دراسات وبحوث

الغزالي ونقد "علماء السوء" (2-2)

ميثم الجنابي"أنّى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم،

ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم"

(الغزالي)

الإهداء إلى  الدكتور مارفن الزايد، صديق الروح ومثقف الإخلاص التام للحق والحقيقة.

إن انتقاد الغزالي للمتصوفة وافتقاد هذا النقد لطابعه المنظومي لا يعني افتقاده لمنظومته الصوفية الخاصة. وبالتالي، فإن انتقاده للمتصوفة هو استمرار لتقاليد النقد التي كانت تميز بهذا القدر أو ذاك جميع شيوخ التصوف الكبار من اجل تهذيب وتشذيب سلوك المريد من كل ما يعرقل مساره السليم من الشوائب و"الترهات" الفعلية والمحتملة في الطريق. لهذا نراه، على سبيل المثال، يشير حال حديثه عن قواعد المخالطة إلى فائدة التأديب والتأدب، أي الارتباط في كسر شهوة النفس من خلال مخالطة الناس. فالمخالطة تظهر من جهة كوسيلة للتربية بفعل احتكاكها بالعالم "الخارجي"، ولكنها يمكن أن تفسّخ في الوقت نفسه هذا المبدأ وقواعده في حالة افتقاده لقيمته التربوية. فقد شاهد هو نتائج هذا المبدأ في حالة عدم الالتزام بكامل قواعده، في الممارسة المعاصرة له. حيث تحولت أعماله إلى مجرد أعمال "خالطتها الأغراض الفاسدة، ومال ذلك عن القانون كما مالت سائر شعائر الدين"[1]. وسوف يردد هنا شأن سابقيه ولاحقيه البيت الشعري القائل بأن الخيام كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائهم، أي كل ما اتخذ في الخيال المتأمل مقارنة المثال بالواقع. أما في منظومته، فإنه سوف يسعى لانتقاد الزيف العملي في جميع مظاهره، بما في ذلك عند متصوفة زمانه. لهذا كان انتقاده لهم هو الآخر قاسياً، وبالأخص عندما شدد على أن أكثر متصوفة زمانه "لما خلت بواطنهم من لطائف الأفكار ودقائق الأعمال ولم يحصل لهم أنس بالله وبذكرهم في خلوتهم، كانوا بطالين. فقد ألفوا البطالة واستثقلوا العمل، واستوعروا طريق الكسب واستلانوا جانب السؤال والكدية، واستطابوا الرباطات المبنية لهم في البلاد، واستسخروا الخدم المنتقين للقيام بخدمة القوم، واستخفوا عقلوهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلا الرياء والسمعة وانتشار الصيت واقتناص الأموال بطريق السؤال تعللاً بكثرة الأتباع. فلم يكن لهم في الخانقاهات حكم نافذ ولا تأديب للمريدين نافع ولا حجر عليهم قاهر. فلبسوا المرقعات واتخذوا من الخانقاهات منتزهات. وربما تلفظوا ألفاظاً مزخرفة من أهل الطامات"[2].

إن انتقاده اللاذع لزيف المتصوفة أو "للصوفية المزيفة"، هو في جوهره انتقاد للتشبه الظاهري بهم، باعتباره شكلاً من أشكال الرياء. ومن هنا لم يرَ على سبيل المثال في سياحات المتصوفة الكاذبة شيئاً ما مختلفاً عن سياحات البهائم والحيوانات في البراري. وعندما حكم على أنها مباحة أيضا، فلأنه لم يجد فيها شيئاً مضراً أو نافعاً. إلا أن ذلك لا يعفيها من انتقاده الأخلاقي. وذلك لأنها تشّوه باسم التصوف، التصوف نفسه، أو أنها بردائها الوسخ تضفي على جسد التصوف وبال التقزز. ذلك يعني بأن تصويره الرياء بشكل عام ورياء المتصوفة بشكل خاص يسعى في آن واحد للكشف عن الحالة الدينية السائدة، التي أخذت تتوسع وتتعمق فيها مظاهر التقنع بلباس الصوفية، ولهذا تتبع هذه المظاهرة في كل من الزعقة وغيرها من الظواهر. مثل أن أحدهم يجهد نفسه للسقوط والغيبوبة حال سماعه الذكر، وربما أنه يستحي أن يقال له "إنه سقط من غير زوال عقل وحالة شديدة، فإنه يضطر إلى أن يزعق ويتواجد فيتكلف"[3]. وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعاً فتجزع نفسه أن يقال إنها حالة غير ثابتة، وإنما هي كبرق خاطف، فيضطره ذلك إلى أن يستديم الزعقة والرقص ليرى دوام حاله وكذلك قد يفيق بعد الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال له لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه مما يضطره إلى الاستدامة المصطنعة لإظهار الضعف والأنين والاتكاء على الغير من أجل أن يرى ضعفه عن القيام، ويتمايل في المشي أو يقرّب الخطى وما شابه ذلك[4]. ولم يقف الغزالي عند حدود المظاهر السلبية لمتصوفة عصره، بل وحاول استظهار عناصرها القائمة في بعض اتجاهات التصوف، التي تفسح المجال أمام افتعال أفعال كهذه. وخصوصاً تلك التي تؤدي في بعض مبادئها الطرائقية إلى ما دعاه بالتحلل ورفض العمل[5]، أي كل ما سيعيد انتقاده في (كمياء السعادة). وقد اتخذ من أسلوب الملامتية الشكلي موضوع ومادة انتقاده المباشر[6]. ولم يكن ذلك بمعزل عن خصوصية التصوف الغزالي، الذي رفض أسلوب إسقاط الجاه "العبثي"، أي ذلك الأسلوب الذي يعطي للمرء إمكانية القيام "بالفواحش" من أجل استثارة ازدرائهم. فهو يعتبره غير جائز ولا يقتدى به، بفعل عدم قدرته على صنع القيم الأخلاقية المؤثرة في فاعلية الموحدة الاجتماعية[7]. وجعله ذلك يتكلم عما أسماه بانمحاق التصوف بالكلية وبطلانه[8]. ولم يقصد بذلك حقيقة التصوف، بل كيفية ونوعية تغلغله في أتباعه المعاصرين له.

وقد أثار هذا بدوره واستثار المعضلة الفكرية والأخلاقية الكبيرة، التي حاول حلها على أساس رؤية التناقض والواقعية في تمايزات وخلافات العلم والأخلاق في سلوك وأفعال المذاهب والمشارب الإسلامية. فهو يدرك أن العلم لا يندرس، وأن عالم السوء لا يفسد حقائق العلم، بل يفسد سريرته. بمعنى بقائه عالماً دون عمل. وعلى عكس التصوف، الذي يستلزم بالضرورة وحدة العلم والعمل، لأنه المخاض النهائي الذي انتهت إليه وأدت به تجاربه العملية.

وقد أثار ذلك أمام الغزالي، وبوحي تجربته العقلية والعملية، قضية غاية في التعقيد، ألا وهي الكيفية التي يجري بها استمرار العلم (الديني) في أفعاله ووظائفه الاجتماعية والسياسية. وعلى الرغم من التعقيدات الملازمة للإجابة الجازمة بفعل الإمكانيات العديدة لتضارب الأجوبة التي يفرضها منطق العقل والتاريخ في مصالح قواه المتنازعة، فإن الغزالي لم يكف عن أن "يلوي" تفريعات المظاهر والظاهر في اتجاه الباطن الأخلاقي. لهذا أكد على أن العلوم جميعاً، باستثناء التصوف لا تنمحق ولا تغيب في حالة اضمحلال جذوتها الأخلاقية، أي موقف الإنسان الأخلاقي منها. ولا يعني ذلك غياب تأثيرهما المتبادل. فعندما يتكلم الغزالي، على سبيل المثال، عن العلوم الطبيعية، فإنه يشير إلى أنها لا تؤدي في الأغلب بأصحابها إلى الغرور، وذلك بفعل عدم سعيهم إلى الحصول على "مغفرة إلهية"، أي أنها لا تتعامل مع الأخلاق بصورتها المباشرة، على عكس العلوم النظرية والشرعية منها خصوصاً[9].

إنه أراد الكشف عن أن الوحدة الداخلية بين آراء ومبادئ الذات المفكرة وبين ممارساتها العملية هي معيار الحقيقة الأخلاقية، التي لا يمكن تجسيدها الحق إلا في التصوف. غير أن ذلك لا يعني انتفاءها أو غيابها في الميادين العملية والعلمية الأخرى. ومن هنا فإن انتقاده لسلوك "علماء السوء" في مختلف الميادين والمستويات مرتبط بنظراته عن طبيعة العلاقة القائمة والواجبة بين العالم والعلم في تأثيرهما الفردي والاجتماعي، والعلمي والأخلاقي. فالعالِم إما مالك وإما هالك. ومن هنا فإنه لا يمكن تذليل التناقض الفعلي بين الواقع والمثال، والعلم والعمل، وأخلاقية العلم ومساعي العالِم، إلا من خلال تثوير عالم الروح الأخلاقي وتنويره. فالغزالي يدرك إمكانية استعمال العلم كوسيلة للعلو الاجتماعي والسياسي في نظر العوام بما في ذلك من جانب العلماء الصالحين. بينما يتحول العلم في هذه الحالة إلى ما يمكن مقارنته بالخبث الخفي المبطن. وعندما يطالب العلماء بضرورة العزلة وطلب الخمول ودفع الفتاوى فإنه لم يقصد بذلك سوى جبرهم على "امتحان النفس" من أجل امتلاك عنانها. فالحقيقة في نهاية المطاف هي الحق. والحق هو الحقيقة. ومن هنا فإن استغناء عالم الشرع عن الفتاوى هي المهمة الأولى من أجل استكمال صلاح القلب.

بعبارة أخرى، إن الغزالي حالما يضع مهمة رفض الفتاوى استناداً إلى واقع أن الإسلام قائم قبله وبعده ومعه وبدونه، فإنه لم يرم بذلك سوى إلى إعلاء أولوية الممارسة الشخصية التي تجعل من الاستغناء الظاهري وسيلة الغناء الباطني. ولهذا السبب رفض المقالات التبريرية التي سمى رجالاتها "بشياطين الإنس"، أي تلك القائلة بأن ممارسة العزلة تؤدي إلى اندراس العلوم واضمحلالها، باعتبارها لا تدرك ضرورة استمرار العلوم القائمة في متطلبات الاجتماع نفسه وكينونة الإنسان الوجودية. وقد رد على "شياطين الإنس" بالصيغة التي حاول فيها كشف ضعف هذه القناعة "الساذجة" القائلة بإمكانية اندراس العلم. حيث وجد فيها مجرد "خيال يدل على غاية الجهل"[10]. فالناس كما يقول الغزالي "لو حبسوا في السجن وقيدوا بالقيود وتوعدوا بالنار على طلب العلم لكان حب الرياسة والعلم يحملهم على كسر القيود وهدم حيطان الحصون والخروج منها والاشتغال بطلب العلم"[11]. وبهذا المعنى، يمكن فهم مضمون الحديث النبوي القائل بأن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم. بينما حذّر في الوقت نفسه من الاغترار بهذا الحديث. ففي "وضعه" يعكس موضوعية الظاهرة دون أن يجعلها مثالاً يحتذى به. لهذا تناول مهمة العزلة ووظائفها وفوائدها بالصيغة التي تجعل من الحديث النبوي المذكور أعلاه أساساً لها. بمعنى أنه يشير إلى ضرورة عدم مشاركة "علماء السوء" بممارستهم، لا العزلة المطلقة. فهو يدعو للعزلة التي تتحول إلى شعاع المعرفة الحقيقية. فالعزلة هي أحد أسس الإرادة الصوفية، وأحد مصادر تنقية القلب. لهذا اتخذت في منظومته صيغة عزلة الحقيقة عن المصالح العابرة لا المصلحة الحقة.

وقد أعطى ذلك له إمكانية التعامل الشامل مع "نواقص" العلوم في مظاهرها الأخلاقية. فانتقاده "لعلماء السوء" هو انتقاد مظاهرهم المنافية للفضائل الأخلاقية الحقة. أما مظاهر هذه المنافاة فتتجسد بصيغ ومستويات غاية في التنوع بفعل تباين ميادين العلوم. وهو يتناول هنا أيضاً تجربته الشخصية من خلال تجربة الثقافة العامة للخلافة ككل، أي ما سبق وأن تناولته في معرض تحليلي لتجاربه العقلية. فعندما يتطرق لدرجات وتجليات المعارف العلمية المختلفة في صيغها الواقعية الأخلاقية، فإنه يسعى لإظهار انتقاده الأخلاقي لها من خلال إبراز مواقفه الشخصية منها، باعتبارها حكماً ومعياراً لهذه المعارف. ذلك يعني أن انتقاده هو انتقاد المعرفة الإيجابية في مجرى صيرورة البديل التآلفي، الذي يتمركز في منظومته حول ضرورة وحدة العلم والعمل. وهو ما افتقدته علوم عصره، وما عجزت عن تطبيقه النموذجي.

لهذا تكلم في معرض وصفه فِرق من يدعوهم بأهل العلم عن أولئك الذين أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها إلا أنهم أهملوا تفقد الجوارح وحفظها من المعاصي. فهم المغترون بالعلم، أي أنهم لم يربطوا العلم بالعمل واقتنعوا بأفضلية العلم فقط، أو ما يمكن دعوته بأهل العلم للعلم. وهناك من أحكم العلم والعمل وواظب على الطاعات الظاهرة وترك المعاصي، إلا أنه لم يتفقد قلبه ليمحو الصفات المذمومة من الكبر والحسد وطلب الرياسة. فهم أولئك الذين زينوا الظاهر وأهملوا الباطن. في حين هناك من علم أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وينظرون إلى كِبرهم على أنه طلب عز الدين وإظهار شرف العلم. وهناك من أحكموا العلم وطهّروا الجوارح وزينوها بالطاعات واجتنبوا المعاصي وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والحقد والكِبر ولكن بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخبايا خداع النفس ما دقّ وغمض. إنهم أولئك الذين يرون في أنفسهم الكمال، إلا أن أعماقهم تشرئب لسماع مدح الخلق وحسن الظن بهم.

أما فرقة أهل الكلام، فإنها تقول بأنه لا عمل إلا بإيمان، ولا إيمان صحيح إلا بالعلم (الجدل)، وأن الإيمان هو عقائدهم. فقسم منهم يرى الشبهة دليلاً، وقسم يظن الجدل أهم الأمور. وهناك من يشتغل بالوعظ والتذكير، وأعلاهم من يتكلم بأخلاق النفس وصفات القلب، إلا أنهم يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها، فقد صاروا موصوفين بها. ومن النادر، كما يقول الغزالي، العثور على من يتصف منهم بهذه الصفات.

بينما وجد في المعاصرين له من الوعاظ والمذكّرين أناساً لا همّ لهم سوى الاشتغال بالطامات والشطح وتلفيق الكلام المزخرف طلباً للأغراب.

في حين اهتم آخرون بالنكت والسجع والشعر والوجد، بينما اقتنع القسم الآخر بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم بذم الدنيا. واستغرق آخرون أوقاتهم في علم الحديث. في حين أن السماع الحق هو الفهم الحق لا الرواية. أما من اشتغل بعلم النحو واللغة والشعر، فقد أصبح ضحية الكلمة باحثاً فيها عن الحقيقة والقيم غير مدرك بأن لغة القرآن (العربية) تساوي اللغات الأخرى لا فرق بينها سوى لورود الشرع فيها. وبالتالي فإن إضاعة الوقت في البحث عن الغريب فيها هو مجرد غرور لا غير.

أما الفقهاء، فإن عظم غرورهم في فن الفقه لظنون أن "حكم العبد بينه وبين الله يتبع حكمه في مجلس الفقهاء، فوضعوا الحيل في دفع الحقوق وأساءوا تأويل الألفاظ المبهمة"[12].

أما الفِرق الداخلة فيمن يدعوهم بأرباب العبادة فمنها تلك التي أهملت الفرائض واشتغلت بالنوافل، وهناك من غلب عليه الوسوسة، أي الذي يصرف وقته في عقد النية. وهناك من تغلب عليه الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة بحيث لا يهتم بصلاته، وفي صلاته إلا في التشديد والتفريق بين الضاد والظاء.

وهناك من اغتروا بقراءة القرآن، بينما لسانه في القرآن وقلبه في أودية الأماني، في حين اغتر آخرون بالصوم، وربما صام الدهر ولا يحفظ لسانه عن الغيبة. في حين اغتر آخرون بالحج من غير خروج عن المظالم،

بينما أخذت فرقة أخرى بطريق الحسبة، أي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونسي نفسه. وهناك من جاور بمكة واغتر بها، وهناك من زهد بالمال وقنع بالبسيط من اللباس والمسكن، إلا أن حب الرياسة والجاه مسيطر عليه. وهناك من حرص على النوافل لا غير[13].

أما الفرق الداخلة تحت تسمية المتصوفة، فباستثناء القلة الحقيقية منها، فإن هناك من اغتر منهم بالزي والهيئة والمنطق، بينما فرقة أخرى يشق عليها الإقتداء بالمتصوفة ولهذا تركوا الحرير ولبسوا المرقعات النفيسة، في حين ادعى آخرون علم المعرفة (الصوفية) ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال الملازمة في عين الشهود وهم لا يعرفون هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ. بينما وقع آخرون في الإباحة. وهناك فرقة اجتنبت الأعمال وأطلقت الحلال واشتغلت بتفقد القلب، وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها. في حين ضيقت فرقة أخرى على نفسها أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص وأهملوا تفقد الجوارح والقلب من غير هذه الخصلة الواحدة. في حين هناك من ادعى حسن الخلق والتواضع والسماحة وتصدى لخدمة الصوفية لا لشيء إلا للرياسة وجمع المال، مثلهم مثل من يبني مسجد ويطينها بالعذرة. وهناك فرقة اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها وصاروا يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علماً وحرفة. بينما هناك من ابتدأ السلوك وحالما انفتح له باب من أبواب المعرفة وتشمم من مبادئها رائحة تعجب منها وفرح فتقيد قلبه بالالتفات إليها والتفكر فيها. وهناك من لم يلتفتوا إلى الأنوار وما يفيض عليهم في الطريق ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة، أولئك الذين وصلوا حد القربة إلى الله فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله[14].

لقد حاول من وراء نقده الواقعي والمتسامي لغرور هذه الفرق (الثلاثين) الأساسية من فرق الإسلام النموذجية في مختلف ميادينها ومستوياتها الدينية والفكرية أن يكشف عن ضعفها في بلوغ "درجة الحقيقة"، أي أنه أظهر عجزها الذاتي عن الكمال، بفعل انتاج كل منها وهمه الخاص وتناقضاته السيئة. غير أن هذه الفِرق شكلت جميعها، إن أمكن القول، رصيده الشخصي في تجاربه العقلية والعملية ومقدمة إدراكه حقيقة الصلة المقطوعة بين العلم والعمل في تجلياتها المثلى، أي كل ما سيجده في منظومة الصوفية وطرق تصوفها، باعتبارها طرق بلوغ وحدة العلم والعمل. وقد كانت هذه الخلاصة نتيجة تجربته الفكرية (العقلية) وانكساراتها العملية.

فهو لم ينظر إلى علاقة العلم بالعمل نظرته إلى معضلة للمرة الأولى إلا في (ميزان العمل). ولم يناقش هذه القضية من قبل ولا نعثر عليها في أي من مؤلفاته السابقة له. أما الأفكار التي يوردها في (ميزان العمل) فهي استمرار الصياغة الأخلاقية لعقلانية (ميزان العلم) و(معيار العلم). وأن هذا بدوره يبرهن على أن العقلانية في حالة دفعها إلى نهايتها المنطقية، فإنها لابد وأن تواجه "مصيرها الأخلاقي". أما في حالة الغزالي، فإنها وضعته أمام تنويره الأخلاقي.

فهو لم ينتقل إلى التصوف إلا بعد (ميزان العمل)، أي أنه عبّر عن مرحلة الانتقال. ونعثر على ملامحه ومعالمه في تضمنه عقلانية الفلسفة وأخلاقية التصوف. فهو يشير إلى أن (معيار العلم) هو القسم الأول والضروري لمعيار العمل (ميزان العمل)، أي أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل ولهذا استلزم ذلك معياراً لكل منهما. وبهذا المعنى فإن (ميزان العمل) هو استكمال ومكمل (لمعيار العلم). أما عقلانيته فهي لا تظهر في تأكيده على الربط الكلي بينهما فحسب، بل وفي محاولته الأولية إبراز التباين النسبي بين "سلوك" العلم والعمل، أو المنطق والأخلاق في ظل وحدتهما. لهذا شدد على أنه لو استقصى حقيقة الأخلاق في (ميزان العمل) لارتقى إلى حد البرهان على الشروط التي ذكرها في (معيار العلم)[15]. إذ لا يمكن بلوغ السعادة، حسب نظره، دون وحدة العلم والعمل. وهو يدرك بأن هذه الفكرة هي ليست من اختصاص التصوف بقدر ما أنها حصيلة الاتجاهات الفكرية الكبرى للثقافة الإسلامية ومعضلتها الجوهرية في الوقت نفسه. فهو يؤكد على أن المنظومات الفكرية الكبرى جميعاً لعلم الكلام والفلسفة والتصوف محقة في نظراتها العامة عن أن وحدة العلم والعمل هي الطريق الوحيد لبلوغ السعادة[16].

إن إدراك هذه الوحدة لا يشكل ضمانة كافية لبلوغ حقيقتها. بمعنى أنه لا يمكن بلوغ حقيقة الوحدة دون إدراك حقيقة الطريق إليها. فهو ليس أسلوباً إضافياً أو عابراً، بل يتحكم به ذاته في جوهرية الصياغة العملية والعلمية أيضاً في بلوغ السعادة. مما أدى بالضرورة إلى تباين قيمته في نظر أهل العلم من مختلف الاتجاهات والمدارس. ولم يسع الغزالي من وراء ذلك للقول بأنه لا يوجد تشابه بين طرق السماء والأرض، بقدر ما أنه أراد أن يحدد التناسق في ما بينهما باعتبارهما نسخة للمطلق. مثلما سيعبّر عن ذلك لاحقاً بفكرته القائلة، بأن عالم الملك والشهادة هو النسخة المادية (الطبيعية) لعالم الملكوت، تماماً كما أنه لاشيء في الفكر ما لم يكن له وجود في العالم. وأن لهذا الاستنتاج المعرفي سلبية إيجابية في مجال الممارسة العملية، صاغها الغزالي في (أيها الولد) بوضوح عندما قال بأن العلم المجرد والمفلس من الأعمال والخالي من الأحوال لا يؤدي إلى السعادة. وقد أورد مثالاً عن ذلك في سؤاله البسيط القائل، لو كان على رجل في البرية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، وكان الرجل شجاعاً فحمل عليه أسد مهيب فما ظنك، هل تدفع الأسلحة شرّه بلا استعمالها؟ وقد كان الجواب بالنفي. وبالقدر ذاته لا يمكن للمعرفة مهما كان حجمها ووزنها وغزارتها أن تسعف الإنسان دون استعمالها. وحدد ذلك موقفه المتضمن في النصيحة القائلة "عش ما  شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجازى"[17]. فهي المقدمة التي يمكن تتويجها بالعلم العملي الذي يصوغه الغزالي استناداً إلى فكرة الشبلي (ت-334 للهجرة)، الذي وجد في كل علوم الأولين والآخرين ما يمكن بلورته بعبارة "اعمل لدنياك بقدر مقامك فيه، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واعمل للنار بقدر صبرك عليها"[18].

وتستند هذه الأفكار إلى ما هو مميز للصوفية بشكل عام من تقديم العمل على العلم. بمعنى أنهم لم يحرصوا، كما يقول الغزالي، على تحصيل العلوم ودراستها وتصنيف ما يمكن تصنيفه، بل قالوا إن الطريق هو تقديم المجاهدة بمحو الصفات المذمومة[19]. وهو يشير هنا للمرة الأولى إلى تجربته الشخصية التي نعثر على بعض جوانبها أيضاً في كتابه (إحياء علوم الدين) ومؤلفاته الأخرى. وبالأخص ما يتعلق منها بمحاولاته دخول الطريق الصوفي. فقد أورد في (ميزان العمل) قوله، بأنه عندما أراد دخول الطريق، شاور متبوعاً مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن، غير أن الصوفي طالبه قائلاً "السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية"[20]. فهو السبيل الوحيد الذي يجري فيه قطع الاختيار وبقاء الانتظار. غير أن ذلك لا يعكس في الواقع، سوى المظهر الأول لمحاولاته النظرية (العقلية) في ميدان التصوف، لا ممارسته العملية. فهو يشير في (ميزان العمل) وفي أعماله الأخرى اللاحقة، إلى "الكثير من الحقائق المنزّلة على المتصوفة هي من وحي الخيالات. وسببها في الأغلب غياب الرياضة بالعلوم البرهانية الحقيقية"[21]. إذ كم من صوفي، كما يقول الغزالي نفسه، بقي في خيال واحد عشر سنين إلى أن تخلص منه. ولو كان قد أتقن العلوم أولاً لتخلص منها على البديهة[22]. ومن هنا تأسيسه لضرورة معرفة علوم ما حصله الأوائل والأواخر.

وسوف يغير مواقفه هذه تغييراً جوهرياً، بحيث ينفي هذه المقدمة وشرطيتها الملزمة، وإبقاءها باعتبارها درجة ضرورية في بقاء الأسس العلمية (المعرفية) المتينة للتصوف. بصيغة أخرى، إن تغيير مواقفه اللاحقة عن مبدأ المعرفة الأولية والضرورية للدلائل والبراهين لا يعني نفي قيمتها. على العكس! إنه ظل جوهرياً في منظومته الصوفية أيضاً، بفعل مساره الشخصي، الذي مثّل أيضاً أحد تجليات الطريق. وكذلك الحال بالنسبة (لميزان العمل). فقد كان هو التمرين الأول الذي أثار في وعيه النظري الأخلاقي أفضلية الصوفية كما هي. ويمكن العثور عليه أيضاً في الاستثارة الداخلية لصراعه الذاتي، التي يحكي بعض حذافيرها المرهفة الإحساس في (المنقذ من الضلال). وبالأخص ما يتعلق بصراع الوعي النظري الأخلاقي ووضعها إياه كفرد وذات مفكرة أمام محك العمل، باعتباره خياره "الأبدي". وقد قدم لنا في كلماته صياغة غاية في الدقة لخلجات ضميره المضطرب. ولم يغيّر من حساسيتها شيئاً، كونها قيلت بعد سنين طويلة من فعل "الاختيار" الحازم لوضع حد لانتهاك العقل مستلزمات خلاصه الروحي. لهذا أخذ يفكر في حينها، كما يقول في (المنقذ من الضلال) وهو على مقام الاختيار، بتصميم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة الأحوال التي يعيشها يوماً ويحلّ العزم عنها يوماً. ويقدم فيه رجلاً ويؤخر أخرى. لا تصدق له الرغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جنّ الشهوة حملة فيغيرها عشية[23]. فما يدعوه لقطع علاقته بالدنيا يثير في نفسه شك الاعتراض على أن ما يواجهه هو مجرد حالة عابرة سريعة الزوال.

فهي الحالة التي تثير في النفس صراعات الضمير المستتر بالشكل الذي لا يخضع لرقيب غير رقيب العقل والمصلحة. وفي ما بينها ينبغي للروح أن يقطع شكوكه. وقد شغلت هذه الحالة قلب الغزالي وعقله في غضون الأشهر الستة التي مهدت حالة "تجاوزه حد الاختيار إلى الاضطرار"، أي كل ما سبق وأن كوّن حاله الذي أدى به إلى الانغلاق الذاتي، أو الحالة التي تحول فيها عالمه الروحي إلى ميدان الاختيار النهائي لحقائق الإرادة الباحثة عن معنى خارج ارتكانها المباشر لمهمات وغايات "الوجود الطبيعي"، أو هي ذاتها حالة "السرّ الأعظم" لمسيره الشخصي المتقلب بين فضائل العالِم ورذائله في علومه وأعماله. وليس هناك أكثر منه من كشف عنها في عباراته القائلة "كنت أجاهد نفسي أن أدرّس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إليّ، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة. حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب. فكان لا ينساغ لي ثريد ولا تنهضم لي لقمة. وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم في العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروّح السرّ عن الهمّ الملِّم"[24]. وهذا بدوره ليس إلا حصيلة الفكرة القائلة، بأن رجل العلم والمعرفة الحقيقي، أي الذي يرتقي إلى مصاف الروح، هو الذي يخلص في الأقوال والأعمال بمعايير الحق والحقيقة. وهو أمر نادر جدا. أما الإدعاء والألقاب فهي أشياء لا يعتد بها لأنها في أدنى حالاتها صورة بلا معنى، وفي أعلاها "بلاغة البلادة".

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص238.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص250.

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص331.

[4] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص331.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص329-230.

[6] سوف اتناول ظاهرة الملامتية الحقيقية والملامتية المفتعلة في بحث خاص. والغزالي يدرك الفرق أو البون الشاسع بينهما. وبالتالي، من الضروري فهم نقده الشديد لظاهرة الملامتية ضمن حدود فهمه الواقعي لمهمة الإصلاح والالتزام العلني بقواعد السلوك التي تذلل البون المفتعل بين الظاهر والباطن في السلوك الفردي وأبعاده الاجتماعية والأخلاقية العملية. كما ان لهذا النقد محدداته في رؤيته الخاصة لوحدة الشريعة والطريقة والحقيقة التي بلورتها ثقافته الفقهية والكلامية، كما نراها في أسس وغاية بديله النظري والعلمي. وضمن هذا السياق يمكن اعتبار نقده اللاذع للملامتية على انه شكل من أشكال تذليل وتخطي تجربة العوام الصوفية. إذ للمتصوفة أيضا خواصها وعوامها في الأتباع كما هو الحال بالنسبة لكل منظومة فكرية كبيرة قابلة للتغلغل في أوساط العامة.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص288.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص250.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص399.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص433.

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص432. إن الفكرة التي يشدد عليها الغزالي باستحالة اندراس العلم لها أساسها المنطقي في المعرفة. أما عمقها الثقافي هنا فيقوم باحتوائها الضمني على الصيغة الإصلاحية البديلة التي بلورها في فكرة بقاء العلوم بفعل الحوافز الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية واستمرارها في "طلب الرياسة والجاه". لقد ابقى على هذه القوى المادية والمعنوية، بوصفها قوى واقعية فاعلة في إنتاج وإعادة إنتاج العلوم ومؤسساتها. إلا انه بحث في واقعية هذه القوى عما يمكن نفيه بقوى الاخلاق الحية من اجل صنع لفيف الوحدة الحقيق والفعلية بين العلم والأخلاق. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة الملموسة لوحدة العلم والعمل. ولا يمكن فهم مضمون وحقيقة هذه المحاولة وأهميتها النظرية والعلمية بمعزل عن تجربته العملية ومساعيها النظرية في نقض وتهشيم مقومات ومكونات السوء في العلم وعلماء السوء. أما احكامه عن عدم اندراس طلب العلم فإنها تعكس من حيث مقدماتها الجازمة واقع الثقافة آنذاك واندفاع من محترفيها من علماء الدين وأمثالهم صوب روافد العلم وتفريعاته بوصفها جزء من حب السيادة والجاه.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص388-399.

[13] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص400-404.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص404-407.

[15] الغزالي: ميزان العمل، ص11.

[16] الغزالي: ميزان العمل، ص21.

[17] الغزالي: أيها الولد، ص94.

[18] الغزالي: أيها الولد، ص95.

[19] الغزالي: ميزان العمل، ص38.

[20] الغزالي: ميزان العمل، ص39.

[21] الغزالي: ميزان العمل، ص40.

[22] الغزالي: ميزان العمل، ص40.

[23] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص135.

[24] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص136.

 

في المثقف اليوم