دراسات وبحوث

شذوذ السلفية في إثباتهم (2)

منى زيتونالجوارح والجهة والانتقال ونحوه لله (1)

نتتبع في الجزء الثاني من المقال تفسيرات سلف الأمة الحقيقيين لبعض من تلك الآيات والأحاديث الموهمة بالتشبيه والتجسيم في حق الله عز وجل، التي أخذت الفرقة المسماة بالسلفية في تفسيرها بظاهر المعنى. على سبيل المثال:

لابن حزم الظاهري في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص347-348) ‏كلام مطول في تأويل الألفاظ الدالة على جوارح ورفض إدخالها في الأسماء والصفات. قال رحمه الله فيما يخص نفي الوجه: "قال الله تعالى: ‏‏﴿‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ [الرحمن:27]، فذهب المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم. وقال الآخرون: وجه الله تعالى إنما يُراد به: الله عز وجل. قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته، لما أبطلنا من القول بالتجسيم. وقال أبو الهذيل: وجه الله هو الله. قال أبو محمد: وهذا لا ينبغي أن يُطلق، لأنه تسمية، وتسمية الله تعالى لا تجوز إلا بنص، ولكنا نقول: وجه الله ليس هو غير الله تعالى، ولا نرجع منه إلى شيء سوى الله تعالى. برهان ذلك قول الله حاكيًا عمن رضي قوله: ‏﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏‏﴾‏‏ [الإنسان: 9]. فصح يقينًا أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى به، وقوله عز وجل: ‏﴿‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏‏﴾‏‏ [البقرة: 115]. إنما معناه: فثم الله تعالى بعلمه وقبوله لمن توجه إليه"أهـ.

وقال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير الآية: ‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ [القصص:88] "والوجه ههنا عبارة عن ذات الشيء ونفسه، وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه ‏﴿‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ [الرحمن:27] أي ويبقى ذات ربك. ومن الدليل على ذلك؛ الرفع في قوله ‏﴿‏ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ لأنه صفة للوجه الذي هو الذات، ولو كان الوجه ههنا بمعنى العضو المخصوص على ما ظنّه الجهّال، لكان وجه الكلام أن يكون "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ"، فيكون "ذي" صفة للجملة لا صفة للوجه الذي هو التخاطيط المخصوصة، كما يقول القائل: "رأيت وجه الأمير ذي الطول والإنعام"، ولا يقول "ذا الطول والإنعام"، من صفات جملته لا من صفات وجهه. ويوضح ذلك قوله تعالى في هذه السورة ‏﴿‏تبارك اسم رَبِّكَ ذي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ [الرحمن:78]، لمّا كان الاسم غير المسمى وصف سبحانه المضاف إليه، ولمّا كان الوجه في الآية المتقدمة هو النفس والذات، قال تعالى: ‏﴿‏ذُو الْجَلالِ﴾‏‏، ولم يقل "ذي الجلال والإكرام". ويقولون عين الشيء ونفس الشيء على هذا النحو. وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو أن يُراد بالوجه ههنا ما قُصد الله به من العمل الصالح والمتجر الرابح على طريق القُربة وطلب الزلفة، وعلى ذلك قول الشاعر: أستغفرُ الله ذنبًا لستُ محصيه*** ربُ العباد إليه الوجه والعمل. أي إليه تعالى قصد الفعل الذي يُستنزل به فضله، ودرجات عفوه، فأعلمنا سبحانه أن كل شيء هالك إلا وجه دينه الذي يُوصَل إليه منه، ويُستزلف عنده به، ويُجعل وسيلًا إلى رضوانه وسببًا لغفرانه"أهـ.

وأقول: إن من طرائف تلك الفرقة أنهم حين يضطرون إلى التأويل ينسبونه إلى الظاهر! بالرجوع إلى موقع ابن باز لمعرفة رأيه في تفسير الآية ‏‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏‏﴾ [القصص:88].‏‏ ‏قال: "على ظاهرها ‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ كل الناس يموتون، إلا الرب جل وعلا فإنه الحي الذي لا يموت، كما قال سبحانه: ﴿‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ‏‏﴾، وقال في معنى قول الله تعالى في سورة الرحمن: ‏﴿‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ‏‏﴾‏‏ [الرحمن: 26-27] الظاهر مكان الأرض، وكل ما في الأرض هو فاني. الجبال تُدك، والأشجار والأحجار تذهب، والجن والإنس يموتون، والحيوانات تموت. ما يبقى شيء إلا الله سبحانه وتعالى"أهـ.

وأقول: فهل تفسير وجهه بأنه هو ذاته سبحانه من ظاهر النص -كما يدعي ابن باز- أم من التأويل؟! وبما استدللتم على وجود الوجه إذن وأصررتم أنه من صفاته سبحانه وكفّرتم من أنكروه؟! قال الكوثري في تحقيقه لكتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي (ص 287): "هذه الآية ‏‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ [القصص:88]، نص على أن المراد بالوجه الذات، لا صفة من الصفات، ولا عضو من الأعضاء". ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تعليقه على آية [الرحمن:27] (ص302) "لو كان الكلام محمولًا على ظاهره لكان فاسدًا مستحيلًا على قولنا وقول المخالفين، لأنه لا أحد يقول من المشبِّهة والمجسِّمة الذين يثبتون لله سبحانه أبعاضًا مؤلفة وأعضاءً مصرَّفة أن وجه الله تعالى يبقى وسائره يبطل ويفنى، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا"أهـ.

وكذا لم يثبت السلف، ومن تابعهم من كبار أئمة المسلمين، اليد والعين كجوارح إلى الله، كما فعلت السلفية أخذًا بظاهر معاني النصوص، يقول ابن حزم في الفِصل (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص348-349): "‏وقال تعالى: ‏﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏‏﴾‏‏ [الفتح: 10]‏‏، وقال تعالى: ﴿‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏‏﴾‏‏ [ص:75]، وقال تعالى: ‏﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا‏‏﴾‏‏ [يس: 71]‏‏، وقال: ‏﴿‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏‏﴾ ‏[المائدة: 64]‏‏‏، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)، فذهبت المجسمة إلى ما ذكرنا مما قد سلف من بطلان قولهم فيه،...، بل نقول إن هذا إخبار عن الله عز وجل، لا يُرجع من ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى. ونقر أن لله تعالى -كما قال- يدًا ويدين وأيدي، وعينًا وأعينًا كما قال عز وجل: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾‏‏، ‏[طه: 39]، وقال تعالى: ‏﴿‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ ‏[الطور: 48]. ولا يجوز لأحد أن يصف الله تعالى بأن له عينين لأن النص لم يأت بذلك ونقول: إن المراد بما ذكرنا الله عز وجل لا شيء غيره. وقال تعالى حاكيًا عن قول قائل: ‏﴿يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾ [الزمر:56]‏‏، وهذا معناه فيما يقصد به الله عز وجل، وفي جانب عبادته، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين، وعن يمين الرحمن)، فهو مثل قوله: ‏‏﴿‏مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏‏﴾‏‏ [النساء: 24-25-36]، يريد (وما ملكتم)، ولمّا كانت اليمين في لغة العرب يراد بها الحظ للأفضل كما قال الشماخ: إذا ما راية رُفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين، يريد أنه يتلقاها بالسعي الأعلى، كان قوله: (وكلتا يديه يمين) أي كل ما يكون منه تعالى من الفضل فهو الأعلى"أهـ. فمذهب ابن حزم الظاهري، وأئمة السلف، إمرار هذه الآيات على ظاهر اللفظ، مع اليقين أن المقصود بها ليس الجوارح، بل هي تعبيرات مما يقتضيه لسان العرب، فكل لفظ من ألفاظ الجوارح عند الإنسان له دلالته البلاغية؛ فاستخدمها الله عز وجل للدلالة على ذاته العليّة في القرآن، الذي نزل بلسانٍ عربي مبين، رغم أنه الأحد الصمد المُنزَّه عن كل تأليف وتبعيض.

وفي تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏‏‏‏‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ [الزمر:67]، يقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن": "معنى ‏﴿‏‏‏‏‏قَبْضَتُهُ‏‏﴾ ههنا أي ملك له خالص قد ارتفعت عنه أيدي المالكين من بريته، والمتصرفين فيه من خليقته، وقد ورث تعالى عباده ما كان ملكهم في دار الدنيا من ذلك، فلم يبق ملك إلا انتقل ولا مالك إلا بطل، وقيل أيضًا: معنى ذلك أن الأرض في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض، ويستولي عليه كفه، ويجوزه ملكه، ولا يشاركه فيه غيره. ومعنى قوله ‏﴿‏‏‏‏‏وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ أي مجموعات في ملكه، ومضمونات بقدرته، واليمين ههنا بمعنى الملك. يقول القائل: هذا ملك يميني وليس يريد اليمين التي هي الجارحة، وقد يُعبرون عن القوة أيضًا باليمين، فيجوز على هذا التأويل أن يكون معنى قوله تعالى: ‏﴿‏‏‏‏‏مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ أي يجمع أقطارها، ويطوي انتشارها بقوته، كما قال سبحانه: ‏﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ‏‏﴾. وقيل لليمين ههنا وجه آخر، وهو أن يكون بمعنى القسم، لأنه تعالى لما قال في سورة الأنبياء ‏﴿‏‏‏‏‏ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104]، كان التزامه تعالى فعل ما أوجبه على نفسه بهذا الوعد، كأنه قسم أقسم به ليفعلنّ ذلك، فأخبر سبحانه في هذا الموضع من السورة الأخرى إن ‏﴿‏‏‏‏‏َالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ أي بذلك الوعد الذي ألزم نفسه تعالى وجرى مجرى القسم الذي لا بد أن يقع الوفاء به والخروج منه، والاعتماد على القولين المتقدمين أولى"أهـ.

أما البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص312-313) فقد سرد بعض ما ثبت من توقف السلف، ورفض القول بالجارحة كما يقتضي الظاهر، يقول: "أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيتين والأخبار في هذا الباب مع اعتقادهم بأجمعهم أن الله تبارك وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض". وذكر أقوال بعضهم، من ذلك توقف قتادة عن تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏‏‏‏‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ [الزمر: 67]، وقول سفيان بن عُيينة "كل ما وصف الله تعالى من نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته، والسكوت عليه"، وكذا قول عبد الله بن المبارك عن الصفات الخبرية: "أنا أشد الناس كراهية لذلك –أي ذكر الصفة التي ظاهرها الجارحة-، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء جسرنا عليه، وإذا جاءت الأحاديث المستفيضة الظاهرة تكلمنا به"، قلت –أي البيهقي-: "وإنما أراد والله أعلم الأوصاف الخبرية، ثم تكلمهم بها على نحو ما ورد به الخبر لا يجاوزونه"، ثم ذهب البيهقي للحديث عن معنى اليد واليمين ونحوه وفقًا لما قال به العلماء، فقال: "وذهب بعض أهل النظر إلى أن اليمين يُراد به اليد، والكف عبارة عن اليد، واليد لله تعالى صفة بلا جارحة، فكل موضع ذُكرت فيه من كتاب وسُنة صحيحة فالمراد بذكرها تعلقها بالكائن المذكور معها، من الطي والأخذ، والقبض والبسط، والمسح والقبول والإنفاق، وغير ذلك تعلق الصفة الذاتية بمقتضاها من غير مباشرة ولا مماسة، وليس في ذلك تشبيه بحال، وذهب آخرون إلى أن القبضة في غير هذا الموضع قد يكون بالجارحة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وقد يكون بمعنى المُلك والقدرة، وقد يكون بمعنى إفناء الشيء وإذهابه"، ثم ساق من المرويات والأشعار ما يعضد هذا المذهب في تفسير اليمين، وختم: "ليس معنى اليد عندنا الجارحة"أهـ.

وكذا يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: "القول في تفسيره في تأويل قوله: ‏﴿‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ ‏يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ‏‏﴾‏‏ [المائدة: 64]. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ‏ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، ‏وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم. ‏ويقول تعالى ذكره: "وقالت اليهود"، من بني إسرائيل "يد الله مغلولة"، يعنون: أن خير ‏الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه ‏صلى الله عليه وسلم: ‏﴿‏وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏‏﴾‏‏ [الإسراء: 29]. ‏وإنما وصف تعالى ذكره "اليد" بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم ‏الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ‏ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في ‏مدح رجل: ‏يَــدَاكَ يَــدَا مَجْـدٍ, فَكَـفٌ مُفِيـدَةٌ ‏*** وَكَـفٌّ إذَا مَـا ضُـنَّ بِـالزَّادِ تُنْفِـقُ. فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى "اليد". ومثل ذلك من كلام العرب ‏في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في ‏كلامهم".

وعن قوله تعالى: ‏‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏‏﴾‏‏ [الفتح:10] يؤولها الشريف الرضى في "مجازات القرآن"، فيقول: "اليد ههنا تُعرف على وجوه: أحدها أن يكون المعنى عقد البيعة فوق عقدهم. وقيل: المراد قوة الله تعالى في نُصرة نبيه عليه السلام فوق قوة نصرتهم. وقيل: اليد ههنا بمعنى السلطان والقدرة، كما يقول القائل: فلان تحت يد فلان، أي تحت يد سلطانه وأمره، فيكون المعنى أن سلطان الله تعالى في هذا الأمر فوق سلطانهم وأمره فوق أمرهم. وقيل في ذلك وجه آخر، وهو أن العادة جارية في المبايعات والمعاقدات أن تقع الصفقة بالأيدي من البائع والمشتري، ومن هناك قالوا: صفقة رابحة وصفقة خاسرة، فقيل: ‏﴿‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏‏﴾‏‏ ذهابًا إلى هذا المعنى، كأنه سبحانه قال: فالذي أعطاكم الله في هذه المبايعة أعلى مما أعطيتم وأجل وأربح وأفضل"أهـ.

ويقول الإمام الطبري في تفسيره للقرآن: "القول في تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏‏﴾‏‏ ‏[الذاريات: 47] يقول تعالى ذكره: والسماء رفعناها سقفًا بقوة"، ثم أتبع قائلًا: "وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"، ونقل تأويل الأيدي بالقوة ‏بالأسانيد عن‎ ‎ابن عباس‎ ‎ومجاهد‎ ‎وقتادة‎ ‎ومنصور وابن زيد وسفيان.‏

ومثلها قوله تعالى: ‏﴿‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏‏﴾‏‏ [يس:71]. ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسيرها: "والمراد بذكر الأيدي ههنا قسمان من أقسام اليد في اللغة العربية. إما أن تكون بمعنى القوة أو بمعنى تحقيق الإضافة، فكأنه سبحانه يقول: أولم يروا أنا خلقنا لهم أنعامًا اخترعناها بقوة تقديرنا، ومتقن تدبيرنا، أو يكون المعنى أن هذه الأنعام مما تولينا خلقه من غير أن يشاركنا فيه أحد من المخلوقين، لأن المخلوقين قد يعملون سفائن البحر، ولا يعملون سفائن البر المذللة ظهورها، والمحللة لحومها، فهذا وجه فائدة الإضافة في قوله تعالى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏‏﴾‏‏، والله تعالى أعلم".

ويقول الإمام القرطبي في تفسيره للقرآن: "قوله تعالى: ‏﴿‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ ‏[الطور: 48]،‏ أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾‏‏ ‏[طه: 39]، أي بحفظي وحراستي وقد تقدم"أهـ. وذكر البغوي في تفسير الآية: "‏﴿‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ أي بمرأىً مِنَّا، قال ابن عباس: نرى ما يُعْمَلُ بك. وقال الزجَّاج: إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مكروهك"أهـ.

ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى: ‏﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏‏﴾ [هود: 37]: "هذه استعارة، ومعناها واصنع الفلك بأمرنا ونحن نرعاك ونحفظك. ليس لله عينًا تلحظ ولا لسانًا يلفظ، وذلك كما يقول القائل: إنا بعين الله، أي بمكان من حفظ الله، ومن كلامهم للظاعن المشيّع والحميم المودّع: صحبتك عين الله، أي رعايته وحفظه". وقال في تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾‏‏ ‏[طه: 39] "والمراد بذلك والله أعلم أن تتربى بحيث أرعاك وأراك، وليس هناك شيء يغيب عن رؤية الله سبحانه، ولكن هذا الكلام يفيد الاختصاص بشدة الرعاية وفرط الحفظ والكلاءة. وقد يجوز أيضًا أن يكون المراد بذكر العين ههنا علمه بمكانه، فقال: ولتُصنع وأنا عالم بما يفعل بك، وكذلك قوله تعالى: ‏﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ [القمر: 14]، أي تجري ونحن عالمون بجريها غير خافٍ علينا شيء من تصرفها، وحسن أن تقوم العين مقام العلم، لما كانت العين طريق العلم، وقال تعالى: ‏﴿بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ ولم يقل: بعيننا، لما خاطب الجميع على طريق التفخيم والتعظيم"أهـ.

وقال البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص297): "من أصحابنا من حمل العين المذكورة في الكتاب على الرؤية، وقال: قوله: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾ [طه: 39]‏‏، معناه بمرأى مني، وقوله: ‏﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾ ‏‏‏[الطور: 48] أي بمرأىً مِنَّا، وكذلك قوله: ‏﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ [القمر: 14]. والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسُنة من إثبات العين له صفة لا من حيث الحدقة أولى". أي أن حقيقة رأي البيهقي هو إثباته العين نصًا، مع ترجيح أن المراد بها صفة الإبصار التي لا يختلف عليها أحد من المسلمين كصفة من صفاته عز وجل، وليس أن المراد بها العين الجارحة، وهو ما لا يخدم قول المجسمة، ومثله كثير في كتاب البيهقي.

وذكر ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص74-75): "روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدجَّال فقال: "ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور". قال العلماء: إنما أراد تحقيق وصفه بأنه لا يجوز عليه النقص، ولم يرد إثبات جارحة، لأنه لا مدح في إثبات جارحة، بل كأنه قال: إن ربكم ليس بذي جوارح يتسلط عليها النقائص، وهذا مثل نفي الولد عنه لأنه يستحيل عليه التجزيء. ولو كانت الإشارة إلى صورة كاملة لم يكن في ذلك دليل على الإلهية ولا القِدم، فإن الكامل في الصورة كثير"أهـ.

وأورد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص13) أقوال كبار الحنابلة في إثباتهم صفة العين، ورده عليهم. قال: ‏"وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة –وهو حنبلي العقيدة شافعي المذهب- فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما، وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين. وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم (ليس بأعور)، وإنما أُريد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه"أهـ.

وأقول: إنه من الغرائب أنه لا يوجد نص من آية أو حديث يثبت العين بصيغة المُثنى، بينما أثبت السلفية لله عينين، وهذا دليل على توهمهم لله كجسم؛ لأنه ما حملهم على إثبات عينين اثنتين لم تأت بهما النصوص إلا تجسيمهم، وقياسهم لله على مخلوقاته.

ومن تأويل السلف للجنب في الآية الكريمة ‏﴿‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾ [الزمر:56]. يقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن": "قد اُختلِف في المراد بالجنب ههنا، فقال قوم: معناه في ذات الله. وقال قوم: معناه في طاعة الله، وفي أمر الله، إلا أنه ذكر الجنب على مجرى العادة في قولهم هذا الأمر صغير في جنب ذلك الأمر أي في جهته، لأنه إذا عُبر عنه بهذه العبارة دلّ على اختصاصه به من وجه قريب من معنى صفته. وقال بعضهم: معنى في جنب الله أي في سبيل الله، أو في الجانب الأقرب إلى مرضاته بالأوصل إلى طاعاته، ولما كان الأمر كله يتشعب إلى طريقين: إحداهما هدى ورشاد، والأخرى غي وضلال، وكل واحد منهما مجانب لصاحبه، أي هو في جانب والآخر في جانب، وكان الجنب والجانب بمعنى واحد، حسُنت العبارة ههنا عن سبيل الله بجنب الله على النحو الذي ذكرناه"أهـ.

ومن تأويل السلف للأصابع، يقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص350): "‏وكذلك الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله تعالى)، أي بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عز وجل ونعمه، إما كفاية تسره، وإما بلاء يأجره عليه. والإصبع في اللغة: النعمة. وقلب كل أحد بين توفيق الله وجلاله، وكلاهما حكمة".

وقد احتجت الفرقة المسماة بالسلفية أيضًا في هذا الباب، بحديث إمساك السموات والأرض على أصابع الذي حكاه الحبر اليهودي للرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الراوي إن الرسول ضحك تصديقًا له. رواه الإمام البخاري، والإمام مسلم. وللإمام النووي في "المنهاج" (ج17، ص129-130) شرحٌ مستجاد لهذا الحديث يوضح مذهبيّ الأمة المخالفين لقول من يسمون بالسلفية، يقول: "قوله –أي الحبر- (إن الله يمسك السموات على أصبع والأرضين على أصبع إلى قوله ثم يهزهن). هذا من أحاديث الصفات، وقد سبق فيها المذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الايمان بها مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد. فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار، أى خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع فى مثل هذا للمبالغة والاحتقار، فيقول أحدهم بأصبعى أقتل زيدًا، أى لا كُلفة عليّ في قتله، وقيل يُحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته، وهذا غير ممتنع، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة –أي مستحيلة في حق الله-. قوله (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال الحبر تصديقًا له ثم قرأ ‏﴿‏‏‏‏‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ [الزمر: 67]‏‏‏‏‏‏، ظاهر الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم صدّق الحبر فى قوله: إن الله تعالى يقبض السموات والأرضين والمخلوقات بالأصابع، ثم قرأ الآية التى فيها الإشارة إلى نحو ما يقول. قال القاضي: وقال بعض المتكلمين: ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته للآية تصديقًا للحبر، بل هو ردّ لقوله، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده، فإن مذهب اليهود التجسيم، ففهم منه ذلك. وقوله (تصديقًا له) إنما هو من كلام الراوي على ما فهم، والأول أظهر"أهـ. وإلى مثل هذا الرأي أشار البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص318).

بينما يُخلِّط القاضي أبو يعلى المجسم الحنبلي –على عادته- فيقول، فيما رواه عنه ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص54-55): "غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع صفات راجعة إلى الذات، لأنّا لا نثبت أصابع هي جارحة ولا أبعاض. ويرد عليه ابن الجوزي: وهذا كلام مخلّط، لأنه إما أن يُثبت جوارح، وإما أن يتأولها. أما حملها على ظاهرها فظاهرها الجوارح. ثم يقول: ليست أبعاضًا. فهذا كلام قائم قاعد، ويضيع الخطاب لمن يقول هذا".

وعن نسبتهم القدم لله تعالى –وحاشاه- وإصرارهم على الأخذ بظاهر الآيات فيما يشبه الترجمة الحرفية في زماننا، فقد خالفوا إجماع سلف الأمة كعادتهم. يقول الطبري: "القول في تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏‏﴾‏‏ [القلم: 42]، قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل ‏التأويل: يبدو عن أمر شديد". ‏وذكر الطبري من قال ذلك، وأشهرهم ابن عباس بعدة أسانيد، فروي في إحدى الروايات أنه قال: "هو يوم حرب وشدّة"، وفي رواية أنه قال: "عن أمر عظيم كقول الشاعر: (وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساقٍ)"، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: "حين يُكشف الأمر، وتبدو الأعمال، وكشفه: دخول الآخرة ‏وكشف الأمر عنه". ‏ورواية أخرى عنه يقول: "هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة". وروى الطبري عن إبراهيم أنه قال: "ولا يبقى ‏مؤمن إلا سجد، ويقسو ظهر الكافر فيكون عظمًا واحدًا. –ثم أضاف إبراهيم- ‏وكان ابن عباس يقول: (يكشف عن أمر عظيم، ألا تسمع العرب تقول: ‏وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساق)". وروى الطبري في رواية عن مجاهد، ‏قوله: "‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‎‏‏‏﴾‏‏ قال: شدة الأمر وجدّه؛ -ثم أضاف مجاهد- قال ابن عباس: هي أشد ساعة في يوم ‏القيامة"، وغيرها. كما روى الطبري عن سعيد بن جبير قوله في الكشف عن الساق "قال: ‏عن شدّة الأمر". ‏وروى عن قتادة في قوله: ‏‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‎‏‏‏﴾‏‏ "‏قال: عن أمر فظيع جليل". ورواية أخرى عن قتادة "قال: يوم يكشف عن شدة الأمر". ‏‏وكان ممن رووا ذلك التفسير عن ابن عباس كبار التابعين كأسامة بن زيد وعكرمة وابن حميد وابن المبارك وسفيان والمغيرة وإبراهيم وابن جريج ومجاهد والضحاك، وممن رووه عن قتادة ابن عبد الأعلى وابن ثور ومعمر، فكيف يتجرأ هؤلاء المتأسلفة بعد ذلك بادعاء الانتساب إلى السلف؟!

وذكر الفخر الرازي في تفسيره (ج30، ص94)، "‏‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‎‏‏‏﴾‏‏: في تفسير الساق وجوه. الأول، أنه الشدة، وروي عن ابن عباس أنه أشار إلى معناه في الشعر (وقامت الحرب بنا على ساق)، ثم قال: وهو كرب وشدة، وروى مجاهد عنه قال: هو أشد ساعة في القيامة. ثم قال ابن قتيبة: "أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، يشمّر عن ساقه، فلا جرم يُقال في موضع الشدة: كشف عن ساقه، واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى، يستحيل أن يكون جسمًا، فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز، واعلم أن صاحب الكشّاف –أي الزمخشري- أورد هذا التأويل في معرض آخر، فقال: الكشف عن الساق مثلٌ في شدة الأمر، فمعنى قوله ‏‏‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‎‏‏‏﴾‏‏ يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم، ولا ساق –يعني أنه لا ساق حقيقية لتُكشف كما هو ظاهر المعنى-، كما تقول للشحيح يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل. وإنما هو مثلٌ في البخل. والقول الثاني، هو قول أبي سعيد الضرير: يوم يُكشف عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر، وساق الإنسان، أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها. القول الثالث، يوم يُكشف عن ساق جهنم، أو عن ساق العرش، أو عن ساق ملك مهيب عظيم، واللفظ لا يدل إلا على ساق، فأما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه. والقول الرابع، وهو اختيار المشبهة، أنه ساق الله، تعالى الله عنه، واعلم أن هذا القول باطل"أهـ.

وروى القرطبي في تفسير قوله تعالى ‏﴿‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏‏﴾‏‏ ‏[ يونس: 2]‏ "اختُلف في معنى ‏﴿‏قَدَمَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ فقال ابن عباس: قدم صدق منزل صدق؛ دليله قوله تعالى: ‏﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ [الإسراء: 80]. وعنه أيضًا أجرًا حسنًا بما قدموا من أعمالهم. وعنه أيضًا ‏﴿‏قَدَمَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ سبق السعادة في الذكر الأول، وقاله مجاهد. الزجاج: درجة عالية. قال ذو الرمة: (لكم قدر لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العالي طمت على البحر). قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يمان: إيمان صدق. وقيل: دعوة الملائكة. وقيل: ولد صالح قدموه. الماوردي: أن يوافق صدق الطاعة الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضًا: هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه شفيع مطاع يتقدمهم؛ كما قال: (أنا فرطكم على الحوض). وقد سُئل صلى الله عليه وسلم فقال: (هي شافعتي توسلون بي إلى ربكم). وقال الترمذي الحكيم: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود. وعن الحسن أيضًا: مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبدالعزيز بن يحيى: ‏﴿‏قَدَمَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ قوله تعالى: ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾‏‏ [الأنبياء: 101] وقال مقاتل: أعمالًا قدموها؛ واختاره الطبري. قال الوضاح: (صل لذي العرش واتخذ قدمًا تنجيك يوم العثار والزلل)، وقيل: هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المفضي لهم قبل الخلائق). وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح؛ فكُني عنه بالقدم كما يُكنى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسّان: (لنا القدم العليا إليك وخلفنا *** لأولنا في طاعة الله تابع) يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم؛ يقال: لفلان قدم في الإسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر؛ يقال: قدم حسن وقدم صالحة. وقال ابن الأعرابي: القدم التقدم في الشرف؛ قال العجاج: (زل بنو العوام عن آل الحكم *** وتركوا الملك لملك ذي قدم). وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب) يريد آخر الأنبياء؛ كما قال تعالى: ‏﴿‏وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏‏﴾ [الأحزاب: 40]".

وكذلك أوّل ابن حزم القدم، ولم يثبتها صفة. يقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص349-350): "‏وكذلك صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن جهنم لا تمتليء حتى يضع فيها قدمه)، وصح أيضًا في الحديث: (حتى يضع فيها رجله)، ومعنى هذا ما قد بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر صحيح أخبر فيه أن الله تعالى بعد يوم القيامة يخلق خلقًا يدخلهم الجنة، وأنه يقول للجنة والنار (لكل واحدة منكما ملؤها)، فمعنى القدم في الحديث المذكور: إنما هو كما قال تعالى: ‏﴿‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏‏﴾‏‏ ‏[يونس: 2]‏. يريد سالف صدق، فمعناه الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم، ومعنى (رجله) مثل ذلك، لأن الرجل: الجماعة في اللغة، أي يضع فيها الجماعة التي قد سبق في علمه أنه يملأ جهنم بها"أهـ.

وفسر الشريف الرضى في "مجازات القرآن" قوله تعالى: ‏﴿‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏‏﴾‏‏ ‏[يونس: 2]‏ "المراد بالقدم ههنا السابقة في الإيمان، والتقدم في الإخلاص، والعبارة عن ذلك بلفظ القدم غاية في البلاغة، لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، فسُميت قدمًا لذلك، وقال بعضهم إيمانهم في الدنيا هو قدمهم في الآخرة، لأن معنى القدم في العربية الشيء تقدمه أمامك ليكون عدة لك حتى تقدم عليه، وقال بعضهم ذكر القدم ههنا على طريق التمثيل والتشبيه، كما تقول العرب: قد وضع فلان رجله في الباطل، وتخطى إلى غير الواجب، ومعناه أنه انتقل إلى فعل ذلك كما ينتقل الماشي، وإن لم يحرك قدمه ولم ينقل خطاه"أهـ.

وأورد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص 18) ‏ما قاله أبو يعلى وابن حامد -من مجسمة الحنابلة الأوائل- من أن الساق هي صفة ذاتية، وقد زاد أبو حامد "فمن جحد ذلك كفر". قال ابن الجوزي: "لو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف من يُنسب إلى العلم، فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم يردّون الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا حتى يتحقق التجسيم والصورة"أهـ.

ونسبوا لله نفسًا بسبب أخذهم بالظاهر في تفسير قوله تعالى: ‏﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏﴾‏ [آل عمران: 30]، وقوله تعالى: ‏﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏﴾ [المائدة: 116]‏. ردّ ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص15): "قال المفسرون: ويحذركم الله إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقال المحقّقون: المراد بالنفس هاهنا الذات، ونفس الشيء ذاته".

وقال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" (ص60) في تفسير قوله تعالى حاكيًا عن المسيح عليه السلام: ‏﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏﴾ [المائدة: 116] "هذه استعارة لأن القديم تعالى لا نفس له، والمراد تعلم ما عندي، ولا أعلم ما عندك، وتعلم حقيقتي وذاتي، ولا أعلم حقيقتك وذاتك، أو تعلم مغيبي، ولا أعلم مغيبك، فكأن فحوى ذلك؛ تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم"، ويضيف الشريف الرضى "فأما قوله تعالى ‏﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏﴾‏ [آل عمران: 30]، فالمراد بها ويحذركم عقابه، لأنك إذا قلت: احذر فلانًا، فإنما تريد به، احذر أن يصيبك منه ضرر أو تنال منه شرًا، والتحذير في التحقيق إنما هو من نفس الضرر لا من فاعل الضرر، وفي قوله: ‏﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏﴾‏ زيادة فائدة على قوله (ويحذركم عقابه)، كأنه تعالى أراد ما يتولاه هو من العقاب لا ما يوليه بعض العباد، فحصلت في هذا اللفظ مزيّة الاختصاص"أهـ.

كما نسبوا له تعالى روحًا على عكس قول السلف والخلف. قال الألوسي: "‏‏﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29] تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها، فليس ثمة نفخ ولا منفوخ، أي فإذا أكملت استعداده، وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الظاهرة التي هي أمري"أهـ. بينما قال القرطبي في تفسيره (ج12، ص208): "النفخ هو إجراء الريح في الشيء، والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق؛ فالروح خلق من خلقه، أضافه إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا، كقوله: أرضي وسمائي وبيتي، وناقة الله، وشهر الله"أهـ. فتأويل القرطبي يرى فيه وجود خلق تُسمى الروح، ولكنها ليست صفة لله، بل مضافة له إضافة تشريف.

وقال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى عن المسيح عليه السلام: ‏﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ‏‏﴾ [النساء: 171] "المراد أن الناس ينتفعون بهداه، ويحيون من موت الضلالة برشده، كما تحيا الأجسام بأرواحها وتتصرف بحركاتها"ـ وفي تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا‏‏﴾ [الأنبياء:91] "المراد إجراء روح المسيح عليه السلام في مريم عليها السلام كما يجري الهواء بالنفخ، لأنه حصل معها من غير علوق من ذكر ولا انتقال من طبق إلى طبق، فأضاف تعالى الروح إلى نفسه لمزيّة الاختصاص بالتعظيم والاصطفاء والتكريم؛ إذ كان خلقه المسيح عليه السلام من غير توسط مناكحة ولا تقدم ملامسة". كما فسر قوله تعالى ‏﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ‏‏﴾ [يوسف:87] "المراد لا تيأسوا من فرج الله، والروح هو نسيم الريح التي يلذ شميمها ويطيب نسيمها، فشبّه تعالى الفرج الذي يأتي بعد الكُربة، ويُطرق بعد اللزبة بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له وتثلج الصدور به. ومثل ذلك ما جاء به الخبر "الريح من نفس الله" أي من تنفيسه عن خلقه، يريد به أن القلوب تستروح إليها كما يستروح المكروب إلى نفسه"أهـ.

ولا يكتمل التجسيم إلا بادعاء أنه سبحانه وتعالى جسم، وحاشاه، مخالفة لسائر الأمة عدا أسلافهم من المجسمة. في "منهاج السنة" (ج2، ص530-531) يقول ابن تيميّة: "وأمّا لفظ الجسم، فإنّ الجسم عند أهل اللغة، كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن. وقال تعالى: ‏﴿‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏﴾‏‏ [المنافقون: 4]، وقال تعالى: ‏﴿‏وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏﴾ ‏‏[البقرة: 247]، فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد، ثم قد يُراد به نفس الغليظ، وقد يراد به غِلظه فيقال: لهذا الثوب جسم، أي غلظ وكثافة، ويُقال: هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف. ثم صار لفظ "الجسم" في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك، فيسمّون الهواء وغيره من الأمور اللّطيفة جسمًا، وإن كانت العرب لا تسمي هذا جسمًا‏".

ثم يقول (ص532) ‏"‏والنظّار كلهم متّفقون -فيما أعلم- على أنّ الجسم يُشار إليه، وإن اختلفوا في كونه مركبًا من الأجزاء المنفردة، أو من المادة والصورة، أو لا من هذا ولا من هذا".

ثم نجده (ص134-135) يقول: ‏"‏وقد يُراد بالجسم ما يُشار إليه، أو ما يُرى، أو ما تقوم به الصفات؛ والله تعالى يُرى في الآخرة، وتقوم به الصفات، ويُشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم قلوبهم ووجوههم وأعينهم، فإن أراد شخص بقوله: "ليس بجسم" هذا المعنى. قيل له: "هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تُقم دليلًا على نفيه‏. وأما اللفظ فبدعة نفيًا وإثباتًا، فليس في الكتاب ولا السُنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ "الجسم" في صفات الله تعالى، لا نفيًا ولا إثباتًا. وكذلك لفظ "الجوهر" و "المتحيِّز" ونحو ذلك من الألفاظ التي نازع أهل الكلام المحدث فيها نفياً وإثباتاً"‏.

ويقول (ص562): ‏"‏وهؤلاء المعطلة ينفون نفيًا مفصلًا، ويثبتون شيئًا مجملًا يجمعون فيه بين النقيضين. وأما الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيثبتون إثباتًا مفصلًا، وينفون نفيًا مجملًا: يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل، وينفون عنه التمثيل. وقد عُلِم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النُفاة تجسيمًا –يعني الجوارح التي توهموها لله تعالى-، ومع هذا فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على اليهود شيئًا من ذلك، ولا قالوا: أنتم مجسِّمون‏".‏ ثم استدل بحديث إمساك الرب للسموات والأرض بالأصابع الذي سبق أن شرحناه عند الرد على فِرية الأصابع.

وملخص كل ما لفّ ودار ابن تيمية ليقوله مواربة –في صفحات مطولة- خوفًا من التصريح به، أن اللغة –في رأيه- لا تمنع من تسمية الله جسمًا، وأن هناك من معاني الجسمية ما هي ثابتة في حق الله تعالى، وقال من ضمن ما قال "النُفاة يعبدون عدمًا"، ويقصد من ينكرون الجوارح، ولكنه فقط يؤكد على أن إنكار الجسمية أو الإثبات لها كلاهما بدعة. وهو فوق ذلك يكذب بادعاء أن سلف الأمة لم ينفوا الجسمية عن الله، ويعترف بتشابه عقيدته مع عقيدة اليهود. وأنا أقول: أشد ما يزعجني فيهم هو إنكارهم المتبجح على من يصفهم بالتجسيم، وهم لا يستبعدون إمكانية أن يكون الله جسمًا بتحقق بعض المعاني! علمًا بأن نفيه التركيب لا يغني شيئًا وهو من تناقضه، لأن وجود الجوارح –كما ادعوها- يقتضي التركيب والتأليف، وكل مركب يفتقر إلى غيره، وهو ما يتنافى مع كونه الرب الغني الأحد.

ذكر الزركشي الشافعي في "تشنيف المسامع" (ج4، ص 648) نقلًا عن صاحب "الخصال" عن الإمام أحمد بن حنبل، الذي يدعي هؤلاء أنه إمامهم، أنه قال: "من قال –الله- جسم لا كالأجسام كـَفَـرَ". وأقول: إن لم يكن هذا نفي صريح من الإمام للجسمية، فماذا عساه يكون؟ ومن تراه المبتدع؟

ويقول الإمام الفخر الرازي في "الإشارة في علم الكلام" (ص96) "اتفقت العقلاء على استحالة كون الباري تعالى جسمًا، إلا جماعة من الحشوية وضعفاء العقول"، وقد توسع الرازي في الرد على هؤلاء من الحنابلة والكرامية في "الإشارة" و "أساس التقديس" وغيرها من كتبه، وساق الحجج العقلية مستدلًا بآيات القرآن، وجمع بين نفي الجسمية، وبين نفي الحيّز والجهة. يقول في "أساس التقديس" (ص30: 32): ‏"﴿‏قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ۝ اللهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏﴾‏ [الإخلاص] اعلم أنه قد اشتُهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ماهية ربه، وعن نعته وصفته، فانتظر الجواب من الله تعالى، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه السورة. إذا عرفت هذا فنقول: هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات؛ لأنه تعالى جعلها جوابًا عن سؤال السائل، وأنزلها عند الحاجة، وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات. وإذا ثبت هذا، وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة يكون باطلًا. فنقول: إن قوله تعالى: ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ يدل على نفي الجسمية، ونفي الحيِّز والجهة. أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم، فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين، وذلك ينافي الوحدة، ولما كان قوله ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ مبالغة في الواحدية، كان قوله ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ منافيًا للجسمية. والأحد كما يُراد به نفي التركيب والتأليف في الذات، فقد يُراد به أيضًا نفي الضد والند. فلو كان تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مثلًا له، وذلك ينفي كونه أحدًا. ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى: ‏﴿‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏﴾‏ ولو كان جوهرًا، لكان كل جوهر فرد كفوًا له. فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر، وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر، وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات، لأن كل ما كان مختصًا بحيّز وجهة، فإن كان منقسمًا كان جسمًا –وقد بينا إبطال ذلك-، وإن لم يكن منقسمًا كان جوهرًا فردًا –وقد بينا أنه باطل-، ولما بطل القسمان، ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلًا، فثبت أن قوله تعالى ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا في حيز وجهة أصلًا"أهـ. وقد رد ابن تيمية على الرازي ردودًا تثبت تجسيمه وتجسيم من هم على نهجه.

ويُفرِّق الفخر الرازي بين الحنابلة والكرامية من حيث انسجام ما يدعون عقليًا. يقول في "أساس التقديس" (ص64): "اعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف أسعد حالًا من هؤلاء الكرامية، وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض، أما هؤلاء الكرامية فإنهم زعموا أنه مشار إليه بحسب الحس، وزعموا أنه غير متناه، ثم زعموا مع ذلك أنه واحد لا يقبل القسمة، فلا جرم صار قولهم قولًا على خلاف بديهة العقل".

وقد جعل السلفية لله تعالى صورة وهو (الباريء المصور!). أورد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص31) "وقال القاضي أبو يعلى –الحنبلي المجسم-: "يُطلق على الحق تعالى تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته". قال ابن الجوزي: وهذا تخليط لأن الذات بمعنى شيء، وأما الصورة فهي هيئة وتخاليط وتأليف، ويفتقر إلى مصور ومؤلف، وقول القائل (لا كالصور) نقض لما قاله، وصار بمثابة من يقول (جسم لا كالأجسام) فإن الجسم ما كان مؤلفًا فإذا قال (لا كالأجسام) نقض ما قال"أهـ.

ويقر الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص276) بنفس رأي ابن الجوزي من استحالة الصورة على الله. يقول: "الصورة هي التركيب، والمُصوِّر هو المركِّب. قال الله عز وجل: ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۝‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۝‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 6-7-8]، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى مصوَرًا ولا أن يكون له صورة؛ لأن الصورة مختلفة، والهيئات متضادة، ولا يجوز اتصافه بجميعها لتضادها، ولا يجوز اختصاصه ببعضها إلا بمخصص، لجواز جميعها على من جاز عليه بعضها، فإذا اختص ببعضها اقتضى مخصصًا خصصه به، وذلك يوجب أن يكون مخلوقًا وهو محال، فاستحال أن يكون مصورًا، وهو الخالق الباريء المصور".

ويقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص350-351) ردًا على المجسمة: ‏"وأخبر عليه السلام: أن الله تعالى يبدو للمؤمنين يوم القيامة في غير الصورة التي عرفوه عليها، وهذا ظاهر بيّن، وهو أنهم يرون صورة الحال من الهول، والمخافة غير الذي كانوا يظنون في الدنيا. وبرهان صحة هذا القول: قوله عليه السلام في الحديث المذكور غير الذي عرفتموه بها. وبالضرورة نعلم أننا لا نعلم لله عز وجل في الدنيا صورة أصلًا فصح ما ذكرنا يقينًا. وكذلك القول في الحديث الثابت: (خلق الله آدم على صورته)، فهذه إضافة ملك، يريد الصورة التي تخيرها الله عز وجل ليكون آدم مصورًا عليها، وكل فاضل في طبقته، فإنه ينسب إلى الله عز وجل، ويُضاف إليه. كما نقول بيت الله عز وجل عن الكعبة، والبيوت كلها بيوت الله، ولكن لا يطلق على شيء منها هذا الاسم كما يطلق على المسجد الحرام، وكما نقول في جبريل وعيسى عليهما السلام (روح الله) والأرواح كلها لله تعالى، ملك له، وكما نقول في ناقة صالح عليه السلام: (ناقة الله)، والنوق كلها لله تعالى. فعلى هذا المعنى قيل: على صورة الرحمن. والصور كلها لله، وهي ملك له، وخلق له".

يقول البيجوري في "حاشيته على جوهرة التوحيد" (ص158) في تفسير حديث (إن الله تعالى خلق آدم على صورته): السلف يقولون: صورة لا نعلمها، والخلف يقولون: المراد بالصورة الصفة من سمع وبصر وعلم وحياة، فهو على صفته في الجملة، وإن كانت صفته تعالى قديمة وصفة الإنسان حادثة".

وذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شبه من شبه وتمرد" (ص21-22) في حديث (إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة) "رُوي من وجوه كثيرة، فهي أحاديث مختلفة، وليس فيها ما يثبت، مع أن عبد الرحمن لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى وجه التنزل فالمعنى راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالمعنى رأيته على أحسن صفاته، أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك"، ثم قال الحصني في حديث (خلق الله آدم على صورته) بعد أن ذكر مآخذًا على رواية الحديث: "الصورة يُعبر بها ويُراد الصفة. تقول هذه صورة هذا الأمر أي صفته، فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة، ومع ذلك فالضمير يصح عوده إلى آدم عليه السلام، فالمعنى أن الله عز وجل خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تامًا لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه. قال الإمام أبو سليمان الخطابي، وذكره تغلب في أماليه، وقيل إن الضمير يعود إلى بعض بني آدم، وخلق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث، فالمشبِّه لا متمسك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه، وتمسكه بها يدل على جهله وزندقته عافانا الله عز وجل من ذلك".

ومما أصروا على إثباته في حق الله تعالى من صفات أفعال على ظاهرها، الضحك، في مخالفة لكل الأمة التي رأت في النصوص التي روت ضحكه سبحانه وتعالى معنى الرضا والقبول. يروي الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص432-433) عن أبي سليمان الخطابي، في تفسير حديث "يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة"، قوله: "الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفّهم الفرح، أو يستنفرهم الطرب، غير جائز على الله عز وجل، وهو منفي عن صفاته، وإنما هو مثل ضربه لهذا الصنيع الذي يحل محل العجب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه في صفة الله عز وجل الإخبار عن الرضى بفعل أحدهما، والقبول للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الجنة، مع اختلاف أحوالهما، وتباين مقاصدهما"، ثم روى البيهقي حديثًا مما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما يُذكر فيه الضحك، ثم نقل عن الخطابي أيضًا قوله: "قال البخاري: معنى الضحك الرحمة، قال أبو سليمان: قول أبي عبد الله –يعني البخاري- قريب، وتأويله على معنى الرضى أقرب وأشبه، ومعلوم أن الضحك من ذوي التميز يدل على الرضى والبشر،......"، ثم أتبع بأشعار، وقال أبو سليمان بنفس التأويل في الرواية التي تذكر "عجب الله". قال: "إطلاق العجب لا يجوز على الله سبحانه ولا يليق بصفاته، وإنما معناه الرضى......"أهـ.

أما عن تحييزهم الله تعالى في مكان، وهو خالق المكان. يقول الإمام الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص16) ردًا على المجسمة من الكرامية والحنابلة: "إن جمهور العقلاء المعتبرين اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات، وأنه تعالى غير حال في العالم، ولا مباين عنه في شيء من الجهات". ويضيف (ص35) بالاستدلال بجواب موسى عليه السلام على فرعون عن قوله: ‏﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏﴾ [الشعراء: 23] على كونه تعالى غير متحيز. يقول الفخر الرازي: "فلفظة ‏﴿‏مَا‏﴾ سؤال عن الماهية، وطلب للحقيقة، فلو كان تعالى متحيزًا لكان الجواب بذكر كونه متحيزًا أولى من الجواب عنه بذكر كونه خالقًا"أهـ. وروى السبكي في "طبقات الشافعية" (ج9، ص42) " قيل ليحيى بن معاذ الرازي: أخبرنا عن الله عز وجل، قال: إله واحد، فقيل له: كيف هو؟ فقال: مالك قادر، فقيل له: أين هو؟ فقال: بالمرصاد. فقال السائل: لم أسألك عن هذا، فقال: ما كان غير هذا كان صفة المخلوق، فأما صفته فما أخبرت عنه"أهـ. وأقول: يحيى الرازي هنا يتبع نهج موسى عليه السلام في الإجابة على أسئلة فرعون عن الله تعالى، فأجابه بما يليق بجلاله تعالى لا وفقًا لأسئلة السائل التي لا تليق للسؤال عن رب.

ويقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في المكان والاستواء، ص287-288) " قول الله عز وجل يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس. وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان، وماليء له ومتشكل بشكل المكان، أو المكان متشكل بشكله، ولا بد من أحد الأمرين ضرورة، وقد علمنا أن ما كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان، ومتناه بتناهي مكانه، وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه، وهذه كلها صفات الجسم، فلما صح ما ذكرنا علمنا أن قوله تعالى: ‏﴿‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏‏﴾‏‏ ‏[ق: 16] ، ﴿‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ‏‏﴾‏‏ ‏[الواقعة: 85] ، ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾‏‏ [المجادلة: 7] إنما هو التدبير لذلك والإحاطة به فقط ضرورة لانتفاء ما عدا ذلك"أهـ.

وعلّق الشريف الرضى في "مجازات القرآن" (ص309) على آية النجوى، قائلًا: "ظاهر هذا الكلام محمول على المجاز والاتساع، لأن المراد به إحاطته تعالى بعلم نجوى المتناجين، ومعاريض المتخافتين، فكأنه سبحانه يعلم جميع ذلك، سامع للحوار، وشاهد للسرار، ولو حُمل هذا الكلام على ظاهره لتناقض، ألا ترى أنه تعالى لو كان رابعًا لثلاثة في مكان على معنى قول المخالفين –يعني المجسمة- استحال أن يكون سادسًا لخمسة في غير ذلك المكان إلا بعد أن يفارق المكان الأول، ويصير إلى المكان الثاني، فينتقل كما تنتقل الأجسام، ويجوز عليه الزوال والمقام"أهـ.

ورُوي عن الإمام مالك أنه قال عن الحق سبحانه وتعالى: "كان ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان، لم يتغير عما كان". وأقول: طالما أسقطنا المعنى الظاهر الموهم بالمكان، فلا مناص من التفويض أو التأويل، وهو اتفاق الأمة، لكن السلفية لا ينزهونه تعالى عن شغل المكان!

ومن الآيات التي احتج بها الحنابلة لإثبات شغل الله تعالى للمكان، قوله تعالى: ‏‏﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ‏‏﴾‏‏ [الملك: 16]. يرد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص 25): "قد ثبت قطعًا أن الآية ليست على ظاهرها لأن لفظة (في) للظرفية، والحق سبحانه وتعالى غير مظروف. وإذا منع الحس أن ينصرف إلى مثل هذا بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الخلق"أهـ.

ومثلها قوله تعالى: ‏﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏‏﴾ [النور: 39]. قال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير الآية: "المعنى وجد وعد الله سبحانه عند انتهائه إلى منقطع عمله السيء، فكاله بصواعه، وجازاه بجزائه، وذلك يكون يوم المعاد، وعند انقطاع تكليف العباد. وقد قيل أيضًا إن الضمير في قوله تعالى ‏﴿‏عِندَهُ﴾ يعود إلى الكافر لا إلى عمله، فكأنه تعالى قال: فوجد الله قريبًا منه، أي وجد عقابه مرصدًا له، فأخذه من كثب، وجازاه بما اكتسب، وذلك كقول القائل: الله عند لسان كل قائل، أي يجازيه على قول الحق بالثواب، وعلى قول الباطل بالعقاب، والقولان جميعًا يؤولان إلى معنى واحد"أهـ.

ولأنهم يعتقدون بحلول الله في السماء، وحاشاه تعالى، أخذًا بظاهر معاني النصوص، فلم يكتفوا بنسبة الكلام إلى الله تعالى في قصة كلامه مع سيدنا موسى، بل توهموه بحرف وصوت، طالما يأتي من السماء، رغم أن النص المنقول عن البخاري الذي يحتجون به لم يقطع بنسبة الصوت الذي في السماء إلى الله.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم