دراسات وبحوث

نظرية الذكاءات المتعددة (1-2)

منى زيتون

خطوة جديدة لبلورة مفهوم الموهبة والتعامل مع الموهوبين

تتناول الورقة البحثية بالتوضيح مفهوم الذكاء منذ بدايته على يد بينيه، وكيف اختلفت نظريات الذكاء في الاعتراف بالقدرات الخاصة، وإمكانية تنمية الذكاء العام والعوامل الخاصة، ثم تتناول الورقة مفهوم الموهبة منذ بداية دراسات الموهوبين على يد تيرمان وكيف ارتبط منذ بدايته بمفهوم الذكاء، ثم تتطرق بالشرح والتوضيح لنظرية الذكاءات المتعددة (مفهوم الذكاء كما تنظر إليه النظرية وكيف يربط بين الذكاء بمفهومه التقليدي وبين الموهبة والإبداع- مبادئ نظرية الذكاءات المتعددة والتي يتضح منها الارتباط الذي أصبح يفترضه جاردنر بين الذكاء والموهبة- الذكاءات المتعددة التي أقرها جاردنر والتي حدد من خلالها صور الموهبة والإبداع البشري)، ثم تعرض الباحثة لمدخل الذكاءات المتعددة في التدريس، وكيف أمكن أن يغير من الواقع التربوي خاصة كأسلوب تعامل مع الموهوبين.

وأخيرًا، فإن هذه الورقة البحثية لم تسع إلى التفريق بين مفاهيم التفوق العقلي والعبقرية والموهبة والإبداع (الابتكار)، والتي تتصور الباحثة ضرورة إعادة تحديد تلك المفاهيم في إطار نظرية الذكاءات المتعددة.

مقدمة

لقد كانت فكرة ارتباط الموهبة بالذكاء، أو بالأحرى التوحيد بين مفهوميّ الذكاء والموهبة فكرة قديمة اعتقد فيها كثير من السيكولوجيين، حيث أرجع الكثير من العلماء الموهبة إلى استعدادات في التكوين العقلي للفرد وسماته الشخصية. يذكر عبد الحليم محمود السيد (1971، ص 52) أن لفظ "عبقري" الذي نشأ أصلًا لوصف الشخص المتميز بانتاجه المبدع اُستخدم لوصف الطفل ذو الذكاء المرتفع جدًا. وكان ذلك في إطار النظرة التقليدية للذكاء على أساس كونه قدرة عقلية عامة، ولكن الأمر لم يسلم من وجود آراء معارضة رأت أن الموهبة لا تقتصر فقط على معامل الذكاء IQ، ومع ظهور نظرية الذكاءات المتعددة أعطت تعريفًا جديدًا لمفهوم الذكاء أو بالأحرى الذكاءات بحيث أصبح يُنظر إليها كمواهب عقلية قابلة للتنمية، بالإضافة إلى إسهام النظرية في تحديد مجالات الموهبة بدلًا من التصور القديم للموهبة الذي كان سائدًا في إطار نظريات العامل العام؛ مما أوجد حاجة ملحة لإعادة النظر في كلا المفهومين الذكاء والموهبة والعلاقة بينهما.

كما كان من ثمار نظرية الذكاءات المتعددة ذلك المدخل التدريسي الجديد الذي يتم فيه تنويع الأنشطة التدريسية (الصفية والتقويمية) بما يتلاءم مع الذكاءات المختلفة، والذي أصبح يُعرف باسم مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس، ذلك المدخل الذي أصبح طريقة جديدة للتعامل مع الموهوبين في مجالات الموهبة الثمانية، دون الحاجة إلى فصلهم في برنامج تعليمي خاص.

الذكاء

تُرجع جولي فينس (Viens, 2000) وهُوار (Hoerr, 2000) وكارفن (Carvin, n.d.) بداية النظرة التقليدية للذكاء على أساس كونه قدرة عقلية عامة إلى عالم النفس الفرنسي ألفريد بينيه Alfred Binet حين أعد وزميله تيودور سيمون Theodore Simon في بداية القرن العشرين اختبارًا لتحديد الأطفال الذين يُخشى عليهم من الفشل الدراسي وبحاجة لمساعدة إضافية في المدرسة، وكان الاختبار كفئًا لهذا الغرض، ثم اُستخدم الاختبار بعد ذلك كأساس للقياس النفسي للقدرات العقلية أو الذكاء العام للأفراد. ويرى تيلي (Teele, 2000, p. 3 as cited in Ashmore, 2003) فائدة هامة في مدخل القياس النفسي لبينيه وسيمون ذلك أنه أعطى تقديرًا كميًا وحيدًا للذكاء، بينما ترى فينس (Viens, 2000) أن أهمية هذا المدخل تتحدد في أن ذلك التقدير الكمي الذي أعطته اختبارات الذكاء قد حدد لنا كيفية تعريف الذكاء. يوضح كامفاس (Kamphaus, 1993, p. 23) تلك الفكرة بقوله إنه بالرغم من أن جهود بينيه في تطوير أول اختبار للذكاء كانت غالبًا عملية وتجريبية، فقد نظَّرت طبيعة الذكاء.

وتعتبر نظرية العاملين لسبيرمان Spearman خطوة رائدة في استخدام طريقة التحليل العاملي للكشف عن الذكاء والقدرات العقلية المختلفة، حيث توصل سبيرمان باستخدام معادلة الفروق الرباعية إلى وجود عامل عام مشترك بين جميع الاختبارات العقلية يفسر الارتباط الجزئي الموجب بينها، وتتلخص هذه النظرية في أن كل عملية عقلية تتضمن عاملين: عامل عام يشارك في جميع العمليات العقلية؛ أي يشارك في العملية المعينة وغيرها، وعامل خاص أو نوعي يوجد في العملية المعينة بالذات ولا يوجد في غيرها من العمليات العقلية؛ أي أنه يختلف من عملية إلى أخرى، ويرى سبيرمان بهذا الشكل أن العامل العام هو أساس كافة العمليات العقلية، لذلك وحَّد بينه وبين الذكاء واستخدمه فعلًا بهذا المعنى وأطلق عليه الحرف (g) (إبراهيم وجيه، 1985، ص ص 84: 88؛ Smedler and Törestad, 1996, p.344). وبذلك يؤكد سبيرمان على وحدة النشاط العقلي وعدم قابليته للتجزئ، وقد عبر سبيرمان (في خليل معوض، 1979، ص 156) عن ذلك بقوله "إن جميع نواحي النشاط العقلي تشترك في وظيفة أساسية أو مجموعة من الوظائف في حين أن العناصر الأخرى الخاصة تختلف تمام الاختلاف في كل عملية عقلية عنها في غيرها من العمليات". ويشير عبد الرحمن عدس (1999، ص 48) إلى أنه وكنتيجة لمنظور سبيرمان في الذكاء اعتقد العلماء أن الشخص الذي يكون لديه نقص ملحوظ في الذكاء العام لا يمكن أن يكون موهوبًا في أي من المجالات الخاصة. كما يؤكد ماجد مومني (1987، ص 79) على نفس الفكرة بقوله إن لكل شخص مقدارًا ثابتًا من الاستعداد العقلي العام يؤثر في درجة نجاحه في جميع العمليات العقلية التي يحاولها ابتداء من الإدراك الحسي إلى أرقى عمليات التفكير المجرد والابتكار، ولكن هذا الاستعداد العام لا يعمل وحده بل يوجد إلى جانبه استعداد نوعي لكل عملية خاصة، والنجاح في العملية الخاصة يتوقف على الاستعدادين معًا، كذلك اقترح سبيرمان (في فيليب فرنون ، ترجمة 1988، ص 72) أن العامل العام (g) يمثل الطاقة العامة التي تقوم بتنشيط الآليات المختلفة أو وسائل العقل المقابلة للعوامل الخاصة (s)، كما أنه يرى أن العامل العام يعد فطريًا أساسًا بينما العوامل الخاصة مكتسبة. ويرى كامفاس (Kamphaus, 1993, p. 23) أن سبيرمان بذلك يعد أول من عرض النظرية الهرمية في الذكاء Hierarchical Theory of Intelligence حيث يضع في نظريته (g) أو العامل العام في قمة الهرم لأنه القدرة العقلية الأساسية التي تكون مركزة في حل المشكلات، بينما تتطلب كل المهام المعرفية أيضًا عاملًا خاصًا أو (s).

ونلاحظ إنكار سبيرمان وجود العوامل الطائفية –وإن اعترف مع مرور الوقت باحتمال وجود تلك العوامل إلا أنه لم يهتم بها (فؤاد أبو حطب، 1996، ص 76)- . كما لم يهتم كثيرًا بدراسة العوامل الخاصة، وإنما ركز نظريته على العامل العام الذي اعتبره هو نفسه الذكاء، حيث تشير ألفت حقي (1992، ص 88) إلى رأي سبيرمان أن فروق الذكاء بين الأفراد يحددها مقدار ما يمتلكه الواحد منهم من هذا العامل أو ما أسماه بالنشاط العقلي.

ثم جاء ثورنديك Thorndike لينتقد نظرية سبيرمان بشدة، حيث لم يعترف أول الأمر بوجود العامل العام. وأدت أبحاث ثورنديك الأولى (1914) إلى قوله بأن عمل العقل ينبني على عدد كبير من القدرات المستقلة استقلالًا تامًا والمتخصصة تخصصًا كاملًا، ولذلك تبدو نظريته ذرية تقسم الذكاء إلى جزيئات أو قدرات عديدة تأخذ شكل الوصلات العصبية على النحو الذي وصفه في نظريته للتعلم، ولكن بسبب تشابه بعض العمليات العقلية في وظائفها وفيما تتطلبه من قدرات فقد رأى ثورنديك تجميع هذه القدرات في مجموعات متميزة وهي: الذكاء المجرد والذي يشمل القدرات العقلية التي تعالج الألفاظ والمعاني والعمليات الرمزية المختلفة، والذكاء العملي ويشمل القدرات التي تعالج الأشياء المادية والمواد العملية والتي تعتمد عليها الأعمال الفنية والميكانيكية واستخدام وإصلاح الآلات والأجهزة ونحو ذلك، والذكاء الاجتماعي ويشمل القدرات التي تعتمد عليها علاقة الفرد بالآخرين وحسن تكيفه مع الظروف الاجتماعية المختلفة. وربما كان ثورنديك بذلك هو أول من صنف الذكاء إلى أنواع متعددة، وكان ثورنديك يرى أن هذه الأنواع الثلاثة مستقلة عن بعضها نتيجة لاعتقاده بأن القدرات التي تتضمنها منفصلة من الأصل، فقد يكون الفرد على مستوى عال في الذكاء الاجتماعي ولكنه متوسط أو أقل من المتوسط في الذكاء المجرد أو الذكاء العملي، وقد يكون العكس صحيحًا، ولكن نظرًا لأن معاملات الارتباط بين نتائج الاختبارات التي تقيس بعض هذه النواحي ببعض كانت دائمًا موجبة؛ مما يعني وجود نوع من العلاقة بينها وأنها ليست مستقلة تمامًا، فإن ذلك دفع ثورنديك إلى أن يغير موقفه عام (1947) للبحث عن عامل عام تقوم عليه قدراتنا العقلية (سيد خير الله وآخرون، 1984/1985، ص ص 205: 208؛ إبراهيم وجيه، 1985، ص ص 89: 92؛ خليل معوض، 1979 ، ص ص 168: 170).

ولا ينكر طومسون Thomson وجود العامل العام، وإنما يرى ضرورة تفسير الفروق في ضوء العوامل الطائفية، حيث يكون العامل عامًا بالنسبة لمجموعة مستخدمة من الاختبارات بحيث إذا أُضيف إليها عدد آخر من الاختبارات التي لا تشترك في هذا العامل العام فإنه يصبح طائفيًا، أما العامل العام فهو العامل العام بالنسبة للعقل، وهو صورة احتمالية يمكن أن يحدث لو توافرت الاختبارات التي تستغرق نواحي النشاط العقلي المعرفي جميعها (إبراهيم وجيه، 1985، ص ص 93- 94؛ سيد خير الله وآخرون، 1984/1985، ص 208).

وطومسون في ذلك ينتقد نظرية العاملين لسبيرمان في أنها تبالغ في إهمالها للعوامل الطائفية أكثر مما تبالغ في تأكيد وجود العامل العام، ويقرر طومسون اتباع النموذج العلمي للعقل البشري ليشمل العامل العام والعوامل الطائفية والعوامل الخاصة، ويوضح أن العوامل الطائفية أقل شمولًا من العامل العام وأكثر اتساعًا من العوامل الخاصة، وأنها الأساس الذي تقوم عليه القدرات الخاصة كالقدرة الموسيقية والقدرة الرياضية والقدرة الميكانيكية (خليل معوض، 1979، ص ص 170 – 171).

كما كان لأصحاب نظرية العوامل الطائفية الأولية "القدرات العقلية الأولية" باعًا في دراسة الذكاء؛ إذ يفترض أصحاب هذه النظرية وجود عدد من العوامل الأولية التي تدخل بأوزان مختلفة في الاختبارات النفسية، بمعنى أن العامل العددي مثلًا قد يدخل بوزن مرتفع في اختبار العمليات الحسابية بينما يكون له وزن مختلف في اختبار الاستدلال ووزن أقل في اختبار تكملة الجمل.. وهكذا، وهم ينكرون وجود العوامل الخاصة، أما بالنسبة للعامل العام فقد كانت وجهة نظرهم الأولى أنه ليس له إلا أهمية بسيطة للغاية وكان ذلك استنتاجًا من بحث كيلي (Kelley, 1928). وتنسب هذه النظرية عادة لثرستون Thurston والذي اعتمد على منهج التحليل العاملي –الطريقة التي استخدمها سبيرمان وقادته للعامل العام- إلا أن عدم عثوره على ارتباط عام بين الاختبارات التي طبقها في دراساته الأولى أدى إلى إنكاره العامل العام في أول الأمر وتفضيله الاكتفاء بالعوامل الطائفية وحدها، لكن ثبت لثرستون نفسه بعد ذلك ولزملائه وجود ارتباطات عالية بين العوامل الطائفية، وفُسرت هذه الارتباطات العالية على أنها تدل على وجود صفة شائعة بين هذه العوامل أو عامل يجمع بينها هو عامل العوامل. وهذا هو المعنى الذي أعطاه ثرستون للعامل العام (إبراهيم وجيه، 1985، ص ص 94: 99؛ سيد خير الله وآخرون، 1984/1985، ص 209؛ خليل معوض، 1979، ص ص 174: 177). بناءًا عليه يذكر كامفاس (Kamphaus, 1993, p. 25) أن نظرية ثرستون لم تكن هرمية في طبيعتها كما كانت نظرية سبيرمان؛ ذلك أن الذكاء لديه يتكون على الأصح من عدد من العوامل المسماة بالقدرات العقلية الأولية، ومن ثم فإن أداء الفرد في مهمة معرفية محددة لم يكن وظيفة (g) و (s) أو قدرة معرفية خاصة متطلبة للمهمة، بل بالأحرى كان يتم عن طريق القدرات العقلية الأولية المتطلبة لإكمال ناجح للمهمة المعرفية.

وقد وفق سيرل بيرت Burt بين الآراء السابقة في تنظيمه الهرمي للنشاط العقلي، حيث تقوم نظريته على أن أي نشاط عقلي يقوم به الفرد يمكن أن يعتبر محصلة ثلاثة مكونات هي: العامل العام والعوامل الطائفية والعامل الخاص النوعي، إضافة إلى عامل رابع هو عامل الصدفة والخطأ: ويشمل العوامل الداخلية التي تؤثر في الفرد عند قيامه بهذا النشاط العقلي مثل حالته الجسمية والمزاجية والانفعالية (سيد خير الله وآخرون، 1984/ 1985، ص ص 209- 210).

وتعددت بعد ذلك التنظيمات الهرمية للذكاء مثل التنظيم الهرمي عند فيليب فيرنون (Vernon, 1950)، والذي كان يرتكز على تصنيف القدرات إلى عامل عام أعلى الهرم وعوامل خاصة أسفله وبينهما مجموعة من العوامل الطائفية تتدرج من قدرات بسيطة أو صغرى بعد العوامل الخاصة إلى طائفية كبرى تسبق العامل العام في قمة الهرم (خليل معوض، 1979، ص 183؛ فؤاد أبو حطب، 1996، ص 96). وبذا يكون النموذج الهرمي لفيرنون أكثر تفصيلًا للقدرات العقلية؛ إذ بينما وضع العامل العام أو عامل المجموعة الأكبر في قمة الهرم، وبذا يكون متسقًا بشكل كبير مع تنظير سبيرمان، فقد تلاه بعامليّ مجموعة أصغر يتكونان من تشكيلتين: اللفظية/التربوية والمكانية/الميكانيكية داخلهما توجد عوامل خاصة متعددة للذكاء (Kamphaus, 1993, p. 23).

ويوضح إبراهيم وجيه (1985، ص 100) بمزيد من التفصيل العوامل العام والطائفي والخاص، فيذكر أن العامل العام هو الذي يتسع في مداه ليشمل جميع الاختبارات التي تقيس نواحي النشاط العقلي المعرفي، وهو الذي يمكن أن نوحد بينه وبين الذكاء، والعامل الطائفي يمثل الصفة التي تشترك فيها مجموعة من الاختبارات التي تقيس بعض جوانب النشاط العقلي المعرفي ولا تشترك فيها بقية الاختبارات، أو بمعنى آخر أنها خاصة بطائفة معينة من النشاط العقلي المعرفي، أما العامل الخاص فهو يمثل قدرات ضيقة جدًا في انتشارها تمثل نشاط عقلي واحد تكون قاصرة على اختبار معين فحسب ولا توجد في الاختبارات الأخرى.

وبالرغم من أن ديفيد وكسلر Wechsler قد أعد اختبارًا يعرض مقاييس لفظية وغير لفظية "أدائية" – لم تكن أساسًا مصممة لتقييم جانبية وظائف المخ وهو الاستخدام الذي شاع لها بعد ذلك- فإنه قد وضع أهمية كبرى للتركيز على تقييم الذكاء العام، وهو يعرض (1958) نظرة للذكاء تظهره كتفاعل معقد من القدرات التي تنتج السلوك الذكي الذي يعكس العامل العام (g) (Kamphaus, 1993, p. 26).

أما كاتل Cattell فقد افترض وجود بنية هرمية للقدرات العقلية. وظلت أفكاره تنمو وتتطور وتتغير وتتعدل حتى نشر في عام 1963 دراسة حاسمة توصل فيها إلى نتيجة هامة وهي قابلية العامل العام (g) لسبيرمان إلى القسمة إلى عاملين من الدرجة الثانية. أطلق على أحدهما الذكاء السائل fluid (gf) ويتحدد بالاختبارات التي يفترض فيها أنها تقيس المقدرة البيولوجية biological capacity لدى الفرد على اكتساب المعرفة، بينما أطلق على الآخر الذكاء المتبلور crystallized (gc) ويتحدد بالاختبارات التي يفترض فيها أنها تقيس آثار التمدرس schooling والتثقيف acculturation . ويرى كاتل أن الذكاء المتبلور –على عكس الذكاء السائل- لا يتدهور مع التقدم في السن. كما أن التغيرات في نوعية التمدرس وغيرها من العوامل التي تسعى لتنمية الذكاء من خلال تطوير خبرات التعليم والتطبيع تؤثر في هذا النوع من الذكاء أكثر من الذكاء السائل (فؤاد أبو حطب، 1996، ص ص 102- 103). ويمكن القول إن أهمية بحث كاتل تكمن في أنه وجد أن أفكار سبيرمان عن العامل العام وأفكار ثرستون عن القدرات العقلية الأولية لم تكن متناقضة، ومن ثم فقد اقترح نظريته للتوفيق بين النظريتين؛ فالذكاء السائل (gf) في نظرية كاتل يشبه العامل العام لدى سبيرمان حيث يؤثر على كل أنواع حل المشكلة، ويتأثر أكثر بالعوامل الوراثية، وعلى حد تعبيره (1979) "إنه يتدفق مع تعبير غير مقيد في كل مجالات إدراك العلاقة"، بينما يكون الذكاء المتبلور (gc) متعلقًا بنطاق محدد من الخبرة التي تعلمها أو خبرها الفرد بشكل خاص (Kamphaus, 1993, p. 26).

بينما ركز جيلفورد (J. P. Guilford, 1967) (في مصري حنورة، 1997، ص ص 46- 47) في نموذجه للبناء العقلي على أن الذكاء ينبغي أن يُرى كنتاج 150 عملية عقلية (5 عمليات × 6 منتجات × 5 محتويات)، وعرَّف أكثر من 90 قدرة عقلية مختلفة. وقد طور جيلفورد هذا النموذج فيما بعد، وفي آخر مؤلَف له، نُشر سنة 1979، أشار إلى أن البناء العقلي يتضمن 120 عملية عقلية (5 عمليات × 6 منتجات × 4 محتويات). يذكر فؤاد أبو حطب (1996، ص 78) أن جيلفورد قد استطاع أن يثبت احتمال الحصول على معاملات ارتباط صفرية أصيلة بين الاختبارات العقلية، وفي هذا برهان كاف –في رأيه- على عدم وجود العامل العام. حيث يقرر جيلفورد (Guilford, 1977, p.153) (في مصري حنورة، 1997، ص 47) أن معامل الذكاء IQ الذي يرى البعض أنه يقدم تقريرًا شاملًا عن ذكاء الفرد لا يستطيع أن يمدنا وبشكل دقيق بصورة تفصيلية شاملة تغطي كل الاستعدادات أو المواهب العقلية والتي تصل إلى 120 وحدة عقلية، تشير كل منها إلى جانب من جوانب البناء العقلي، كما ذكر أنه من الأفضل أن نقدم للشخص بروفيلًا يحتوي على درجاته في مختلف الاستعدادات المائة والعشرين، حيث قد يكون الشخص متفوقًا في استعدادات ومتخلفًا في أخرى.

وخلال العقود الأخيرة قدم العديد من المنظرين رؤى حديثة أكثر تطورًا واختصارًا من تصور جيلفورد للبناء العقلي، وتتفق في أنه توجد أنواع مختلفة من الذكاءات، من أمثال هؤلاء هوارد جاردنر Howard Gardner الذي قدم نظرية الذكاءات المتعددة Multiple Intelligences عام 1983 في كتابه "أشكال من العقل.. نظرية الذكاءات المتعددة" "Frames of Mind.. The Theory of Multiple Intelligences"، والذي بدت فيه نظريته مختلفة تمامًا عن النظريات العاملية؛ حيث جاءت نظرية جاردنر لتوسع تلك النظرة التقليدية للذكاء، ولتؤكد على أن كل الناس يمتلكون ثمانية أنواع منفصلة من الذكاء (ذكاء لفظي- ذكاء منطقي/رياضي– ذكاء بصري/مكاني– ذكاء جسمي/حركي– ذكاء موسيقي– ذكاء طبيعي– ذكاء تفاعلي– ذكاء شخصي). وبذلك نجده يرفض فكرة أن الذكاء هو قدرة مفردة أو أنه مركب من قدرات منفصلة! ولأول مرة تتحول كلمة الذكاء إلى جمع فتصير ذكاءات، كما أنه لأول مرة يُضمِّن جاردنر نطاقات مثل الموسيقى والقدرات الحركية وقدرة الشخص على فهم ذاته ضمن مفهوم الذكاء؛ ذلك أن جاردنر قد تنبه أخيرًا أن الناس قد يكونون أذكياء في نطاقات عديدة، ويظهر ذلك فيما يستطيعون أن يقوموا به في الحياة، في حين أنه يكون من الممكن ألا يكونوا ناجحين في الدراسة الأكاديمية، كما تنبه أيضًا إلى أن تلك الذكاءات ليست ثابتة، وأنه يمكن تنميتها من خلال التعلم والتدريب.

الموهبة "الإبداع"

منذ بداية القرن العشرين، عندما طور بينيه اختباره للذكاء الذي عرف فيما بعد باسم ستانفورد بينيه، من أجل تحديد درجة ذكاء الأطفال، أصبح هذا الاختبار من أهم الأدوات التي تستخدم للتعرف على الموهوبين. واستمرت درجات الذكاء كجزء من تعريف الموهوبين والكشف عنهم حتى وقتنا الحاضر، مع الاختلاف فقط في تحديد الدرجة الحدية التي تستخدم في تحديد الموهوبين.

بدأت دراسات التعرف على الموهوبين بالدراسة الطولية الرائدة التي قام بها تيرمان (1925)، حيث طبق اختبار ستانفورد بينيه واختبار ذكاء جمعي على عينة بلغت 250 ألف تلميذ وتلميذة في المرحلتين الابتدائية والإعدادية. واختار التلاميذ الحاصلين على درجة 140 فأكثر من تلاميذ المرحلة الابتدائية، والحاصلين على 135 فأكثر من تلاميذ المرحلة الإعدادية، والذين بلغ عددهم 1500 تلميذ وتلميذة، وسمى هؤلاء المتفوقين في الذكاء بالعباقرة. على أن كثيرًا ممن حصلوا على درجات عالية في الذكاء في دراسة تيرمان لم يحققوا نجاحًا متميزًا في الحياة ولم يقدموا إسهامات مهمة للمجتمع، وبذلك لم يتحقق لديهم الأداء المتميز الذي يستحقون بموجبه وصف العبقرية (عبد الله النافع وآخرون، 2000، ص ص 12- 13).

بالرغم من ذلك فقد كانت هناك ثقة شديدة في مفهوم الذكاء التقليدي وإجراءات قياسه، تلك الثقة التي جعلت "تيرمان" يتحدى بعمله الرائد، علماء النفس والتربية والاجتماع أن ينتجوا إن استطاعوا مفهومًا آخر بنفس كفاية مفهوم "نسبة الذكاء" لتحديد مجموعة من الموهوبين تشتمل على أكثر الطلبة نجاحًا وأحسنهم أداءً في مجال الدراسة، وكذلك –كما كان يعتقد- في مجال العلاقات الإنسانية، وأنواع النشاط الإنساني بوجه عام. هذه الثقة الشديدة في اختبارات الذكاء التقليدية التي تبين أنها لا يمكنها أن توضح جوانب هامة من الامتياز لدى كثير من الأفراد الموهوبين (عبد الحليم محمود، 1971، ص 62).

على أن حصر الموهبة بالذكاء وحده وجد اعتراضات لدى عدد من الباحثين منذ نشر دراسة تيرمان. فقد دعا وتي (1940) إلى توسيع تعريف الموهبة بحيث لا تقتصر على الدرجة المرتفعة من الذكاء العام فقط، وذلك ليشمل "أي طفل لديه أداء متميز في أي مجال من مجالات الحياة بشرط أن يكون هذا الأداء مستمرًا ومثمرًا". وقد اقترح هذا التعريف الموسع لشعوره بأن اختبارات الذكاء لا تستطيع أن تكشف بكفاءة عن التلاميذ الذين لديهم استعدادات وإمكانيات في التعبير والانتاج الابتكاري (عبد الله النافع وآخرون، 2000، ص 13).

وأيدت بحوث جيلفورد ومعاونيه (في عبد الحليم محمود، 1971، ص ص 54- 55) وجود قدرات إبداعية مستقلة عن القدرات العقلية التي تقيسها اختبارات الذكاء، وخاصة بعد ظهور عوامل القدرات الإبداعية –كالأصالة، والمرونة التلقائية والتكيفية، والحساسية للمشكلات والطلاقة- مستقلة عن القدرات التي تمثلها اختبارات الذكاء العام –كالفهم والاستدلال- .

حيث أثبتت الدراسات العاملية لجيلفورد وجود عدد كبير من القدرات التي تسهم في الأداء الإبداعي. يذكر إحسان آدم الطيب وعبد الرحيم دفع السيد (2007، ص ص 55: 59) أنه بالنظر إلى مقياس تورانس (Torrance, 1966) ونموذج بنية العقل لجيلفورد Guliford الذي افترض فيه أن للتفكير التشعيبي (التباعدي) قدرات معينة، وأيضًا بالنظر إلى اختبارات جيلفورد نجد أنها ركزت على المهارات الآتية:

1- الطلاقة Fluency: وتشير هذه المهارة إلى قدرة الفرد على إنتاج أكبر عدد من الأفكار عن موضوع ما في فترة زمنية معينة. وللطلاقة أنواع نذكر منها الطلاقة اللفظية والطلاقة الفكرية وطلاقة الأشكال والطلاقة الترابطية والطلاقة التعبيرية.

2- المرونة Flexibility: وتشير إلى قدرة الفرد على تغيير تفكيره بتغير الموقف الذي يمر فيه بحيث تصدر منه استجابات متعددة لا تنتمي إلى فئة واحدة، أي أن يسلك الفرد أكثر من مسلك للوصول إلى كافة الأفكار أو الاستجابات المحتملة. والمرونة نوعان مرونة تكيفية ومرونة تلقائية.

3- الأصالة Originality: وتشير هذه المهارة إلى قدرة الفرد على إنتاج أفكار أو حلول جديدة غير مألوفة للمشكلة، أي أن الفرد الذي يتصف بهذه المهارة لا يكرر أفكار الآخرين.

4- التفاصيل Elaboratic: وتشير هذه المهارة إلى قدرة الفرد على إعطاء إضافات وزيادات جديدة لفكرة معينة.

5- الحساسية للمشكلات Sensitivity to problems: تشير هذه المهارة إلى قدرة الفرد على سرعة إدراك ما لا يدركه غيره في الموقف المعين من مشكلات أو جوانب ضعف.

ويذكر جيلفورد (Guilford, 1957) (في عبد الحليم محمود، 1971، ص 53) "أنه إذا نظرنا إلى نوع التفكير الذي تستثيره اختبارات الذكاء التقليدية نجد أن معظم المشكلات الموجودة في هذه الاختبارات تتطلب تفكيرًا التقائيًا (تقريريًا) (تقاربيًا)، تعد فيه نتيجة معينة –أو إجابة بعينها- هي الإجابة الوحيدة الصحيحة، وعلى التفكير أن يصب في مسار هذه الإجابة وفي اتجاهها، أما التفكير الإبداعي فهو في أساسه افتراقي (تغييري) (تباعدي)، ويتميز ببحث وانطلاق في اتجاهات متعددة". ففي حين يكون الشخص في إجابته على اختبارات الذكاء غير مطالب بالتحديد أو التأمل أو الاختراع أو الإتيان بحل ظريف، بل يُحتمل أن يصحح الحل –إذا كان طريفًا- على أنه خطأ، يتميز التفكير الإبداعي بالتعامل بطرق ابتكارية طريفة مع الرموز اللغوية والرقمية وعلاقات الزمان والمكان، وهو ما غفلت عنه اختبارات الذكاء الشائعة.

ومع ذلك يرى شتاين Stein (في عبد الحليم محمود، 1971، ص 63) أن هناك مستوى معينًا من الذكاء بمفهومه التقليدي يلزم للإبداع، لكن توافر هذا المستوى من الذكاء لدى شخص معين لا يعني أنه سيصبح مبدعًا، لأنه ليست العبرة بما نملك، وإنما بما نعمل بهذا الذي نملكه.

وهكذا بقي الخلاف قائمًا في تحديد علاقة الذكاء بالموهبة والقدرة على الإبداع والابتكار، ما بين آراء تنظر للذكاء على أنه لا يمثل إلا جزءًا من النشاط العقلي، ومن ثم يتميز عن الموهبة والابتكار، وآراء ترى أن الذكاء هو العامل الأساسي المشترك في تفسير كل أوجه النشاط العقلي؛ ومن ثم يجب استخدام معامل الذكاء في التعرف على الموهوبين، ويمكنني القول إنه دائمًا قد شمل مفهوم الموهبة الفئات الثلاث الآتية:

- الأفراد الذين يحصلون على درجات مرتفعة في اختبارات الذكاء التقليدية –مع الاختلاف في تحديد الدرجة الحدية- التي تركز في أسئلتها على قياس الذكاءين اللفظي/اللغوي والمنطقي/الرياضي.

- الأفراد الذين يستطيعون إعطاء أفكار وحلول جديدة في المواقف، ويحصلون على درجات مرتفعة في اختبارات التفكير الابتكاري.

- الأفراد الذين يظهرون تميزًا في أي من القدرات الخاصة كالقدرة الموسيقية والقدرة الميكانيكية، حتى مع عدم حصول هؤلاء الأفراد على درجات مرتفعة في أي من اختبارات الذكاء أو اختبارات القدرة على التفكير الابتكاري.

واستمر الوضع كذلك حتى ظهور نظرية الذكاءات المتعددة؛ التي غيرت النظرة إلى الذكاء، حيث يمكن القول إن فكرة إعادة النظر في الذكاء وتعدديته التي أوجدتها نظرية جاردنر قد ساعدت على إعادة تعريف الموهبة أو تعدد المواهب في ضوء تعدد الذكاءات.

نظرية الذكاءات المتعددة

في عام 1979 طلبت مؤسسة برنارد فان لير الهولندية The Bernard Van Leer Foundation من جامعة هارفارد Harvard University القيام بإنجاز بحث علمي يستهدف تقييم وضعية المعارف العلمية المهتمة بالإمكانات الذهنية للإنسان، وإبراز مدى تحقيق هذه الإمكانات واستغلالها. في هذا الإطار بدأ فريق من الباحثين من ذوي الاختصاصات المتنوعة في دراسات استغرقت عدة سنوات، وهكذا تم البحث في مجالات التاريخ الإنساني والفلسفي وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية، إضافة للقاءات دورية تناولت قضايا تتعلق بمفهوم النمو في مختلف الثقافات البشرية.

وكان هوارد جاردنر Howard Gardner واحدًا من هذا الفريق البحثي بصفته أستاذًا لعلم النفس التربوي، ومن المهتمين بدراسة مواهب الأطفال وأسباب غيابها لدى الراشدين الذين حدثت لهم بعض الحوادث التي تسببت في إحداث تلف بالدماغ (أحمد أوزي، 2003) (Gardner,2003). وقد لاحظ جاردنر شيئًا مختلفًا؛ إذ لم يكن مُفسرًا من خلال نظرة القياس النفسي للذكاء حيث ذكر: "إن الفرصة اليومية للعمل مع الأطفال والبالغين الذين لديهم ضرر بالمخ طبع في ذهني حقيقة واحدة عن الطبيعة الإنسانية وهي: أن الناس لديهم مدى واسع من القدرات، وأن قوة الإنسان في نطاق واحد من الأداء لا تتنبأ بأي قوة في نطاق آخر" (Viens, 2000).

وكان على هوارد جاردنر أن يكتب كتابًا عما توصل إليه عن المعرفة البشرية خلال الاكتشافات في العلوم السلوكية والبيولوجية، وكان هذا الكتاب الذي نُشر لأول مرة عام 1983 هو "أشكال من العقل.. نظرية الذكاءات المتعددة" "Frames of Mind.. The Theory of Multiple Intelligences" ومن هنا وُلدت نظرية الذكاءات المتعددة. وقد ضمّن جاردنر في كتابه الأول سبعة ذكاءات منفصلة هي: الذكاء اللفظي/اللغوي- الذكاء المنطقي/الرياضي– الذكاء البصري/المكاني– الذكاء الجسمي/الحركي– الذكاء الموسيقي– الذكاء التفاعلي– الذكاء الشخصي. ويذكر جاردنر (Gardner, 2003) أنه في عاميّ 1994و 1995 قام بمراجعة الأدلة على وجود ذكاءات جديدة مما جعله يضيف ذكاءً ثامنًا جديدًا إلى قائمة ذكاءاته والذي كان الذكاء الطبيعي، كما كانت تلك الفترة هي بداية التفكير في الذكاء الوجودي –لم يتم ضمه بعد إلى قائمة الذكاءات- .

ومنذ نشأتها حملت تلك النظرية اختلافًا كبيرًا عما قبلها فلم يصبح يدور الحديث حول "إلى أي حد أنت ذكي" بل تحول إلى "في أي مجال أنت ذكي" It is not how smart you are.. It is how you are smart! (McKenzie, 1999b).

الذكاء Intelligence - كما تنظر إليه نظرية الذكاءات المتعددة- :

تضع نظرية الذكاءات المتعددة تعريفًا واسعًا للذكاء، فيعرفه جاردنر (Gardner, 1983 as cited in Kallenbach and Viens, 2001; Gardner, 1983 as cited in Torff and Gardner, 1999, p.140; Gardner, 1983 as cited in Tapping into Multiple Intelligences page, n. d.; Gardner, 1997 in Chekley, 1997; Gardner as cited in McKenzie, 1999a) وجاردنر وهاتش (Gardner and Hatch, 1989 as cited in Brualdi, 1996) بأنه "القدرة على حل المشكلات أو تكوين المنتجات التي تكون ذات قيمة في ثقافة أو أكثر"، كما يذكر جاردنر (ترجمة محمد العقدة، 1997، ص 396) أن الذكاء هو قدرة سيكولوجية (نفسية) وبيولوجية (حيوية) كامنة، وأن هذه القدرة الكامنة يمكن أن تتحقق بدرجات متفاوتة نتيجة عوامل خبراتية وثقافية ودافعية تؤثر على الفرد.

وحديثًا عدّل جاردنر (Gardner, 1999, p.34) تعريف الذكاء ليصبح كالآتي: "هو إمكانية نفس حيوية لمعالجة المعلومات، التي يمكن تنشيطها في بيئة ثقافية؛ لحل المشكلات، أو ابتكار المنتجات ذات القيمة في ثقافة ما".

إن تعريف الذكاء على أنه القدرة على حل المشكلات ليس إسهامًا جديدًا في علم النفس المعرفي يحسب لجاردنر، لكن بالرغم من ذلك فقد ساهمت نظريته في إيضاح هذا التعريف؛ ذلك أنه كثيرًا ما كان يوجه النقد إليه. يذكر سيد خير الله وآخرون (1984/1985، ص 203) "أن هذا التعريف يفترض وجود علاقة بين الذكاء والقدرة على حل المشكلات، رغم أنه لا توجد في الحقيقة قدرة واحدة تقوم بحل جميع أنواع المشكلات، والقدرة على حل مشكلة خاصة تتضمن عوامل خاصة بالمشكلة التي يُراد حلها، وعلى ذلك تختلف القدرة على حل مشكلة رياضية عن القدرة على حل مشكلة بإجراء عملية جراحية. وبصورة عامة يوجد عدد من القدرات قدر ما يوجد من مشكلات". ولقد كان هذا بالطبع النقد الذي وُجه لهذا التعريف في ضوء الاعتقاد بأن الذكاء هو قدرة عامة، لكن من خلال منظور جاردنر للذكاءات المتعددة لا يوجد أي تعارض.

كيف يختلف الذكاء في ضوء هذه النظرية عن التعريف التقليدي للذكاء؟

- تعريف جاردنر يجعل الذكاء في حل مشكلات العالم الحقيقي وصنع المنتجات، فنظرية الذكاءات المتعددة تقوم على فهم كيف تؤثر ذكاءات الناس حقيقة، فهي تضع الذكاء في وضعية ما يستطيع الناس عمله.

- يقترح هذا التعريف تعبيرًا كيفيًا ووصفيًا لمجموعة ذكاءات الفرد أكثر منه تعبيرًا كميًا للقدرة المتكاملة، وهو في ذلك يخالف درجات الذكاء التي يتم الحصول عليها من اختبارات معامل الذكاء (Viens, 2000).

- لأول مرة نجد تعريفًا للذكاء يركز على صنع المنتجات وابتكارها، حيث كانت كل التعريفات السابقة للذكاء تركز على حل المشكلات فقط. وإذا كان موراي وجلفن (Murray & Glivn, 1959) (في إحسان آدم وعبد الرحيم دفع، 2007، ص 31) يعرفان الإبداع بأنه العملية التي ينتج عنها حدوث مركب جديد ذو قيمة، فإننا نرى في تعريف جاردنر للذكاء ما يمثل محاولة للتقريب بين مفهوم الذكاء ومفهوم الموهبة والإبداع. أو لنقل إن تعريف جاردنر يوحد بين مفهوميّ الذكاء والإبداع، أو لعله يوضح فكرة تعددية الإبداع؛ فكما أن الذكاء متعدد فالإبداع أيضًا متعدد، وقديمًا ذكر جيلفورد (Guilford, 1965) أنه لا ينبغي أن ننخدع بوجود إصطلاح واحد يعبر عن الإبداع مما يوهم بأنه يشير إلى شيء واحد، إذ لا يوجد شخصان مبدعان بنفس الطريقة، فبالإضافة إلى الفروق في درجة ما لدى الأفراد من عوامل الإبداع –في المجال الواحد من مجالات النشاط- توجد فروق كيفية في نوع النشاط. كما لاحظ بيرت (Burt, 1962) أنواعًا من العبقرية مختلفة باختلاف المجالات التي يتجلى فيها السلوك الإبداعي.

- الذكاء هو مصطلح لتنظيم ووصف القدرات الإنسانية في علاقتها بالسياقات الثقافية التي تتطور فيها هذه الذكاءات وتستخدم وتعطى معنى (Torff and Gardner, 1999, p.218). فلأول مرة في تعريف للذكاء نجد تركيزًا على تقدير الذكاء في ثقافات مختلفة اعتمادًا على احتياجات الناس الاجتماعية والاقتصادية، فجاردنر يرى ذكاءاته كإمكانيات محتملة عصبية، والتي سوف تنشط أو لا تكون نشطة، اعتمادًا على قيم ثقافية محددة والفرص المتاحة في تلك الثقافة والقرارات الشخصية التي يقوم بها الأفراد والمحيطون بهم. يسوق جاردنر (Gardner,1991 as cited in Carlson- Pickering, 2001) أمثلة على ذلك.. ففي المدارس القديمة كان يتعين على الأفراد أن يحفظوا عن ظهر قلب نصوصًا هامة –دائمًا دينية- إن تلك الأنماط من المهام تكون دليلًا على الحاجة لاستخدام ذكاء الفرد اللغوي، المثال الثاني يضربه جاردنر من غرب أفريقيا حيث توجد مدارس تدرس التلاميذ الممارسات التي سوف يحتاجونها لأداء الطقوس الاحتفالية الأولية وكذلك الحِرف ذات القيمة في مجتمعهم، وأخيرًا فإن التلاميذ في جنوب البحار يجب أن يحفظوا عن ظهر قلب مقادير ضخمة من المعلومات عن النجوم من أجل أن يكونوا قادرين على أن يبحروا في المحيط بأمان.

وترى الباحثة في اهتمام جاردنر بأثر السياق الثقافي الذي يحيا فيه الفرد على الذكاء محاولة أخرى للتقريب بين مفهوم الذكاء ومفهوم الموهبة والإبداع؛ حيث أنه إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي يُشار فيها إلى ذلك الأثر في تعريف الذكاء، فقد سبق وأن أشير إليه في الحديث عن الإبداع، حتى بالنسبة لإبداع فرد بذاته. يذكر عبد الحليم محمود (1971، ص 64) أنه يلاحظ أن الأعمال الإبداعية –علمية كانت أو فنية- التي تصدر عن فرد مبدع في ظروف معينة قد تختلف كثيرًا في جوانب الإبداع الأساسية عن أعمال أخرى صدرت عن نفس الشخص في ظروف أخرى.

وتعلق هولمز (Holmes, 2002) على تعريف جاردنر: إن الذكاء هو طريق التعلم لفهم العالم الذي نحيا فيه. الذكاءات أيضًا هي الوسائل التي من خلالها نظهر ما نعرفه، فمن خلالها نحل المشكلات ونساهم في العالم على اتساعه.

مبادئ النظرية

من خلال كتابات جاردنر على سبيل المثال..(Gardner, 1997 in Chekley, 1997; Gardner, 1996 as cited in koch, 1996; Gardner, 2001; Gardner, 2003) وكتابات غيره من علماء النفس (Brualdi, 1996; McKenzie, 1999a; Morris, 2003; Multiple Intelligences for Adult Literacy and Education page, n. d; Tapping into Multiple Intelligences page, n. d.; Torff and Gardner, 1999, pp. 152- 153; Viens, 2000) وإسماعيل الدرديري ورشدي فتحي (2001، ص 81) ومحمد الشيخ (1999، ص 284) تحدد الباحثة المبادئ الأساسية لنظرية الذكاءات المتعددة في:

- الذكاءات متعددة، وليس الذكاء قدرة واحدة عامة أو مكونة من تجمع قدرات منفصلة.

- هذه الذكاءات تحدد الجنس البشري، فهي عالمية.

- كل الناس يمتلكون الذكاءات الثمانية، أو على حد قول جاردنر (Gardner,2003) "الذكاء صفة مميزة لكل البشر". ولا يوجد أحد يستخدم ذكاءً واحدًا فقط فنحن جميعًا نستخدم كل منها في حياتنا اليومية.

- أي من تلك الذكاءات الثمانية ليس أفضل من الذكاءات الأخرى، وكل ذكاء له مجاله الخاص من الخبرة.

- لدى كل شخص تكوين فكري مختلف، فالذكاء بعد يختلف على أساسه البشر –مثل بصمات الأصابع- ، من ثم فإن كل الأفراد يختلفون في بروفيلاتهم الخاصة للقوى والعيوب العقلية، ولا يوجد اثنان –حتى التوائم المتماثلة- يمتلكان نفس بروفيل الذكاءات في نفس اللحظة، فنحن لا نملك نفس القوة في نطاق نفس الذكاء ولا نملك نفس المزيج من الذكاءات، مما يعني أن الفروق لا تكون بين الأفراد فقط Inter- Individual بل في الفرد ذاته أيضًا Intra- Individual. ولابد أن تكون لدى كل شخص ذكاءات مرتفعة وأخرى ضعيفة. وهذا الرأي يماثل ما لاحظه عبد الحليم محمود (1971، ص 65) من أن القاعدة –وليس الاستثناء- أن يكون لدى الشخص المبدع قدرات إبداعية معينة مرتفعة، وقدرات أخرى منخفضة، أما الشخص الذي تكون قدراته الإبداعية جميعها تقريبًا مرتفعة مثل ليوناردو دافنشي إنما يمثل استثناءً نادرًا.

- تقع هذه الذكاءات في أماكن مختلفة من المخ، أي أنها منفصلة تشريحيًا عن بعضها البعض.

- هذه الذكاءات تكون مستقلة نسبيًا؛ فهي مستقلة لعدم ارتباط أي قدرة بوضوح بالقدرات الأخرى، فمعرفة قوة أو ضعف أي فرد في نطاق ذكاء ما لا يمكن أن يكون منبئًا بالقوة أو الضعف في نطاق ذكاء آخر، لكن استقلالها مع ذلك يكون نسبيًا؛ حيث يدعي جاردنر أنها نادرًا ما تعمل وتحدد أثرها بشكل مستقل. على الأصح فإنها تكون مستخدمة بتزامن وبنموذجية وتكمل كل منها الأخرى عندما يطور الأفراد المهارات أو يحلون المشكلات التي تواجههم على أرض الواقع، فاستقلالها التشريحي لا يكون مانعًا للتبادل والمشاركة بل يجعلها تعمل في تناغم لإنتاج ما يمكن تسميته بالسلوك الذكي في الحياة. وترى الباحثة أن رؤية جاردنر للذكاءات باعتبارها قدرات مستقلة تشريحيًا في المخ تعمل بشكل مترابط متكامل يعني أنه يتفق ضمنًا وما ذكره ثورنديك من أن الروابط العصبية بين أجزاء المخ لها دور هام في تحديد مستوى الذكاء.

- الفروق الفردية في الذكاءات تكون نتاجًا مشتركًا لكل من العوامل الوراثية والخبراتية، وفي ذلك يتفق جاردنر في الرأي الذي يفترضه تقريبًا كل الباحثين؛ فخبرات الإنسان تؤثر في الدرجة التي يمكن التعبير بها عن كل ذكاء مثلما تؤثر العوامل الوراثية، فقد يكون لديك أفضل مورثات في العالم لكن إذا لم تتعرض لخبرات موسيقية فإن ذكاءك الموسيقي لن يتطور، كما أنه بينما تكون ذكاءات خاصة متطورة لدى العديد من الأشخاص في ثقافة ما.. لا تكون تلك الذكاءات نفسها متطورة لدى الأفراد في ثقافات أخرى؛ ذلك أن المجتمعات تقدر أنماطًا مختلفة من الذكاءات. بناءً عليه، تضيف هذه النظرية عاملًا ثالثًا رئيسيًا مسهمًا في نمو الذكاء وهو الخلفية الثقافية والتاريخية للفرد، والتي تضم المكان والزمان الذي نشأ فيه الشخص وطبيعة التطورات الثقافية أو التاريخية وحالتها في المجالات المختلفة.

- يجب أن يُفسر الذكاء الإنساني في علاقته بالسياق الثقافي المحيط، فذكاءاتنا تعكس طرقًا مختلفة للتفاعل مع العالم.

- كل ذكاء يتضمن قدرات فرعية أو مظاهر مختلفة.

- باستطاعة كل فرد أن يعبر عن كل ذكاء بأكثر من طريقة، على سبيل المثال فإن كون الفرد أميًا –لا يستطيع القراءة- لا يعني أنه ليس باستطاعته رواية القصص، فكلاهما طريقتان مختلفتان تعبران عن الذكاء اللغوي.

- هذه النظرية لا تقصي أو تستثني أفرادًا، بل تسمح لكل الناس بالمشاركة في المجتمع من خلال قواهم الخاصة وتمنحهم الفرصة كي يكونوا مبدعين.

- يمكن لهذه الذكاءات أن تُنمى وتقوى أو تُتجاهل وتضعف، ويتوقف هذا على توفر الدوافع لدى الفرد والتشجيع/التثبيط من المحيطين به وتوفر/عدم توفر التدريب المناسب، وعليه فإن بروفيل ذكاء الفرد يكون قابلًا للتغير، فنحن نستطيع جميعًا أن نُحسن كل الذكاءات، رغم أن بعض الناس تتحسن بسهولة (بسرعة) في نطاق ذكاء أكثر من الذكاءات الأخرى؛ إما لأن الحياة أعطتهم عقلًا أفضل في ذلك الذكاء أو لأن ثقافتهم أعطتهم معلمًا أفضل.

- معرفة الفرد ببروفيل ذكائه تصل به لمستوى أفضل من الفهم أو لمستوى أعلى من المهارة.

- بما أن الناس جميعًا ليس لديهم نفس الاهتمام ونفس القدرات فنحن لا نتعلم بنفس الطريقة، كما أن العصر الذي نعيشه لا يمكن أن يتعلم الفرد فيه كل شيء يمكن تعلمه.

- يمكن أن نُحسن التعلم بمخاطبة الذكاءات المتعددة لتلاميذنا عن طريق تفهم الأساليب المتنوعة التي يمكن أن يتعلموا بها وأن نحترم اختلافاتنا، لأن مجموعة ذكاءات كل تلميذ تحدد إلى أي مدى تكون السهولة أو الصعوبة للتلميذ ليتعلم المعلومات عندما تُقدم في نسق تعليمي معين، ويمكننا إيجاد العديد من الأنساق التعليمية في الفصل الدراسي الواحد.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم