دراسات وبحوث

الاديان الشعبية.. اسلام مابعد الانبياء والرسل

مهدي الصافياذا اردنا من باب المحاولة النظرية او حتى العملية الدخول الى الحضارة الحديثة (الحضارة الالكترونية.. الكمبيوتر العملاق) بعموم التراث الاسلامي (القران الكريم والسنة النبوية والمذاهب والفرق)، تحت نظرية ايجاد مذهب اسلامي واحد، قادر ان يكمل مسيرة الحضارة دون عقبات او ازمات ونكسات وحروب وفتن، لما استطعنا ان نخرج بشيء، انما سنعود مرغمين الى فكر الشارع، ورغبات العامة، وثقافة الموروث، والذي سيحيل بدوره الامر الى دائرة التشرذم والتفكك والانقسام والتمذهب....

بعد اكثر من اربعة عشر قرنا وفي عصر الالكترون اتضح من الواقع واستمرارية حركة التاريخ ان الاديان السماوية المقدسة تحولت تلقائيا او هي تتحول تدريجيا الى اديان شعبية عامة وخاصة (المذاهب والطوائف والفرق) تستقطب كل المتغيرات والافكار والاراء والثقافات والاضافات الشخصية او المذهبية، ليس على غرار ماذهب اليه بعض المفكرين والباحثين وحتى المستشرقين في ابواب دراسة حقيقة علاقة المقدس باللنبياء والرسل (الكتب السماوية المقدسة)، او تفكيك فكرة او طبيعة علاقة واسطة (ناقل الوحي) نقل ماجاء في الكتب المقدسة بين الاله والانبياء والرسل، عبر طرح مفهوم دراسة التغييرات، التي قد تحصل اثناء عملية ارسال الوحي او اداة الربط الواصلة او النازلة من السماء الى الارض (الملائكة او الالهام)، بل من باب ان المجتمعات او الامم والشعوب كانت ولازالت في حالة حركة متطورة دائمة،

اي عند مراجعة التاريخ وقراءة قصص الانبياء والرسل نجد ان عملية ارسالهم كانت نتيجة طبيعية لصيرورة التغيير الكوني، وبأن الله عزوجل هو المحرك الرئيسي لتلك التغييرات المتصاعدة حضاريا (العالم في حالة تطور لايتراجع علميا او معرفيا بل يتقدم الى الامام دوما)، ولهذا كانت عملية او طريقة ارسال الانبياء والرسل طريقة متدرجة، لكنها في حركة متقدمة معرفيا بأستمرار، اما مايخص بحثنا المختصر هذا، نتطلع الى شرح طبيعية الامم والاقوام المتقلبة دينيا، فما ان تؤمن امة او شعب او ايا من الاقوام المذكور في التاريخ القراني من قبل الخالق عزوجل باحد الانبياء او الرسل حتى نجد انها ترجع بعد فترة من الزمن (قد يكون بعضها طويل نسبيا) الى مرحلة التغيير والانحراف، والطبيعية الشعبية في التعامل مع تعليمات ونصائح الانبياء والرسل التي ارسلت اليهم، هذا مانقصد به التطور والانتقال الطبيعي الذي رافق الاديان السماوية منذ نشوءها او نزولها، وهكذا كانت ترسل اليهم انبياء او رسل اخرين كما ذكر ذلك تفصيلا في القران الكريم (ومعروف ايضا في الاديان السماوية الاخرى)، ثم جاءت مرحلة ختم الاديان على يد النبي محمد ص، وهنا كما يذكر اغلب علماء وفقهاء المسلمين بانها فترة ختم التشريعات والمحرمات، ومن ان الاسلام كان شاملا وواضحا وعميقا في الشرح والتوصيف والتفصيل، بل كان محددا ودقيقا في بعض التفاصيل الخاصة، اذ شمل قضايا الحقوق العامة والخاصة والمساواة، كالارث والديات، والكفارات، والحدود، وحقوق المطلقات، الخ.

لكننا نرى ان الامة او الاقوام التي دخلت في الاسلام عادت الى سيرتها الاولى، اذ ان التاريخ يذكر لنا وبشكل موثق ان الاسلام تغير بسرعة بعد وفاة التبي محمد ص او حتى في ايامه الاخيرة، برجوع الناس الى قاعدة وعقلية التفكير والتصور الشعبي الارضي للدين، بعد ان انقطع التواصل المقدس بينها وبين السماء (عبر المبي محمد ص)، فظهرت مايسمى بسنة الخلفاء والصحابة وسيرة الائمة "وعباد الله الصالحين"

 (جدير بالذكر وهذا رأي شخصي، نعتقد ان اي بحث او طرح فكري لايستند الى مصادر الاخرين، هو بحث ذو نزعة فلسفية اجتماعية شخصية، ولكل انسان فلسفته ونظرته الخاصة به وبالحياة عموما، على ان مقياس ومعايير التفوق والابداع والانجاز الفكري او الفلسفي يعتمد على عقلية ومعرفة وثقافة وتأملات الشخص الفكرية، فالعقول والقدرات الذهنية او درجات الذكاء او العبقرية تختلف وتتميز نسبيا من شخص لاخر، وبين جميع بني البشر)،

ولهذا ظهرت الفرق والمذاهب والجماعات الطائفية الصغيرة، وبرزت عقيدة الخلافة والامامة والاجتهاد، وازدادت الصراعات والمواجهات والفتن والحروب، حيث اصبح الفهم الشعبي للاديان (اي نقصد به ان بأمكان اي شخص من عامة الناس ان يصبح فقيها او مفتيا او رجل دين بعد مراحل دراسية معينة، فالامر مشاع ومتاح لجميع المسلمين، بل بات كارثة حقيقية تواجهها المجتمعات والدول الاسلامية، هي ظاهرة انتشار الفقهاء واصحاب الفتاوى الشباب) راسخا ومتجذرا، بدءا من الخلفاء الراشدين، مرورا بالدولة الاموية والعباسية، وصولا الى الدولة العثمانية ومابقي منها، فقد ظهرت مايسمى المدارس او المراكز والمؤسسات الدينية او الحوزوية، واكثر من جسد تلك الادوار هم حركات الخوارج والفرق المتشعبة عنها، ومن ثم ولدت الحركات والمذاهب والفرق السلفية والوهابية السنية، والطقوسيين الشيعة، فقد كان لهؤلاء جرئة كبيرة في صياغة دين شعبي (مقدس ارضي) مؤثر، عبر توسيع الشرح الشعبي لسلسلة من التأويلات المتوارثة للايات القرانية، ومايعرف ايضا بسنة الخلفاء او السلف الصالح (وسنة الائمة من ال البيت ع عند الشيعة)، هذا الامر يرجع الى اهمية ودور الاديان في بناء المجتمعات البدائية، وكذلك دوره المتذبذب في الهيمنة والتغلغل في ما يعرف حاليا بالدول المتحضرة الحديثة.....

عندما نطرح اسئلة كبيرة طويلة عريضة كما يقال في عصرنا الحالي (كما اطلق عليه دائما عصر الالكترون) حول تلك الظاهرة الكارثية المتوارثة، ليس الغاية والهدف ضرب حقيقة الاديان وعقائد الناس، انما من اجل التركيز المباشر حول ظاهرة التحول التاريخي للاديان السماوية الى اديان اجتماعية او شعبية ارضية، لاترتبط فعليا ولاعمليا بما جاء به الانبياء والرسل، من اجل توعية المجتمعات البدائية المغلقة على الثقافات الطائفية والمذهبية، والخاضعة بقوة لسلطة رجل الدين او المؤسسة الدينية، والتطرق ولو من باب التذكير او الاشارة الى عدة امور مهمة منها مايتعلق بالفرق او البون الشاسع بين الاديان السماوية، وبين الاديان الشعبية (التي هي اشتقاق منها، لكنها تغيرت كثيرا بمرور الزمن)، والمتمثلة بما نراه اليوم من تصاعدة حدة التكفير والالحاد (كرد فعل على شعبية الاديان وعدم استخدامها او اعمالها للعقل والمنطق والمعرفة الاكاديمية في ايصال الفتوى والتأويل الديني السليم للناس) والارهاب الديني، والمتجسدة ايضا بما يتوارثه المسلمون من افكار واراء وتصرفات وتوجهات واطروحات دينية متشددة، اصبحت في عهد الارهاب الديني اقوى بكثير في بشاعتها ووحشيتها مما توعد به الله عزوجل الظالمين والمنافقين والكفرة الجبارين (وفقا لابواب التوبة والمغفرة المفتوحة دوما لجميع بني البشر، هذا مع وجود نظرات وتفسيرات مختلفة حول مفهوم العقاب، وطبيعة نار جهنم يوم القيامة)، من تكفير وتفسيق وقتل وتقطيع للبشر، وكذلك حالات الاغتصاب الجماعي للنساء بأسم الدين والجهاد، وقطع رؤوس الابرياء بما فيهم الاطفال، مع تنامي ظاهرة الارهاب الاجتماعي -ديني المدعوم رسميا احيانا من الانظمة المتسبدة اللادينية (طاعة اولياء امور المسلمين من الحكام حتى وان كانوا ظلمة فاسقين)، ولعلنا نجد الفرق كبيرا بين وضعية الاقوام والامم التي ارسل اليها الانبياء والرسل وحجم المعاناة التي ظهرت لها بعد رحيلهم، على سبيل المثال الاسلام (بعد فتح مكة) في عهد النبي محمد ص لاتوجد فيه معاناة وظلم وتكفير وارهاب واقصاء اجتماعي وديني كما حصل بعد وفاته، كل شيء كان واضحا الايات والسور القرانية، والسنة النبوية، والتأويلات او التفسيرات المتعلقة بهما، بينما ظهرت المواجهات الدموية والصراعات والتشرذم والانقسام بين المسلمين عندما انزل الدين من السماء او المقدس الى الارض، وتم التعامل معه بعقلية الانسان العادي (الخليفة او امير المؤمنين، او رجل الدين)، صار كل شيء يفسر وفقا لعقلية وتفكير وثقافة ونشأة ونفسية الاشخاص، حتى اصبح بمثابة التراث الاسلامي الشامل المقدس البديل، الذي لايمكن للمذاهب او المسلمين عموما ان يتجاوزوه او يعيدوا مناقشته اونقده وتنقيحه او توثيقه، بل ان من يعبر تلك الخطوط الحمراء يتعرض لعدة هجمات وافتراءات وتعليقات ومواجهات خطيرة (تبدأ بتعابير ومصطلحات التكفير والردة والالحاد، وخروج عن الاجماع والملة، وصولا الى ازدراء الاديان، الخ.) .......

من الاسئلة الكثيرة التي يمكن ان يطرحها اي انسان مسلم او من اي ديانة اخرى، هو كيف او اين ومتى يشعر الانسان ان الدين اصبح شعبيا ارضيا منفصلا عن اصل الدين، نقول بكل صراحة عندما تظهر قوة وسلطة المذاهب والفرق على اتباعهم، وكذلك عندما يتحول الدين الى سياسة وتجارة، ومصدر تشريعات الدول والمجتمعات، ولهذا لم تنجح اي تجربة دينية تدخلت بالشؤون السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية عبر تاريخ البشرية الطويل كله،

وذلك يرجع الى ان الله عزوجل ارسل الانبياء والرسل لشرح ولتعريف الانسان بربه وبحكمته في الخلق والتكوين والايمان بهما، اضافة الى بقية القضايا والمسائل والامورالاخلاقية الانسانية والاجتماعية والمعرفية، فالقران الكريم اضافة الى انه كتاب تشريع مفتوح، نجد فيه شرح مفصل للكون والطبيعة والحياة عموما، وفيه ايضا اسس ومبادئ ومفاهيم اخلاقية وانسانية عظيمة، ورد فيه ايضا الكثير من ضرورات الحياة الامنة البعيدة عن شرور الشيطان وجنوده، مؤكدا على اهمية الاعمال الصالحة (الخ.)، والابتعاد عن الفسق والفجور والاسراف والنفاق والظلم والاعتداء، انه كتاب يفتح للانسان طريق الحياة المتحضرة البعيدة عن الجهل والتخلف والبدائية المتوارثة، لاتوجد فيه اية اشارة الى انه يمكن ان يكون دستورا للناس لبناء الدول وتنظيم حياتهم العملية، (حتى قيل ان الرسول محمد ص لم يفسر القران بل تركه يفسر نفسه عبر اهل العلم والمعرفة، ووفقا لطبيعة الحياة وظروفها وتطورها الحضاري)، ولم يعطي الله عزوجل اية وكالات او صكوك للفتوى والغفران والتحكم بالناس، لمن يجعلون من انفسهم وكلاء نيابة عنه على خلقه، يحللون ويحرمون ويفتون بالتكفير بحرية مفرطة، يامرون احيانا بقتل المخالف (المرتد او الملحد او من يقال عنه كافر)، ويعملون على سلب ارادة الاشخاص، وقمع حرياتهم الشخصية، ومراقبة تفكيرهم، ومنع اختيار حياتهم وخصوصياتهم بالطريقة التي يراها الناس مجتمعين او منفردين،

من هنا نجد ان قطار الحضارة الذي تدعمه ضرورات الحياة وسنن التطور والتغيير الطبيعي عبرت المجتمعات المتمسكة بالتراث الديني الشعبي بأشواط كبيرة، حتى باتت عبئا مملا وثقيلا على هذه القرية الكونية، فصارت تلك الدول المتحضرة غاية كل شعوب الارض المنهمكة والغارقة في وحل الصراعات والمواجهات ومتاهات الاديان الشعبية وتفرعاتها الفئوية، فهناك يجد المسلم وغير المسلم السقوف العالية لمايحتاجه الانسان في حياته الحرة الكريمة، التي لاتشجع عليها الاديان عموما، من قوانين وانظمة وتشريعات اخلاقية وانسانية واجتماعية

 (نسبيا) مقبولة، وهي افضل بكثير مما يراه او سمع عنه في بلده، قديما او حديثا، بل وجد اكثر من ذلك دول ومؤسسات ومنظمات انسانية تحميه وتدافع عنه من بطش وظلم وفساد اخيه المسلم، سواء كان حاكما او مسؤلا سياسيا او دينيا او قبليا (كقوانين اللجوءالانساني او السياسي، الخ.)، تصور ان الشر لاحدود له عند هؤلاء المنحرفين، الذين استولى بعضهم حتى على رموز واطروحات وتوجهات ومؤسسات الاديان الشعبية الشبه مستقلة (اي ان الاديان الشعبية لاتخلوا تماما من بعض الضرورويات الدينية الصالحة التي يتعذر المساس بها لوضوحها وصعوبة تغييرها او الافتاء والتلاعب بتأويلاتها، انما هؤلاء يعملون بالمناطق والفضاءات الفارغة التي اصبحت بمرور الزمن هي جلباب وغطاء الدين، فظاهرة اطلاق احكام التكفير والردة لاتبقي شيئا للدين يمكن ان يستعين به الشخص المتهم بهذه الاوصاف، اي بعبارة اخرى لامعنى للدين، عندما تجد رجل الدين او الفقيه قادر ان يطلق تلك الاحكام، التي يترتب عليها تبعات خطرة على حياة الناس، وهذا مايحصل حاليا سرعة الاتهام والافتاء والتتفيذ ايضا، وقد تم تسييس الدين والمذاهب لاغراض حزبية اوسياسية اقليمية او دولية او اجتماعية) ..

استمد المسلمين الرادكاليين او الاصولية الاسلامية (الذين هم بمثابة الورثة الشرعيين لمؤسسي الاديان الشعبية) وحشيتهم وثقافتهم الاجرامية او الارهابية من التاريخ الاسلامي الرسمي (الشعبي)، ومن مايسمى بتراث تنفيذ واقامة الحدود الشرعية، والتي غالبا مايستخدم العنف المفرط فيها، في مجالات التعزير والعقوبات الجسدية الاخرى (كقطع يد السارق، والرجم، والاعدام الخ.)، فهناك عدة دول اسلامية (ظاهريا وليس جذريا او جوهريا، على اعتبار ان الاديان الشعبية هي ابعد مايكون عن الاديان الحقيقية الاصيلة، انما هي اديان المصالح) تعتمد الاساليب الشرعية في العقوبات، اي تنفذ مايسمى بالحدود الشرعية بشكل علني وامام الناس (وفي الحقيقة غالبا ماتكون تلك الاساليب موجهة للمجتمع ككل، فأمتداد واتساع قاعدة ومنظومة الحدود والعقوبات الشرعية، تكاد شمل كل شيء، حتى الثقافة والابداع والفن، وانتقاد سياسة الحاكم او الدولة الخاطئة او الفاسدة، الخ.)، بينما لم يعد هذا الامر مقبولا لا انسانيا ولا اخلاقيا في عصر الحضارة الحديثة، الذي اتجهت فيها العديد من الدول الى الغاء عقوبة الاعدام، اي لم يعد بمقدور الناس تحمل تطبيق تلك الاحكام العقابية الشرعية-الجسدية، لخروجها تماما عن طبيعة المجتمعات الانسانية الحديثة، هذا لايخرج عن طور الايمان بضرورة تنفيذ الاحكام المقدسة (تحت قاعدة ليست قرأنية ولا حتى شاملة انما ذكرت في التراث"حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة، علما ان الرسول محمد ص لم يقم يوما بتشريع المحرمات من تلقاء نفسه، انما الحرام جاء وفقا لمايذكر في القران الكريم، فقد كان النبي على خلق عظيم كان يستحي من رد قساوة وصلافة تعامل الناس معه، كدخولهم بيته دون استئذان، ورفع اصواتهم فوق صوته، فكيف يكون مشرعا للتحريم السماوي، الخ.)، وانما هي جزء من منظومة القيم المتغيرة الحديثة، مع الاختلاف في النهج والاسلوب وطريقة التطبيق، وهي بالطبع ضرورات انسانية واجتماعية متطورة، وصلت اليها البشرية بأرادة الخالق عزوجل، وليس بأراداة البشر انفسهم، هذا الامر يحيلنا الى مفهوم الحاجة الدائمة الى الدين، واين موقعه من الدولة والحضارة،

اي بعبارة اخرى طرح اشكالية او جدلية مفهوم او فكرة علاقة الدين بالدولة، ولان الدين مقدس شعبيا يصبح من الصعب ان لاتقول انه لابد ان يكون احد مصادر او هو المصدر الوحيد احيانا لدستور وتشريعات الدولة، الا ان شعبية الاديان واختلافها جزئيا او كليا عن الاديان السماوية الاصيلة، تجعل من مسالة اعتبار ان الدين الشعبي دين مقدس لايمكن ان تتجاوزه الدولة او المجتمع، والا تحولت الحالة الى مادة وغاية وشعار للمواجهة والصدام مع الدولة، ومع النخب المتحضرة (كالمحرمات الدينية الشعبية التي هاجمت التطور الحضاري التكنولوجي في بداية دخوله بلادنا العربية والاسلامية بدايات القرن الماضي)، هذه الاختلافات الكبيرة بين اصل الاديان، وماتم تحويره والتلاعب به وتحريفه شعبيا، يعطينا الحق بالقول ان الاديان كانت في عهد الانبياء والرسل سماوية مقدسة، اما ماجاء بعدهم مر بمراحل متعددة من التغيير، ابعده عن حالته المقدسة السابقة، بفعل الادوار المختلفة للسلطات الدينية، والتدخلات المتعددة للمؤسسات الدينية الرسمية والشعبية (خلفاء وامراء ورجال دين) في اصوله وثوابته وحتى تأويلاته، مما جعلها اديان نقمة على المجتمعات العربية والاسلامية لارحمة، لاتنفك عن الفتك بأرواح المسلمين، وتدمير دولهم ومجتمعاتهم، واهدار مواردهم وثرواتهم في فراغات غائرة في صحراء المعرفة الدينية الشعبية البائسة...

خلاصة البحث:

هل هذه الاشارة الى شعبية الاديان تعني ان الاديان انتهت في عهد الانبياء والرسل وعلى الناس ان تتخلص منها ام هي دعوة اصلاحية دينية ام علمانية،

في الحقيقة لايمكن التصور بأن تعيش الامم والشعوب بدون الاديان والمعتقدات السماوية او حتى الارضية، لكنها يمكن ان تعيش بعيدا عن الاديان الشعبية، ففي الحضارة الاوربية العلمانية لازالت المعتقدات الدينية حاضرة بقوة الحضارة المدنية الحديثة، الا ان الحاجة اليها اقل بكثير مما عليه الحالة في المجتمعات العربية والاسلامية، على اعتبار ان منظومة القيم الحضارية الاخلاقية الانسانية الحديثة هناك دخلت او توحدت مع المنظومة السياسية الاخلاقية والتشريعية للدولة (حتى بات المسلم يردد عبارته الساذجة تلك ان اوربا تحتاج فقط نطق الشهادتين ليدخل اهلها الجنة)، فالاديان لها ضرورة نفسية وروحية ووجدانية ومعرفية تاريخية، لكنها ليست ضرورة سياسية او اجتماعية او حتى تربوية او علمية، فقد تقدمت ونهضت الامم دون الرجوع الى الاسلام او الاديان، فمن المؤكد ان الله عزوجل لم ينزل الاديان السماوية الى الارض كي تعلم الناس كيف تبني بيتا او مصنعا او معملا او جامعة او مدرسة او مزرعة او برلمان، الخ.

ولهذا نعتقد ان الاديان السماوية يمكنها ان تكتسب التقديس بعد رحيل الانبياء والرسل وفقا لقدرات عباقرة المجتمع واذكياءه سواء كانوا رجال دين او مفكرين او باحثين اكاديميين، او ايا من العلماء ممن نسميهم عباد الله الصالحين، بحيث يمكن لهؤلاء ان يشغلوا تلك الفراغات الاجتماعية المتروكة من قبل الله عزوجل تبعا للضرورات والحاجات الانسانية والاخلاقية والاجتماعية، ليس على غرار اظهار دين اخر مليء بالمحرمات والمكفرات والمنفرات، انما بالحفاظ على نقاء وصفاء وقدسية الاديان السماوية، وابعاد التأثيرات التراثية الشعبية والتدخلات والتحولات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية والاخلاقية عنها، حتى يمكن ان يدخل الدين كحالة وسطية معتدلة بين الحضارة والدولة،

فبديل الانبياء والرسل والسلطات البدائية القديمة هي سلطة الدولة المتحضرة الحديثة المطلقة، ولهذا نرى اصرار اصحاب "نظرية علاقة الدين بالدولة"

 على ادخال سلطتهم فيها، كشريك شرعي اصيل في ادارتها، وبما انه دين شعبي متوارث، سوف يصبح حتما عقبة كبيرة امام حركتها وحركة المجتمع معها، سوف يؤخرعملية بناء الدولة المتحضرة، ويعرقل حركة تطور المجتمعات الطبيعية، ويجعلها مجتمعات ارض بائسة تسير عكس حركة التاريخ، وبمواجهة صيرورة التكوين والتطور،

اما ان كانت جزءا من منظومة القيم الاجتماعية العامة للدولة والمجتمع، عندها لايرى الناس فرقا شاسعا بين ما امرت به الاديان-الاسلام وبين نظام الدولة الرسمي، شرط ان لايقدم على انه دين سماوي لايجوز التغيير ولا التطوير او قبول التأويل الانساتي الحديث فيه (كالرأي القائل بضرورة الالتزام بتنفيذ الحدود حرفيا اوعدم المساس بقضايا الارث، وفوائد البنوك الخ.)، انما دين فيه اصل ثابت ليس له علاقة بالدولة والمجتمع، انما بعقيدة وايمان الافراد، وفروع تترك حرية اختيارها والعمل بها تبعا لنظام الدولة الديمقراطية، وحاجات المجتمع...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم