دراسات وبحوث

كيف عني نحاة الأندلس بالثقافة المنطقية؟ (3)

محمود محمد علينعود للجزء الثالث من مقالنا عن مدي عناية نحاة الأندلس بالثقافة المنطقية فنقول: "وليس أدل علي صدق هذا القول مما ذهب إليه الجويني في كتابه "البرهان" من نقد للمذهب الظاهري، حيث يقول عن رفض الظاهريين للقياس الفقهي، وقد استجرا علي جحد هذه الأقيسة أقوام يعرفون بأصحاب الظاهر، ثم أنهم تحزبوا أحزاباً، وتفرقوا فرقاً: فعلا بعضهم وتناهي في الانحصار علي الألفاظ، وانتهي الكلام إلي أن قال: فمن بال في إناء وصبه في ماء، لم يدخل تحت نهي الرسول عليه السلام، إذ قال "لا يبلون أحدكم في الماء الداكن، وهذا عند ذوي التحقيق جحد الضرورات ويستحق منتحله المناظرة، كالعناد في بدائة العقول .

ومما يحكي في هذا الباب جري لابن سريج مع أبي بكر ابن داود، قال له ابن سريج: أنت تلتزم الظاهر، وقد قال الله تعالي:" فمن يعمل مثال ذروة خير يره"، فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين، فقال مجيباً: الذرتان ذرة وذرة . فقال ابن سريج، فلو عمل مثقال ذرة ونصف، فتبلد، وظهر خزيه، وبالجملة لا ينكر هذا إلا أخرق ومعاندته .

العامل الثاني: ويتمثل في جرأة ابن حزم وقسوته علي معارضيه من الأشاعرة، لقد كان ابن حزم صارما في جدله، مفحما في حجته، لا يأخذ خصومه الأشاعرة في هوادة، ولا يخاطبهم في لين، وليس أدل علي ذلك من نقده لمسألة السببية، حيث يقول:" ذهبت الأشعرية إلي إنكار الطبائع جملة، وقالوا ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في العالم طبيعة أصلاً، وقالو إنما حدث حر النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة، وقالوا ولا في الخمر طبيع إسكار . قال ابن حزم ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلاً . وهذا المذهب الفاسد حداهم علي أن يسموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة . لأنهم جعلوا امتناع شق القمر وشق البحر وامتناع إحياء الموتى، إنما هي عادات فقط، قال ابن حزم معاذ الله من هذا، ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجازا أصلا .

ثم يضيف:" وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز وجل، فرتب الطبيعة علي أنها لا تستحيل أبداً، ولا يمكن تبديلها عند كل ذي عقل، لأ، من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي له لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر، التي إن زالت عنها صار خلا وبطل اسم الخمر عنها . وهذا كل شئ له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة .

العامل الثالث: ويتمثل في أن كتاب " التقريب لحد المنطق " لأبن حزم، قد نظر إليه معظم الباحثين والمؤرخين من زاوية ما إذا كان محتوي الكتاب يفيد أن ابن حزم مع أو ضد المنطق اليوناني، وذلك دون اهتمام بنوعية القراءة التي قام بها مؤلفه لمنطق أرسطو، والتي هي قراءة تعكس عنف المواجهة والاصطدام بين فكر ابن حزم الفقيه وفكر أرسطو الفيلسوف .

ومما يدل علي ذلك ما ذكره صاعد الأندلسي (ت: 462هـ)، حيث قال: ... وممن اعتني بصناعة المنطق، خاصة من سائر الفلسفة أو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، فعني بعلم المنطق، وألف فيه كتاباً سماه " التقريب لحد المنطق "، بسط فيه القول علي تبيين طرق المعارف، واستعمل فيه أمثلة فقهية، وجوامع شرعية، وخالف أرسطوطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله من لم يفهم غرضه، ولا أرتاض في كتابه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط، بين السقط، وأوغل بعد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة، حتي نال منها ما لم ينله أحد قط بالأندلس قبله .

العامل الرابع: ويتمثل في أن الفترة التي عاش فيها ابن حزم، كانت فترة لا يزال ينظر فيها إلي مؤلفاته بعين السخط والاستهجان والإغفال والترك، زيادة في الحرق والتمزيق، وفي هذا يقول ياقوت الحموي ( ت: 626هـ) نقلاً عن أبي مروان ابن حيان:" كان ابن حزم حامل فنون وفقه وجدل ونسب ما يتعلق بأذيال الأدب مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة .. ولا سيما المنطق فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في شكوك المسالك  وخالف أرسطو طاليس واضعه مخالفه من لم يفهم غرضه ولا أرتاض، ومال أولاً النظر به في الفقه إلي رأي الإمام الشافعي رحمه الله وناضل عن مذهبه، وانحرف عن مذهب سواه حتي وسم به ونسب إليه فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء وعيب بالشذوذ . ثم عدل في الأخر إلي قول أصحاب الظاهر مذهب "داود بن علي"، ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، وكان يحمل عمله هذا ويجادل من خالفه فيه علي استرسال في طباعه، وبذل بأسراره .فلم يك يلطف صدعه (أي قوله وجهره)، بما عنده بتعريض، ولا يرقه يتدريج، هبل يصك به معارضه صك الجندل (أي الحجر) وينشقه متلقعه (المتلقع: الذي يرمي الكلام رمياً) إنشقاق الخردل، فنفر عنه القلوب، وتوقع به الندوب، حتي استهدف إلي فقهاء وقته فمالوا علي بغضه ورد أقواله، فأجمعوا علي تضليله، وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من فتنه، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، والعمل علي حرق كتبه، فأحرق بعضها باشبيلية ومزقت لانية.

من هذا النص يتضح لنا كيف قوبل الفكر الحزمي بعين الشخط والاستهجان والإغفال، زيادة علي الحرق والتمزيق، مما يفوت علي الباحثين والمفكرين المنصفين فرصة الحصول علي نسخ من مؤلفاته . ومن ثم لم تحظ كتب ابن حزم المنطقية والفقهية واللغوية بالأهمية التي كان ينبغي أن تحظي بها . ولذلك نلاحظ أن ابن خلدون لا يذكر كتاب " التقريب لحد المنطق " في الفصل الذي خصصه في " المقدمة"، وبالذات في الفصل الذي عقده عن " علم المنطق" . كما لا يذكر كتاب "الإحكام في أصول الأحكام " في الفصل الذي خصصه في " المقدمة " لعلم أصول الفقه وأركانه هي الكتب الأربعة التي ألفها كل من " الجويني" و" الغزالي" و" القاضي عبد الجبار" و" أبي الحسين البصري "، وهي علي التوالي " البرهان"، " المستصفي"، " العٌمد"، " المعتمد" في أصول الفقه .

العامل الخامس: إن بعض الفقهاء المتعاطفين مع ابن حزم والذين ينظرون إليه بعيون سلفية، من أمثال ابن تيمية، ينكرون عليه أنه صاحب فكرة مزج الفقه بالمنطق وينسبون الفضل في ذلك للأشاعرة وبخاصة الغزالي . يقول ابن تيمية:" لم يكن أحد من نظار السلمين يلتفت إلي طريق المنطقيين، بل الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وسائر الطوائف، كانوا يعيبونها ويثبتون فسادها، وأول من خلط المنطق بأصول المسلمين (يعني علم أصول الفقه) أبو حامد الغزالي، فتكلم فيها علماء المسلمين مما يطول ذكره.

تلك هي أهم العوامل التي أدت إلي عدم اعتبار الباحثين والمؤرخين ابن حزم صاحب مشروع مزج الفقه بالمنطق، مع العلم بأنه الأصولي الحقيقي السابق إلي مزج الفقه بالمنطق في الفكر الإسلامي، وليس الغزالي كما يزعم البعض.

وأياً ما كان الأمر بخصوص النزاع حول الأولوية بين " ابن حزم" و" الغزالي"، في مزج الفقه بالمنطق، ومع تأكيدنا علي رد هذه الأولوية إلي " ابن حزم"، فإن ذلك لا يحول بيننا وبين القول بأن الجهد الذي قام به " ابن حزم" في سبيل مزج المنطق بالفقه، بقطع النظر عن قيمته الموضوعية، وبقطع النظر عن مدي تناسق دعوته هذه مع موقفه العام من الفلسفة اليونانية الذي رفض فيها إلهياتها، وقبل منها المنطق، بقطع النظر عن ذلك كله،  فلم يكتب له النجاح بسبب موقف الكثيرين من معاصري ابن حزم الذين وقفوا من المنطق الأرسطي موقفاً عدائياً، سواء أكان ذلك لظنهم بأن كتب أرسطو محتوية علي الكفر وناصرة للإلحاد أم لاعتقادهم بأنها هذر من العقول (والناس أعداء ما جهلوا)، أم لعجزهم عن فهمها والإحاطة بمعانيها، الأمر الذي أدي في النهاية إلي التقليل من قيمة الجهد العلمي الذي قام ابن حزم، حينما حاول تقريب المنطق إلي أذهان العامة من الناس، ولذلك وجدنا الكثير من المؤرخين ينتقدون مشروع ابن حزم في التقريب، ولينظر القارئ ما ذكره " الحميدي" في جذوة النفس علي سبيل المثال وهو يقول عن كتاب: التقريب " لابن حزم بأنه:" ... سلك في بيانه، وإزالة سوء الظن عنه، وتكذيب الممخرقين به، طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمنا"، وكذلك ما قاله عن هذا الكتاب أيضاً صاعد الأندلسي في معرض حديثه عن ابن حزم، إذ قال:" فعني بعلم المنطق، وألف فيه كتاباً سماه التقريب لحدود المنطق، بسط فيه القول علي تبيين طرق المعارف، واستعمل فيه أمثلة فقهية، وجوامع شرعية، وخالف أرسطوطاليس، واضع هذا العلم، في بعض أصوله، مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتبه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط، بين السقط ".

ونفس النقد وجهه النحوي المعروف بأبي حيان ألأندلسي (654- 745هـ) معاصر " ابن حزم"، وإن لم يشر إلي كتاب التقريب، إلا أننا نراه يتحدث عن خروج ابن حزم علي قواعد المنطق الأرسطي فيقول:" كان أبو محمد حامل فنون: من حديث وفقه وجدل ونسب وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة، غير أنه لم يخلو فيها من الغلط والسقط، لجرأته في التسور علي الفنون، لا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في سلوك تلك المسالك، وخالف أرسططاليس واضعه، مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتبه.

والسؤال الآن: هل اصطناع ابن حزم مصطلحات منطقية جديدة يعد سبباً كافياً للقول بأن كتابه في المنطق " كثير الغلط، بين السقط" أو هل يكون في تحاشي ابن حزم لاستعمال الحروف والرموز في التعبير عن القضايا، مبرر كاف بأنه خالف أرسطو، مخالفة من لا يفهم غرضه ولا ارتاض في كتبه . ويبدو لنا أن مجرد الإكثار من إيراد الأمثلة الشرعية لا يكفي للطعن في قيمة الجهد الذي قام به ابن حزم، حينما حاول تقريب المنطق إلي أذهان العامة من الناس، كما أن تجنب التمثيل بالحروف والرموز لا ينطوي في حد ذاته علي أي مخالفة خطيرة بررت في ظنهم الحكم علي صاحب هذا الكتاب بأنه لم يفهم أرسطو ولم يدرك دلالة منطقه .

والحق أننا لو أنعما النظر إلي هذه الانتقادات التي وجهها هؤلاء المؤرخون لابن حزم لتبين لنا أن القضية ليست قضية الأخطاء التي وقع فيها ابن حزم في فهمه لمرامي وأغراض المنطق الأرسطي بقدر ما هي مسألة نفسية، فهؤلاء المؤرخون ليسوا علي علم بالمنطق الأرسطي وخباياه ومسالكه ودروبه وتشعباته وتدقيقاته، ولذلك فإن انتقاداتهم كانت بسبب تمسك ابن حزم بالنزعة الظاهرية الذي تمسك بها  في الفقه، والتي أدت به إلي إنكار مبدأ العلية وتجنب استعمال لفظ القياس ...الخ .

علي أية حال فإنه إذا كانت الأقدار قد شاءت بأن لا تحظي محاولة ابن حزم في كتابة التقريب بالقبول لدي الأندلسيين، فإن محاولة أبو حامد الغزالي قد كان له من النجاح في إدخال المنطق إلي حظيرة العلوم الإسلامية، فمنذ أواخر القرن الخامس الهجري اتجه الكثير من مفكري الأندلس علي اختلاف تخصصاتهم إلي " دراسة المنطق اليوناني، وخلطوه بأصولهم ونحوهم وتكلموا فيه بما يطول ذكره" .

وما يهمنا هنا موقف فقهاء ونحاة الأندلس من دعوة الغزالي لمزج المنطق بالفقه، وهل استجابوا لها أم لا؟

كان معظم فقهاء ونحاة الأندلس من أتباع المذهب المالكي، وكان موقفهم في أول الأمر من توجه الغزالي نحو مزج المنطق بالفقه موقفاً سلبياً، حيث يذكر بعض المؤرخين، بأن كل العلوم عند الأندلسيين لها حظ كبير واعتناء إلا الفلسفة والمنطق والتنجيم، فإن لهم حظ عظيم عند خواصهم ولا يناظرهم بهم خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلق عليه اسم زنديق وقيدت أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة وأحرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أو يقتله تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما كان ملوكهم يأمرون بإحراق كتب الفلسفة والمنطق إن وجدت .

ويروي لنا " الحاج يوسف بن محمد بن طملوس (ت: 620هـ)" في حديثه عن زهد العلماء بالأندلس في صناعة المنطق، إذ يقول:" فإني رأيتها مرفوضة عندهم مطروحة لديهم لا يحفل بها ولا يلتفت إليها، وزيادة إلي هذا أن أهل زماننا ينفرون منها ويرمون العالم بها بالبدع والزندقة، بل لقد بلغت معاداة الفقهاء للمنطق إلي حد أن " أهل المنطق بجزيرة الأندلس كانوا يعبرون عن المنطق بـ" المفعل" تحرزاً من صولة الفقهاء، حتي أن بعض الوزراء أراد أن يشتري لأبنه كتاباً في المنطق فاشتراه خفيه خوفاً منهم" .

ولهذا السبب يذكر "ابن طملوس"، أن الإمام الغزالي، حينما كتب في المنطق، لم يعرض أبحاثه المنطقية تحت اسم المنطق، ولكن تحت أسماء أخري "كـ" المعيار" و" المحك" و"الميزان"، وذلك لكي يتفادي غضب الفقهاء ومحاربتهم له، فانتشرت كتبه في الأرض علي عكس الفارابي، وذلك بعد جهد جهيد . فلقد قوبلت كتب الغزالي في أواخر دولة المرابطين بالإعراض والتبرم، حيث يقول " عبد الواحد المراكشي (ت: 647هـ)":" ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله بالمغرب، أمر أمير المسلمين " علي بن يوسف بإحراقها، وهدد بالوعيد الشديد، من سفك الدماء، واستئصال المال، إلي من وجد عنده شئ منها، واشتد الأمر في ذلك "، ويقول أيضاً ابن طملوس " ولما امتدت الأيام وصل إلي هذه الجزيرة كتب أبي حامد الغزالي متفننه، فقرعت أسماعهم ( أي أهل الأندلس) بأشياء لم يألفوها ولا عرفوها، وكلام خرج به عن معتادهم من مسائل الصوفية وغيرهم من سائر الطوائف الذين لم يعتد أهل الأندلس مناظرتهم ولا محاورتهم، قبعت عن قبوله أذهانهم، ونفرت عنه نفوسهم، وقالوا إن كان في الدنيا كفر وزندقة، فهذا الذي في كتب أبي حامد الغزالي .

وإذا كان هذا النفور قد نشأ نتيجة عما آل إليه أمر الغزالي من النـزعة الصوفية، تلك التي بدت غريبة كل الغرابة عن أذهان أهل المغرب في ذلك العهد، إلا أن الأقدار قد شاءت أن يدرس علي يد الغزالي إثنان من المغاربة الأندلسيين، أصبحا من ألمع الرجال في ذلك العصر، وإنتهت إلي أحدهما رئاسة العلم بما فيه الفقه بالمغرب، ووضع الثاني مذهباً إصلاحياً سياسياً، كان أساساً لقيام دولة من أعظم ما عرف بلاد المغرب العربي، بل بلاد الإسلام، وقد تأثر الرجلان بتفكير الغزالي وبعلمه، وعمل كل بطرفه علي نشر ذلك وتدعيمه بالغرب .

أما أول الرجلين، فهو " أبو بكر بن عبد الله بن العربي (468هـ - 543هـ)  الفقيه المالكي الأشعري، فقد إلتقي بالغزالي في رحلته العلمية إلي المشرق العربي، وتتلمذ عليه ولازمه مدة ودرس عليه بعض كتبه . وقد ذكر هو نفسه ذلك إذ قال:" قرأت عليه جملة من بعض كتبه وسمعت كتابه الذي سماه بالإحياء لعلوم الدين" .

ومن المؤكد أن يكون من بين تلك الكتب بعض كتب الغزالي المنطقية، وذلك لأننا نجده يتكلم فيها كلام من خبرها وعرف محتواها، إذ يقول:" وأبدع (أي الغزالي) في استخراج الأدلة من القرآن علي رسم الترتيب في الوزن الذي شرطوه علي قوانين خمسة، بديعة في كتاب سماه ( القسطاس المستقيم) ما شاء، وأخذ في "معيار العلم " عليهم طريق المنطق، فرتبه بالأمثلة الفقهية والكلامية، حتي محا فيه رسم الفلاسفة، ولم يترك لهم مثالاً ولا ممثلاً، وأخرجه خالصة عن دسائسهم، ثم أن الإمام ابن العربي، لما عاد إلي الأندلس من رحلته جلب معه كتباً للغزالي، ومن بينها كتبه المنطقية كـ " محك النظر" و" معيار العلم" .

وأما ثاني الرجلين فهو " محمد بن عبد الله بن تومرت (474هـ - 524هـ) الذي إرتحل إلي المشرق العربي لطلب العلم ودرس بمكة وبغداد ودمشق والإسكندرية . وقد قابل الغزالي وأخذ عنه المذهب الأشعري .

وقد أشار ابن خلدون إلي مكانة ابن تومرت فقال:" كان إماماً م أئمة العلم، ذا ملكة راسخة، وقوة علي النظر والجدل، بحيث يضاهي كبار الشخصيات العلمية البارزة، والتي ظهرت في المشرق لعهده من أصحاب لمقالات والمدارس في علمي الأصول والكلام، فضلاً عن تضلعه في الفقه والحديث " .

ويشير ابن خلدون إلي تأثر ابن تومرت بالمدرسة الأشعرية فكراً ومنهجاً، فيقول بأنه:" لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة (يقصد الغزالي) وأبو بكر الطرطوش وأبو العباس الجرجاني وأبو بكر الشاشي وغيرهم من فقهاء المدرسة النظامية في ذلك الوقت)، وأخذ عنهم واستحسن طريقتهم في الانتصار للعقائد السلفية والذب عنها بالحجج العقلية الدامغة في صدور أهل البدعة، وأنه ذهب إلي رأيهم في تأويل المتشابه من الآيات والأحاديث، بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه إقتداء بالسلف في ترك التأويل وإقرار المتشابهات، كما جاءت فطعن علي أهل المغرب ذلك وحملهم علي القول بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم، وألف في العقائد علي رأيهم مثل " المرشدة في التوحيد"، كما يذهب ابن طملوس فيقول:" ثم أن ابن تومرت عمل علي إفشاء آراء الغزالي، وندب الناس إلي قراءة كتبه ودراستها والعمل بها ".

يتضح لنا مما سبق أن ابن تومرت ومن قبله ابن العربي، لم يقم كل منهما مباشرة بإدخال المنطق في الدراسات الفقهية والنحوية، بل كان ابن العربي يري وجوب التحري في ذلك، لأنه إذا ما أسند إلي غير كفء باء بالضرر الكبير، وقد كان يوحي بذلك إلي تلاميذه إذ يقول لهم:" الذي آراه لكم علي الإطلاق أن تقتصروا علي كتب علمائنا الأشعرية، وعلي العبارات الإسلامية، والأدلة القرآنية، فإن أبا حامد ( يقصد الغزالي) وغيره، وإن لبس للحال معهم (أي الفلاسفة) لبسوها (باستعمال المنطق) وأخذ نعيمها ورفض بؤسها .. فليس كل قلب يحتمله .. فهو وإن كان سبيلاً للعلم ولكنه مشحون بالغرر.. أما أن الرجل إذا وجد من نفسه منه أو تفرس فيه الشيخ المعلم له ذلك، فلابد توقيفه علي مآخذ الأدلة .

كما أن ابن تومرت كان مصروفاً عن ذلك إلي وضع الأسس الإصلاحية العامة لقيام دولة الموحدين، ولكنهما قد مهدا الطريق تمهيداً إلي ذلك بما قد أفشيا عموماً من أفكار الغزالي، وكتبه وبما قد زكياه ودعوا إلي دراسته واحترامه وتبجيله .ولما كان ابن العربي شديد الأثر في جيل الفقهاء والعلماء من تلاميذه، ولما كان ابن تومرت صاحب سلطة روحية قامت عليها دولة الموحدين بأكملها، فإن الغزالي قد بدأ يكبر في عيون أهل المغرب والأندلس كما يذكر ابن طملوس " واختفي ما كان عساه أن يشكل شقاً لمعارضته بشدة، كما حدث بالمشرق، بل قد راجت كتبه، وأخذ الناس في قراءتها وأعجبوا بها وبما رأوا فيها من جودة النظام والترتيب الذي لم يروا مثله قط في تأليف، ولم يبق في هذه الجهات من لم يغلب عليه حب كتب أبي حامد الغزالي ".

ومن بين تلك الكتب كتبه في المنطق، ويظهر أن كتب المنطق قبلها لم تصل بلاد المغرب إلا نادراً، كما يفهم من كلام ابن طملوس، حيث يقول:" فلما أردت مطالعتها (أي كتب المنطق) لم يكن يبدي قبلها كتاب أنظر فيه، غير أني عندما تصفحت كتب أبي حامد رأيت من تلويحاته وإشاراته، التي تكاد أن تكون تصريحاً أن له فيها تأليف، فأطلعت علي هذه الكتب المذكورة من كتب أبي حامد ".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم