للجهد والاجهاد المفرط أثره في الجسد. وهذه حقيقة. وأيا كانت مصداقية هذه الصورة، لكنها تبرع اساسا في تصوير المعاناة الباطنة لتفكيره في مرحلة انتقالية عاصفة لازمها تأزم وانفجار الطاقات الثقافية الكبرى لما أدعوه بصيرورة الإمبراطورية الثقافية(للخلافة).

لقد كان الاجتهاد الحر بالنسبة لسفيان الثوري يحتوي في ذاته على كل من الاجتهاد الشخصي وإخلاص الضمير. فعندما سأله مرة أحدهم:

- اصافح اليهود والنصارى؟

- برجلك نعم!

وعندما قال له أحدهم مرة:

- أي شيئا أقول إذا سمعت صوت الناقوس؟

- أي شيء تقول إذا ضرط الحمار؟

لقد رمى سفيان الثوري كل تفاهات اللاهوت الميت وحذلقة الفقهاء الغبية المتعلقة بسفاسف الأمور وتوافه الحياة في مزبلة السخرية التي لا تخلو من الاستهزاء المر. لقد استند الثوري الى حقيقة الاخلاص للحق والحقيقة، التي وجدت الثقافة آنذاك وعائها في القلب. من هنا قوله "ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني"، و"لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحاً وحزناً وشوقاً إلى الجنة أو خوفاً من النار". واستكمل ذلك في موقف هو أقرب ما يكون إلى القاعدة الأخلاقية كما في قوله "خذ من الدنيا لبدنك، ومن الآخرة لقلبك". مما حدد بدوره موقفه من مختلف مظاهر الوجود الفكرية والحياتية والأخلاقية وغيرها. ففي مجال المعرفة طالب بدفع الشك باليقين، كما دعا المرء إلى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه. وفي مجال الأخلاق العملية طالب المرء بأن يخضع عند الطاعة ويستعص عند المعصية. أما موقفه هو من الآخرين فقد بناه على قاعدة "محبة الناس على قدر أعمالهم"، بوصفه المعيار السليم تجاه الأحياء والأموات على السواء. من هنا حكمه: "إذا ذكر الرجل الذي مات، فلا تنظر إلى قول العامة، ولكن انظر إلى قول أهل العلم والعقل"، أي كل أولئك الذين تحتضنهم كلمة "الغريب". فالغريب والغرباء العاملون بمعايير الروح المعرفي والعقلي والأخلاقي بالنسبة لسفيان الثوري، هم حملة الحق والحقيقة. من هنا قوله :"استوصوا بأهل السّنة خيرا فإنهم غرباء". والمقصود بأهل السنّة أتباع الحق والحقيقة، وليس اتباع مذهب "أهل السنّة والجماعة" القديم والحالي..

***

في المثقف اليوم