دراسات وبحوث

شذوذ السلفية في إثباتهم (1)

منى زيتونالجوارح والجهة والانتقال ونحوه لله عزّ وجلّ

يذكر د.علي سامي النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص 235-236) أن "التشبيه والتجسيم كان قد بدأ ينتشر في عصر أبي حنيفة –المتوفى سنة 150هـ-، ورأى أبو حنيفة مقاتل بن سليمان ينشره في خراسان، فأعلن: "الله لا يشبه شيئًا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه" و "هو شيء لا كالأشياء". فيكون أبو حنيفة إذن أول من أطلق على الله الشيئية، وهو يستند في هذا إلى الآية ‏﴿‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً‏‏﴾‏‏ [الأنعام : 19]، ولكنه ينزهه فيقول "وهو لا كالأشياء" مستندًا على الآية ‏﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏‏﴾‏‏ [الشورى : 11]. وهو يقصد بشيء أنه تعالى موجود بذاته وصفاته، إلا أنه ليس كالأشياء الموجودة ذاتًا وصفة، أو بمعنى آخر إنه شيء لا تدركه الأفهام أو العقول"أهـ.

ومن أشهر المأثورات عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: "توحيده ألاّ تتوهمه". وعن الإمام أحمد بن حنبل قوله: "مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك". وعن يحيى بن معاذ قوله: "ما تصور في الأوهام فهو بخلافه". يقول الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص24-25) "ثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة أفعال الله سبحانه وتعالى وصفاته. ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال، وقد ثبت أن معرفة كُنه الذات أعلى وأجلّ وأغمض من معرفة كُنه الصفات، ولمّا عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال، فلأن نعزلهما في معرفة الذات أولى وأحرى"أهـ. سبحانه لا تبلغه الأوهام ولا ‏تدركه الأفهام ولا يشبه الأنام، الله أكبر من كل ما يمكن أن نتوهم.

وذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شبه من شبّه وتمرد" (ص12) "آيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، والقرآن والسنة طافحان بتنزيهه عز وجل، ومن أسمائه القدوس، وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه، وكذا في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] الخ، لما فيها من نفي الجنسية والبعضية، وغير ذلك مما فيه مبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى"أهـ.

يقول الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص236) "حاصل مذهب السلف أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها. وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات"أهـ.

وهنا يجب أن نقرر أول أسباب الإشكالية مع من يُسمُّون أنفسهم بالسلفية، فالخلاف في أصل التوحيد، ومنشأه الرئيسي هو ما يجب في باب الصفات الخبرية، هل نأخذ بـ (ظاهر المعنى) مع ما فيه من تشبيه وتجسيم، أم بـ (ظاهر اللفظ ونفوض المعنى) أي نمررها بلفظها كما جاءت بلا كيف، فلا نخوض في المعنى منعًا للتشبيه، أم نرفض ظاهر المعنى ولا نفوض فيه، بل (نؤول المعنى) وفقًا للمعروف في لسان العرب بما يليق بتنزيهه تعالى، ونفي كل ما يوهم بمماثلته لخلقه؟، والتأويل هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله.

فرفضهم للتأويل وتمسكهم بظواهر (معاني) نصوص الكتاب والسنة لتقرير اعتقادهم في الله ادعاءً أن هذا ما كان يفعله السلف، هو من خلطهم الذي يقعون فيه لمرادفتهم بين التوقف عند ظاهر اللفظ (تفويض المعنى بلا كيف) الذي كان فعل كثير من السلف، وبين الأخذ بـ (ظاهر المعنى) (إثبات المعنى والتفويض في الكيف)، وهو فعلهم المخالف لفعل السلف؛ ويُسمّون ما عدا ذلك تعطيلًا للصفات!، وبدلًا من أن يكونوا هم من يقيسون الله على خلقه مما جعلهم يثبتون معاني يلزم منها التشبيه، يدّعون أن من عطّل إثبات تلك الصفات المزعومة، فعل ذلك لكونه يقيس الخالق على المخلوق، فمنع إثباتها! ويتذرعون بقول الإمام مالك لمّا سُئِل عن الاستواء "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" بأنه إنما عنى بمعلوم أي معلوم عند العوام معناه الظاهر، وليس كما يفهم الأشاعرة، معلوم لأن الله أخبرنا به بلفظه، فنفوض المعنى بلا كيف.

والثابت عن السلف أنهم كانوا يتوقفون ويفوضون في المعنى، فيقولون: "لا معنى، من غير تفسير، الظاهر غير مُراد،....."، خاصة في بدايات ظهور الإسلام وقبل التوسع في الفتوحات، وكذا كان الحال عند من تلاهم من التابعين عندما يصعب عليهم فهم المعنى، فكان هذا اختيارهم، لا يأخذون بظاهر المعنى ولا يؤولون، وهو تفويض تنزيه، حتى لا يقعوا في التشبيه، وفرق بيِّن بينه وبين تجسيم السلفية. وربما لم يكن يصعب عليهم المعنى إلا في مواضع قليلة لأنهم كانوا أقحاح في اللغة قبل أن تضعف العربية على الألسنة بعد الفتوحات واختلاطهم بالشعوب المفتوحة.

قال أبو عيسى الترمذي تعقيبًا على حديث (2557)، كتاب (صفة الجنة)، باب (ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار): "وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس ‏يرون ربهم وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك و‏ابن عيينة و وكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا تُروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يُقال ‏كيف؟، وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروى هذه الأشياء كما جاءت، ويُؤمن بها، ولا تُفسر ولا ‏تتوهم، ولا يُقال كيف، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه"أهـ.

وأورد السبكي في "طبقات الشافعية" (ج5، ص185) قول إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في آخر عمره: "لقد قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها. كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد. والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق (عليكم بدين العجائز)، فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني" يريد نفسه. قال الحصني في "دفع شُبه من شبّه وتمرد" (ص29): قال أبو الوفاء بن عقيل: "معنى دين العجائز: أن المدققين بالغوا في البحث والنظر، ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل، فوقفوا مع المراسم، واستطرحوا وقالوا لا ندري""أهـ.

ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز قوله: انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]. فكان هذا فعل الصحابة وكثير من السلف، "التفويض في المتشابه من الصفات مع تنزيه الله وعدم التأويل"، وهو لا يعني الأخذ بظاهر معنى النص كما يدلس السلفية، لأن الأخذ بظاهر المعنى هو تفسير فيه قطع بالمعنى شأنه في ذلك شأن التأويل، مع ما في الأخذ بالظاهر من تجسيم وتبعيض وتوهم لله عز وجل، وهو ما يمتنع في حقه تعالى. والنصوص الثابتة عن الأئمة التي تثبت أن مذهبهم التفويض كثيرة، وقلَّ من كان مثل ابن عباس يكاد لا يُفوض في شيء ويؤول دائمًا، وكانت مزيّة في حقه، وكان يُسمى ترجمان القرآن، بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل.

ويقرر الشهرستاني في "المِلل والنِحل" (ج1، ص80-81) أن التفويض كان مذهب السلف، فلا تأويل ولا تشبيه بأخذ ظاهر المعنى. يقول: "وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل، ولا استهدفوا للتشبيه، فمنهم مالك بن أنس رضي الله عنه؛ إذ قال: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ومثل أحمد بن حنبل، وسُفيان، وداود الأصبهاني، ومن تابعهم، حتى انتهى الزمان، إلى عبد الله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، الحارث بين أسد المحاسبي، وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية، وبراهين أصولية، وصنّف بعضهم ودرس بعضهم، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح، فتخاصما، وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهبًا لأهل السنة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية".

فأئمة الإسلام بعد القرون الأولى شاع بينهم التأويل والبحث عن المعنى المراد بالنص وليس ظاهره غير المراد؛ كما أنهم رأوا التأويل ضرورة في بعض الآيات، فلا يمكن التوقف عند ظاهر اللفظ ولا قبول ظاهر المعنى، بل ينبغي التأويل تنزيهًا لله تعالى. ومن تلك الآيات ‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ [القصص:88]، و ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ  لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف:51] و ‏﴿‏نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُم‏‏﴾‏‏ [التوبة:67]، فلا بد من تأويل الوجه بالذات، وتأويل النسيان بالترك. تركوا العمل فتركهم الله في العذاب المبين، لأن النسيان نقص، لا يجوز في حق الله.

ولعل أعجب ما في السلفية أنهم يقرون بضرورة التأويل في آيات، كما يقرون بثبوت التأويل عن السلف في بعض الآيات كآية ‏﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏‏﴾‏‏ [الفجر: 22]، التي ثبت فيها التأويل عن الإمام أحمد بن حنبل، ولكنهم مع ذلك يُصرون على الأخذ بظاهر المعنى، فيقولون: هل يلزم من القول بالتأويل نفي ظاهر المعنى؟! فتأول الإمام أحمد مجيء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، بمجيء ثوابه للمؤمنين وعذابه للكافرين، ولا ينفي هذا مجيئه حقيقة ومعه جنته وناره! والأمر هنا أشبه بمن يقول: "هديل قمر"، وبعد أن يتأول قمر بالجمال، يصر على إجراء المعنى على ظاهره، وأنها أيضًا قمر حقيقة كالقمر الذي في السماء! والأدهى أنهم لا يفهمون عند المناظرة أن عليهم البرهنة أن ظاهر المعنى مراد كما يدّعون، والرد على الإشكالات المطروحة حوله.

والسلفية كذلك يكثرون من الخلط، ولا يفهمون المقصود من قول بعض الأئمة "الإجراء على الظاهر"، فيفهمون منه أنهم أرادوا ظاهر المعنى، بينما من يقرأ النص كاملًا يتحقق من أن مرادهم هو التوقف عند ظاهر اللفظ وإمراره، وأن المعنى الظاهر الموهم بالتشبيه غير مراد عندهم، ولدى السلفية كذلك انتقائية عالية في اختيار النصوص، فيقتصّون أجزاءً لا توضح ما أراده الإمام، ويبحثون عن شواذ الروايات التي تثبت تجسيمهم ويهملون ما عداها، فالأخذ بروايات واستبعاد أخرى، مبني عندهم على ما يوافق عقيدتهم، وليس على التحقيق العلمي، بل حتى أنهم يرفضون منهج الجمع بين الروايات إن كان الأخذ به سيؤدي لنتيجة تعاكس عقيدتهم، إضافة إلى خلط فهومهم المستقاة من عقيدتهم بالنصوص ليتوهموا موافقة النصوص لهم. ومن أمثلة اجتزاءاتهم المشهورة التي يروجونها بين أتباعهم، مقولة للإمام أبي حنيفة تُنسب إليه، يقول فيها: "من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في الأرض فقد كفر"، ويتوقفون عند هذا الحد من النقل لأنه يُعزز عقيدتهم، ولو أنصفوا لأكملوا قول الإمام، والمقولة بتمامها كالآتي: "من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في الأرض فقد كفر، لأن هذا يوهم أن لله مكانًا، ومن توهم أن لله مكانًا فهو مشِّبه"أهـ. وشتّان بين الروايتين.

ولم يكتفوا بذم التفويض، ورفض نسبته إلى السلف، ومعارضتهم التأويل، بادعاء أن ألفاظ القرآن مفهومة بلسان العرب، ويعنون مفهومة بظاهر معانيها أي الجوارح وكل ما لا يليق بالحق سبحانه وتعالى مما أجازوا نسبته إلى الله، ويرون أن ليس من بأس في أن نصف الله بما وصف به نفسه، ولكن هل وصف الله نفسه حقًا بما ادّعى السلفية؟! وزعيمهم في هذا الخلط، ابن تيمية، الذي على عادته في تبديع المخالفين، اتهمهم بأن قولهم من شر أقوال أهل البدع والإلحاد! وكلام ابن تيمية وتهوكاته في باب الصفات مما أكثر فيه وبالغ، ولعله من أشنع مخالفاته العقدية، على كثرة ما له من مخالفات، والتي سنتعرض لها عند عرض فتنته.

بينما ينقل الكوثري في حاشية تحقيقه كتاب "دفع شبهة التشبيه" لابن الجوزي (ص 61) عن الإمام المجتهد ابن دقيق العيد في "شرح المشكاة" قوله: "والحاصل أن السلف والخلف مؤولون لإجماعهم على صرف اللفظ عن ظاهره، ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى الله تعالى، وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين".

جاء في "جوهرة التوحيد" للإمام اللقّاني المالكي:

وكل نصٍ أوهم التشبيها ***** أوِّلْه أو فوّض و رُمْ تنزيها

يقول البيجوري في "حاشيته على جوهرة التوحيد" (ص156-157) في شرح البيت "قوله (أوِّلْه): أي احمله على خلاف ظاهره مع بيان المعنى المراد، فالمراد: أوّله تأويلًا تفصيليًا بأن يكون فيه بيان المعنى المراد كما هو مذهب الخلف، وهم من كانوا بعد الخمسمائة، وقيل: من بعد القرون الثلاثة. وقوله (أو فوِّض) أي: بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوِّض المراد من النص الموهم إليه تعالى على طريقة السلف، وهم من كانوا قبل الخمسمائة، وقيل القرون الثلاثة: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين. وطريقة الخلف أعلم وأحكم، لما فيها من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم، وهي الأرجح، ولذلك قدمها المصنف، وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى. وقوله: (ورمْ تنزيها) أي: واقصد تنزيهًا له تعالى عما لا يليق به مع تفويض علم المعنى المراد، فظهر مما قرّرناه اتفاق السلف والخلف على التأويل الإجمالي، لأنهم يصرفون المُوهم عن ظاهره المحال عليه تعالى، لكنهم اختلفوا بعد ذلك في تعيين المراد من ذلك النقص وعدم التعيين. والحاصل أنه إذا ورد في القرآن أو السُنة ما يُشعر بإثبات الجهة أو الجسمية أو الصورة أو الجوارح، اتفق أهل الحق –يعني الأشاعرة- وغيرهم ما عدا المجسمة والمشبهة على تأويل ذلك لوجوب تنزيهه تعالى عما دلّ عليه ما ذُكر بحسب ظاهره"أهـ.

فمع فتوح البلدان وفناء جيل الصحابة وزيادة أعداد المسلمين، وزيادة طرح الأسئلة لم يكن هناك بُدّ من الرد عليها عن طريق تأويل النصوص وفق قواعد اللغة لتنزيه الله تعالى باستبعاد المعنى الراجح الصريح لتلك النصوص لامتناعه في حق الله تعالى، وإعطاء تفسيرات للنصوص باستخدام المعاني المرجوحة لغويًا لتلك الألفاظ.

ويناقش الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص220-221) مسألة تعارض البراهين العقلية مع الظواهر النقلية. يقول: "اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يُشعر ظاهرها بخلاف ذلك. فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: إما أن يُصدق مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضين وهو محال، وإما أن نبطلهما فيلزم تكذيب النقيضين، وهو محال، وإما أن تكذب الظواهر النقلية، وتصدق الظواهر العقلية، وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الطواهر العقلية، وذلك باطل، لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية، صار العقل متهمًا، غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول. وإذا لم تثبت هذه الأصول، خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة. نثبت: أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا، وإنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يُقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة: بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يُقال إنها غير صحيحة، أو يُقال إنها صحيحة، إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل. وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات"أهـ.

وهذا القانون منصوص عليه عند الأشاعرة، وليس المقصود به أحكام الله تعالى التي نقبل بها وإن لم تفهمها عقولنا، بل المقصود آيات القرآن وبعض الأحاديث، والتي نقبل المجاز فيها عند تعارض الظاهر مع ما يليق به تعالى ويمتنع في حقه. وقد ثبت عن الإمام علي أنه قال لابن عباس عندما بعثه لمناظرة الخوارج "ناظرهم بالسُنة فإن القرآن حمال أوجه"، وكذا ما قاله الإمام ‎‎الشافعي‎ ‎عن‎ ‎القرآن‎ "وأن منه ظاهرًا يُعرف في سياقه أنه يراد به غير ‏ظاهره"، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بأن يعلمه الله التأويل. والتأويل في حقيقته هو بحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى، مع اليقين أن هذا المعنى لا يعلمه إلا هو سبحانه ‏﴿‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ‏...‏‏﴾‏‏ [آل عمران: 7]. وأقول إن هذه الآية حجة على القائلين بضرورة الأخذ بظاهر النصوص في بعض الآيات التي يمتنع فيها الظاهر تنزيهًا لله، لأن الله قطع بأن لها تأويلًا، وكون أن لها تأويلًا دليل بأن المقصود بها غير ظاهرها. فإما أن تتوقف فيها، أو تُحاول تأويل معناها، على ألا تؤكد ثقتك بذاك التأويل، فتذكر ما أفهمك الله إياه، ثم تقول: والله أعلم.

وأقول أيضًا: إن السلفية بإصرارهم على الأخذ بظاهر المعنى ينفون عن القرآن بيانه وهو سبب إعجازه، فالحمل على الظاهر أشبه بالترجمة الحرفية التي لا توضح المعنى وتفتقد إلى البلاغة. وقد روى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" (ص325) عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله تبارك وتعالى: ‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏‏﴾‏‏ [القلم: 42]‏‏، قال: "إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب". ومثله قاله ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه": إن التأويل الشائع  مثله في كلام العرب. وصنّف الشريف الرضى كتابًا رائعًا جمع فيه مجازات القرآن. ولكن السلفية لا يعقلون أن بالقرآن مجازات، فرفضوها لتستقيم عقيدتهم المجسمة المشبهة.

وصدق الشاعر إذ قال:

كم من عائبٍ قولًا صحيحًا *** وآفته من الفهمِ السقيمِ

وقد مر بنا أن الخوارج قد حملوا آيات الوعيد على ظاهر المعنى، ففسروها على أنها تثبت كفر من كانت حاله حال المتوعدين، وأفسدت عليهم دينهم، أما عن النصوص التي استدل السلفية بظاهر معناها على وجود الجوارح والتحيز والانتقال ونحوه لله تعالى –وحاشاه-، فقد جمع د/سيف العصري نقولًا عن أكثر من مائة من أكابر أئمة المسلمين تقطع بأن مذهبهم فيها هو التفويض وليس التفسير بظاهر المعنى، وصنّفها في كتاب "القول التمام بإثبات التفويض مذهبًا للسلف الكرام"، ومنهم أكابر أئمة الحنابلة كابن الجوزي وابن قُدامة المقدسي وابن هُبيرة والجيلاني وابن رجب. ولست هنا بصدد نقل بعض من هذه النقول من أمهات الكتب، بل يعنيني أن أُثبت أن التأويل الذي يتحدث عنه السلفية باعتباره ابتداعًا قد ثبت أيضًا عن كثير من كبار أئمة المسلمين، على اختلاف عقائدهم (أشاعرة- معتزلة- شيعة) ومذاهبهم (شافعية- مالكية- حنفية- حنبلية- ظاهرية- جعفرية)، بل وثبت التأويل عن بعض الصحابة فيما نُقِل عنهم. وسنتتبع تفسيراتهم لبعض من تلك الآيات والأحاديث الموهمة بالتشبيه والتجسيم في الحلقات القادمة من المقال.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم